الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات (242) الاستخبارات وتدوير المجتمعات (القسم الثاني)

بشير الوندي

2020 / 11 / 15
الارهاب, الحرب والسلام


مباحث في الاستخبارات (242)
الاستخبارات وتدوير المجتمعات (القسم الثاني)
------------
مدخل
------------
كانت خلاصة القسم الاول من مبحثنا (الاستخبارات وتدوير المجتمعات ) ان الاجهزة الاستخبارية انتبهت مبكراً الى ابتكارات تستطيع بها تطويع مجتمعات كاملة وشعوب من دون اللجوء الى القوة العسكرية , بحيث تصبح المؤسسة الاستخبارية هي المسؤول الاول عن غرفة العمليات, وذكرنا كيف افادت الاجهزة الاستخبارية من علوم تسيطر على ادمغة الافراد لتوسع برامجها الى خطوات وافكار للسيطرة على "الجموع " .
واستمراراً في حلقات مبحثنا سنتناول في القسم الثاني جوانب عملية للطرق الشيطانية في السيطرة على المجتمعات وحرف بوصلتها , وللاجابة على بعض التساؤلات التي طرحناها في القسم الاول من قبيل كون الاستهداف الفكري للشعوب هدف في حد ذاته ام وسيلة لغاية ؟ وماهية طبيعة العلاقة بين شكل النظام السياسي الحاكم والقدرة على استهداف المنظومة الفكرية لشعبه ؟ وهل ان الاستهداف الفكري هو استهداف خارجي دوماً , ام ان من الممكن ان يكون عملاً حكومياً داخلياً ؟ وماهي الآليات التي يتم من خلالها الاستهداف الفكري لشعب ما ؟ وما هو شكل البديل الفكري الذي يزرع مكانه ؟ هل ان هنالك قواعد علمية يقوم عليها هذا العمل بحيث نستطيع ان نشخصه حال حصوله على شعب ما ؟ , فيما سنترك الاجابة عن "الطرق الكفيلة بتسليح شعب ما من ان يُستهدف فكرياً" الى القسم الثالث والاخير من مبحثنا هذا .
--------------------
اتجاهات ثلاثة
--------------------
ان الاستهداف الفكري يتحدد وفق نتاجاته الى غاية او وسيلة , فالرسالات السماوية ترى الاستهداف الفكري الذي يمارسه الانبياء هو غاية بذاته وليست وسيلة لذا يعتمدون على الوسائل الاخلاقية والمنطق دون اخفاء الهدف النبيل في اصلاح المجتمع .
اما الدوائر الاستخبارية فتعتبر الاستهداف الفكري وسيلة , ولذا لاتمانع من استخدام اية وسيلة دون اعتبار للاخلاقيات , فلاتمانع في تحطيم بلدان ومجتمعات من اجل الهيمنة الاقتصادية او السياسية , وتخفي اهدافها الحقيقية من الاستهداف , وتنقسم نظرة الاجهزة الاستخبارية في موضوعة التعاطي مع الاستهداف الفكري للشعوب الى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الاول : تتبناه الاجهزة الاستخبارية الاجنبية المحترفة , وهو اتجاه هجومي يسعى الى ضرب الاساسات الفكرية ونسيج المجتمع المستهدف من خلال عدة محاور اساسية :
المحور الاول : دق الاسفين بين الشعب من جهة وبين السلطة الحاكمة .
المحور الثاني : يتمثل في قطع قنوات اتصال مجتمع ما بمنابعه الفكرية المؤثرة واسقاط رمزيتها وشيطنتها ,وتشجيعه على مهاجمتها وصم آذانه لتوجيهاتها وتنبيهاتها.
المحور الثالث : تثوير المجتمع تحت شعارات زائفة وبراقة تدعو الى التحرر من العبودية والتبعية , بحيث يبدو افراد المجتمع محلّقين في الهواء كالبالونات , اثر قطع ارتباطاتهم الفكرية وتمردهم على عاداتهم وتقاليدهم .
المحور الرابع : زرع اتجاهات وقناعات جديدة لدى المجتمع المستهدف بحيث يكون ظاهرها التجديد والتحرر وباطنها التبعية التي قد تصل في بعض النجاحات الاستخبارية الى ضرب اسس الاستقلال والوطنية والتغني بالاستعمار والدعوة له.
الاتجاه الثاني : تتبناه الاجهزة الاستخبارية الداخلية التابعة للدولة في النظم الشمولية والدكتاتورية كالنظام في الاتحاد السوفيتي المنحل او في دكتاتورية البعث السابق او في الانظمة الفردية الدكتاتورية في العالم الثالث , حيث تقوم الاجهزة الاستخبارية في تلك الدول بالاستهداف الفكري لشعوبها ولكن ضمن محاور مختلفة اهمها :
المحور الاول : التعبئة الفكرية الدائمة والداعمة للحزب الحاكم او لشخص الحاكم .
المحور الثاني : قولبة المجتمع المحكوم وقطع صلاته بالعالم الخارجي ومنع اي اتجاه فكري غير فكر الحزب الحاكم والقائد الضرورة.
المحور الثالث : تجييش المجتمع وعسكرته في كل فئاته العمرية ضمن برامج تلغي دور الاسرة والمعتقد مع سيطرة اعلامية داخلية محكمة.
المحور الرابع : سحق اي شكل من اشكال المعارضة واية دعوة للحرية , واستخدام طريقة العصا والجزرة وتدجين المجتمع .
الاتجاه الثالث : وهو الاتجاه الذي تعنى به الاجهزة الاستخبارية في الدول الديموقراطية التعددية والدول المضطربة والضعيفة والناشئة وذات التجارب الديموقراطية الحديثة , وتلك الاجهزة تعنى (او هكذا يجب ان تكون ) في التصدي للهجمات الاستخبارية الاجنبية التي تسعى لإستهداف شعوبها وهو ما سنتحدث عنها في القسم الثالث من مبحثنا.
-----------------------------------
طبيعة الشعوب المستهدفة
-----------------------------------
نستنتج من ذلك جملة امور اهمها :
1- ان الدول من النوع الثالث , هي من اكثر الدول استهدافاً من قبل الاجهزة الاستخبارية في مجال الاستهداف الفكري للشعوب , فالاستهداف الفكري لايتم في الديموقراطيات العريقة ولا ذات الشفافية العالية , فالدول المستهدفة في الغالب هي دول تعاني من الاضطراب السياسي وفساد مالي واداري مستشرٍ , ومن سوء خدمات وبطالة وفقدان للعدالة الاجتماعية , فالاجهزة الاستخبارية الاجنبية لاتحتاج الى مجهود كبير لضرب العلاقة بين الشعب والدولة فيها لان المجتمع ناقم بالاساس كما انها لاتحتاج الى الكثير من مكياجات التنكر لتظهر بمظهر المنقذ لتلك الشعوب من الظلم شريطة ان لاتستهدف الشعب والسلطة والفكر في دولة ما معاً , لأن النتيجة الحتمية ستكون بتكاتف الشعب مع حكومته , وهو الخطأ الذي ارتكبته داعش حين استهدفت الدولة والشعب والفكر معاً مما ادى الى تلاحم الشعب خلف الحكومة للوقوف امام الخطر الداهم .
2- ان تتوافر في البلد المستهدف امكانية , ولو كانت محدودة , في مجال حرية التعبير , ليسهل فيها التحشيد .
3- هذا لايعني ان الدول الدكتاتورية والشمولية بعيدة عن الاستهداف الخارجي لشعوبها , الا ان الاستهداف في تلك الحالة صعب جداً ويحتاج الى استعدادات هائلة وفترات زمنية طويلة – كما حصل في استهداف وتفكيك الاتحاد السوفيتي - والسبب في ذلك يتمثل بما يلي :
أ – ان الدول الشمولية والدكتاتورية – وكذلك الدول العقائدية – فيها الكثير من المصدات والعوائق لأي تحرك استخباري اجنبي تحت اي غطاء كان سواء كان بشكل منظمات مجتمع مدني او منظمات اغاثة او وفود اجنبية وغيرها .
ب- ان تلك الدول , هي دول متشككة ومتهيئة لكل عوامل التآمر , ومساحات الاعيب التعبير الديموقراطي فيها ضيقة للغاية.
ج – ان الدول الشمولية والعقائدية والدكتاتورية تمارس هي بذاتها نفس اللعبة على شعوبها , ومن ثمّ فإنها مدركة لكافة الاعيب الاستخبارات الاجنبية.
د- ان الدول الشمولية والدكتاتورية والعقائدية – وبالأخص الاخيرة منها – فيها منظومات فكرية راسخة مؤسسياً يصعب اختراقها
وبالرغم من ذلك حققت الاجهزة الاستخبارية الاجنبية بعض النجاحات ولكن بمجهودات مالية وعملياتية مرهقة قد تمتد لعقود كما هو الحال مع تفكيك الاتحاد السوفيتي , او بفسح المجال للقوة العسكرية كما في احتلال العراق , او الانقلابات العسكرية كما في تشيلي , او الحرب الاهلية كما في سوريا وليبيا .
4- تمتاز الدول التي توضع على قوائم الاستهداف الفكري الى ان تكون لها اهمية اقتصادية او سياسية او موقع استراتيجي او ان تكون عائق اساسي امام تنفيذ مخطط اكبر , ومن قبيل تلك الدول العراق ولبنان .
5- كلما امتاز المجتمع المستهدف بالتنوع العرقي والطائفي والديني والقومي كانت المهمة اسهل سواء في ضرب وتمزيق النسيج المجتمعي او من خلال الاتكاء على نوع معين كقاعدة عملياتية لتمزيق الآخرين .
----------------------------------------
خطوط عامة ووسائل لاتحصى
----------------------------------------
لايوجد كاتالوج محدد في الوسائل المستخدمة لاستهداف بوصلة الشعوب , الا ان هنالك خطوط عامة لاتحيد عنها الاجهزة الاستخبارية في عملياتها منها :
1- تقوم الاستخبارات الدولية بتصعيد الصراع بين منظومة الحكم والشعب وتشعل عاطفة الغضب المجتمعي ضد الدولة , وكلما كانت الدولة ضعيفة وفاشلة وتعاني من الازمات كلما سهلت المهمة في التأجيج الشعبي.
2- استغلال انشغال كل من السلطة والشعب في صراعهما , للتعاطي بكل جدية مع منابع وزعامات الفكر الراعية للعقائد الدينية والوطنية , فالاجهزة الاستخبارية ترى في تلك الزعامات وعموم الفكر عدوها الرئيسي لانه حاضنة التماسك المجتمعي , فيتم السعي لاضعاف الممثل الشرعي للفكر والتضييق عليه بطرق كثيرة منها :
أ - اصطناع ممثليات شرعية بجانبها , لمنعها من التفرد والهاءه بصراعات جانبية.
ب - ضرب مرتكزات الفكر التعبوية والتنظيمية والفكرية بوسائل الجدال والسخرية وابرازها كقيود لاتليق بحرية الانسان.
ج- احداث مناورات فكرية لإلهاء الفكر المستهدف من خلال مشاكل, كالإلحاد او المثلية , لتصبح قنابل دخان ملهية لتشغل الجميع عن المخططات الحقيقية .
د- ضرب حصانة المقدسات الفكرية من خلال بيئات دولية ومحلية والتجرؤ عليها واتهامها بالتخلف او بالفساد وبكنز الاموال او تبذيرها .
3- قبل ضرب المرتكزات الفكرية ورموزها , تجري الاجهزة الاستخبارية المعادية دراسة دقيقة لتحديد مدى تشكيل الفكر وفاعليته لدى المجتمع المستهدف , ومساحة الاشعاع الفكري للفكر المستهدف , وهل يقف عند طبقة ما او في منطقة جغرافية معينة او وسط طائفة معينة ؟ , كذلك يتم تقييم قوة الفكر واساسياتها هل هي تاريخية ام فكرية ام اقتصادية ام تعبوية ؟ , ثم دراسة ارتباط الفكر بخارج الخارطة الوطنية او القومية او المجموعاتية المستهدفة , فحين تستهدف الاستخبارات الاجنبية المرجعية في العراق فلابد من ان تدرس امتدادات تأثيراتها الخارجية لحساب ردود الافعال الخارجيةعلى استهدافها .
4- ضرب القيم المجتمعية باعتبارها مصدر منعة وقوة المجتمع كالشرع , الحرام والحلال , الاخلاق , ومفهوم العيب , وصولاً الى مرحلة تستطيع من خلالها نشر مفاهيم لااخلاقية ماكان للمجتمع ان يفكر مجرد تفكير في قبولها .
5- الاستغلال الامثل للتضاريس المجتمعية للنسيج الاجتماعي للبلاد واللعب على متناقضاتها .
6- بث روح اليأس والخوف من المستقبل وجعل الحياة والخدمات والاقتصاد شبه معدومة وضرب الزراعة والاقتصاد والامن في الشارع ومنع اي امكانية لابسط الخدمات كالماء والكهرباء سواء بوسائل خارجية او بدعم الفساد المالي , وتشويش الفكر المجتمعي لجعله عاجزاً عن ابتكار المخرج ومستسلماً للخروج من مأزقه مهما كان الثمن حتى لو كان بالتعامل مع الشيطان .
7- اعتماد سياسة التجهيل عبر تعزيز المخاوف واختلاق الاعداء وتضخيم الاخطار وجعلها هاجساً وكابوساً ذو ديمومة بحيث يتم تسيير المجتمع في اتجاه محدد على طريقة , فمرة ترعبك من العصابات او الميليشيات ومرة تخيفك من هيمنة عدو خارجي او اقليمي بحسب الحاجة .
8- استهداف مسلّمات العقل وادخاله في دوامة من الحيرة ، فيتم اطلاق معلومات مضادة للمسلّمات والتشكيك بها مما يولد وفرة من المعلومات المتضاربة التي تصعّب اتخاذ القرار المناسب ، فيدخل الفرد والمجتمع في دوّامة من الضبابية والحيرة مما يزيد العبء الذهني عليه ويثير عنده الملل فينزع للقبول بمسلمات جديدة لتحل محل قناعاته السابقة الراسخة للتخلص من الحيرة , حيث يتم تشويش الفكر من العقل العلمي المنطقي , الى عقل يتقبل الاشاعة والخرافة , حينها يتحول العقل الى ان يتقبل قلب الحقائق , وينقاد وراء العواطف والغرائز لتحويل الفكر , من فكر منضبط , الى سلوك فكري عشوائي ومقاد .
9- التهيؤ بجيوش الكترونية وسلسلة من وسائل الاعلام المرئي والمقروء واعتماد اعلام مضلل يسعى لاثارة الشك والرعب وبتر المعلومات وتسييلها وتشويهها .
10- تسقيط الرموز الوطنية عبر الصور والفيديوات والمنشورات الكاذبة , في مقابل صنع ابطال وتسليط الضوء عليهم واظهارهم بمظهر خارق , من قبيل تسليط الضوء على مسؤول سياسي او قائد عسكري متعاون معهم فيجري تسليط الضوء عليه لتلميعه بحجة البديل الوطني الساعي لحل مشاكل البلاد بالزي الوطني المستقل.
11- افشال اية تجربة وطنية للخروج من الازمات المتنوعة او للسعي لأي نوع من الاستقلال او انتهاج سياسات وطنية (مبحث ١٥١ تخريب العقل الجمعي ) , وفي بعض الحالات تفسح الاستخبارات المجال لفئة مجتمعية وفكرية مظلومة باستلام السلطة , مع السعي في ذات الوقت لإفشالها واظهارها بمظهر السلطة الجاهلة والفاسدة سعياً لإشعال النقمة على فكرها لاعلى شخوصها الفاسدين فقط .
12- في مراحل متقدمة يتم تحديد ساعة الصفر المناسبة وفق حدث ما سواء كان حقيقي او مصطنع , لاعتباره نقطة الشروع في اطلاق الفوضى في الشارع وتغذية الصراع والصدام , ولابأس من استغلال صرامة السلطة في مواجهة الجماهير , فإن كانت منضبطة , فلابأس من تهييج الشارع من خلال التسبب بسقوط ضحايا ودماء بقنص او ايقاع قتلى من الطرفين لمنح الحراك والفوضى قوة التعجيل الذاتي.
13- وفي الوقت المناسب لتوالي الاحداث وانتشار الفوضى والاضطرابات وتفاقم الازمات , تبرز الحلول التي يجري طرحها بشكل يبدو كطريق وحيد للخلاص السياسي والامني والاقتصادي , ويتم الامر بشكل يبدو فيه صانع الفوضى بمثابة المنقذ و"كأنّ شيئاً لم يكن ..وبراءة الاطفال في عينيه " , وقبل ان يفيق الشعب من غفوته وتنويمه سيكون البلد مرتهناً للجهات الاستخبارية الخارجية وشركاتها .
----------------------------
خلاصة القسم الثاني
----------------------------
تناولنا الخطوط العامة للاستهداف الفكري الذي تقوم به الاجهزة الاستخبارية الخارجية والتي تتحدد وسائلها وتتنوع وفق القدرات العقلية والتأثيرات البيئية المحيطة بشعب من الشعوب , ووفق قراءة المجتمع المستهدف بتشخيص مجموعة القيم والقائمين على حمايتها وتاريخ تفصيلي عن مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية بخصوصها , وتشخيص عناصر القوة في القطاعات السياسية والامنية والاقتصادية والثقاقية في المجتمع ومدى قناعتها بمجموعة القيم , وفي القدرة على تأجيج النقمة المجتمعية وفي تجييش قاعدة من العملاء قادرة على تهييج الشارع في الوقت المناسب , الا ان الامر الذي قد يبدو محكما لدى الاجهزة الاستخبارية العدوة هو في الآخر تحدٍّ بالامكان مقاومته والتماسك المجتمعي بوجهه , وهو ماسنتناوله في القسم الاخير بإذن الله , والله الموفق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة