الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوغل داخل المرايا (ج 4 : مرآة الاحتضار )

بديع الالوسي

2020 / 11 / 15
الادب والفن


4 : مرآة الاحتضار
بعد اربعة ايام من زيارة البحر ومن الجفاف الذي طال جسده ، استلم جوستاف نبئاً غريباً من ابنته : ستنعم بالراحة .
على اثر ذلك ما عاد من احد يزعجه ، بعد ان عزلوا زوجته عنه ، ليرقد بسلام بعيدا ً عن هذياناتها وصراخها غير المبرر .
هذه الليلة هي الاولى التي ينام فيها معلقا ً بين الغيبوبة واليقظة . مشوشا الحواس ، غير قادر على التعبير عما يجيش في قلبة من ارتباك مزعج ، هو مزيج من مشاعر متطاحنة . ربما لهذا لطالما ردد في خلده : مشيئتك يا رب .
بما انه غير قادر على الكلام ، ترك لذهنه ان يسافر بعيدا عن الواقع ، ومرارا ً فكر في صلواته بالملكوت و تخيله كحلم وردي او تجربة روحية ، ما اثار عجبه انه انتظر طويلا ً تلك اللحظة التي تطير فيها الروح محفوفة بملائكة يرتلون صلوات ربانية ، كم كان يتوق لرؤية المسيح وتقبيل يد السيدة العذراء . ولكن كل هذه الامور المتخيلة لم تحدث !!
ربما لهذ كان الليل طويلا ً ، حتى صار فتح عيناه يشكل عبئا ً عليه ، في ذا الاثناء تجسدت له هشاشة ايمانه ، وصار كلما اقترب من نهايته انتفض من جديد ليتشبث بالحياة اكثر .
اصبح الزمن ترابياً ، حتى انه لم يعرف الوقت الذي دخلت عليه زوجته التي قالت لأبنتها : انه يتنفس ، هذا يعني انه ما زال على قيد الحياة .
فتح عيناه بتثاقل ، رأى وجوهاً غريبةً تتأمله وتنصرف ، قال الطبيب الاصلع : النبض دون الثامنة سيموت خلال الليل .
في ذا الاثناء ، ادارت تيريز وجهه صوب النافذة ، احبت ان يرى الشمس وهي تغرب .. داهمه الحزن وهو يتذكر نصيحة طبيبه الخاص ، التي لطالما رددها على مسامعه في السنوات الخوالي : بإمكاننا تبديد الشكوك والهموم بالاعتماد على استنشاق كميات كبيرة من الاوكسجين .
حاول جاهدا ً ان تبقى نظراته شاخصة ً الى الصليب الخشبي الملون ، كانت زوجته سعيدة بحضور الراهب الذي زارهم عدة مرات وتحدث مطولا ً عن اثر التنازل عن اللذة للعبور الى عالم الملكوت السماوي ، اما اليوم فقد جاء بروح منكسرة ، اقترب منه وامسك بيد صاحبه وبصوت منخفض قال : هل عرفتني ؟
حضوره وطريقة حديثة اوحت لتيريز انه يضمر سؤالاً لم يجرؤ ان يفصح به ، ملخصه  : الى متى ستستمر مقاومتك يا جاستوف ؟
محنة الراهب ، لم تمنعه من ان يضع يده على جبين صاحبه وهو يردد الصلاة ، استدار نحو الاخرين ، وراح يفرك فروة رأس الاب ، كمن يبحث عن معجزة ما ، حرك الصليب الفضي الصغير امام عينيه ، ومن ثم التفت وقال للحضور : صلوا لأجله بخشوع ، ليس من داع للبكاء ؟.
صحيح ان جوستاف المغمض العينين ، لم يهتم او يرَ كل هذه التفاصيل لكنه شم رائحة البخور ، فجأة ً وجد نفسه وحيدا ً بعد ان اطفأت تيريز الاضواء وانسحب الجميع الى الصالون .
وقبل ان ينصرف ، شعر الراهب بالخجل ، لعدم قيامه بواجبه المقدس ، لذا عاد هذه المرة الى الغرفة بمفرده ، امسك بحديد السرير ، انحنى قليلا ، ردد بأذن جوستاف :
ــ هيا تشجع يا اخي ، الحياة لا تستحق كل هذا العناء .
وقبل ان يغلبه النعاس ، اسدل الراهب جفون الاب ، متوقعاً بان هذا الفعل سيساعده على الانفصال عن بهرج الحياة ، وسيسهم في انطلاق الروح برحلة هادئة ، ظنا منه بانتهاء صلاحية البقاء والتمتع بتفاصيل دنيوية جديدة . لكن الاب وبدل ان يمتثل لنصيحة الراهب ، اخرج يده من تحت الشرشف الثقيل ، واخذ يربت على يد صاحبه مبتسما ً كمن يشكر الحياة !!!
بعد منصف الليل ، احس الاب بوجود تيريز الى جواره ، وهي تقوم برفع رأسه وتفعل ما تراه مناسبا ً ، وسمع صوتها وهي تطلب منه : ارجوك ، افتح فمك يا ابي ، حاول ان ترطب فمك بقليل من الماء .
ما ان دخلت تلك القطرات الى جوفه ، حتى شعر ان جسده يرتعد ويطلب المزيد .
احس ان هذه المبادرة طردت عنه ولو للحظة فكرة الموت عطشا ً ، حاول ان يشكرها ولو بكلمة ، لكنه لم يفلح ، مع ذلك تركت في نفسه انطباعا ً طيبا ً ، بإمكانية ان يعود ويرتبط بالخيط السحري للحياة .
نام بعمق ، متجاوزا ً فكرة موته ، شاعرا ً بالسعادة رغم التعب الذي امتص كل طاقته ، ولم يصحو الا على صوت الريح التي صفقت الباب وكانت سببا ً في استيقاظه مبكرا ً .
لا احد يعرف كيف ولماذا دب النشاط في صوته واشرق وجهه ، هذا الشيء ادهش زوجته ودفعها لتقول له :
ــ صباح الخير ايها الحبيب .
مسحت دموعها بظاهر كفها حين سمعته يقول لها بصوت واهن ٍ :
ــ سأموت لكن ليس ....
لم يستطع ان يقرأ في عينيها ذلك الارتباك والدهشة ، لكنه سمعها وهي تقول له : لم افهم .. ماذا تقصد !! .
فجأة ً حضرت تيريز ، وبحضورها حل صمت بارد وحزين ، لكن الأب شعر امامهما بضرورة التحلي بالشجاعة وعدم الاستسلام ، وبما انه اراد ان يواجه هول الموت دون اي مساعدة من احد ، ربما لهذا تحامل على نفسه وفتح عينيه ، ، كمن يحاول تحدى مواجعه ، متشبثا ً بلغز الحياة التي تراوغ معه وتسحقه . ظل وجه مشرقا ً بابتسامة ناعمة غامضة ، اما نظراته فحدقتا صوب زوجته ، تثائب ضجرا ً وهو يقول لهما : لا اعرف ماذا سيحل بي ، لكني لست بنادم على شئ واشعر بالسلام ، لأني سأرى .
تغيرت ملامح تيريز وهي تسمع الكلمة الاخيرة ، ومع انها لم تتفوه بشيء ، لكنها شعرت بالحيرة والذهول .
لكن الأم وبصوت واهن قالت له : هون عليك ، لا داعي للقلق ستنعم ...
لم يكن جوستاف يصغي اليها ، ظل ينظر بعيناه المتسعتان للضوء المنساب من خلال النافذة .. كان المطر لا يزال منهمرا ً .
خاطب نفسه قائلا : هل ما يحدث لي مجرد …
واغمض عينية كمن خسر الرهان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا