الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ريح الكادي

سمير الشريف

2006 / 7 / 14
الادب والفن


رواية ريح الكادي :السؤال الحضاري ومرثاة المعاصرة


ابتدع الفن الروائي ليعبّر عن المدينة وأرتبط ازدهاره بنشأة المدن وانتشار التعليم وحصول المرأة على حريتها ، مما أتاح لها حركة أدت إلى بروز كمّ من العلاقات ، لهذا فالمدينة هي صانعة الرواية ، وإن لم يمنع هذا من الاعتراف بحقيقة نشوء الرواية الرومانسية في القرى والأرياف ك (زينب ويوميات نائب والأرض)
من هنا فإن دخول العالم الروائي يقودنا للحديث عن مدينة لها حضور تاريخي واشتباك حياتي ،تمتزج فيه (ألانا) وهمومها ببحر ال (نحن)المتلاطم ،وما يفرزه من علاقات وصراعات وتبدل قيم ،لهذا فإن المتتبع للخط البياني للرواية في المشهد الثقافي السعودي يلاحظ تأخر هذا النوع الأدبي عن غيره لعدم توفر العناصر السابقة والبيئة التي تساعد على ميلاد هذا الفن السردي حتى وقت قريب .
من الأسماء التي برزت واتخذت موقعا على خارطة الإبداع السردي المبدع عبد العزيز المشري ، في مجاميعه ( موت على الماء/الزهور تبحث عن آنية/أسفار السروي/الغيوم ومنابت الشجر/وريح الكادي)
المبدع المشري استخدم تقنية لا تعطي ناصيتها لكثير من الكتاب تقنية وجهة النظر point of view
إذ تمكن الكاتب بشفافية أن يستبطن روح القديم ممثلا بالجد (عطية)وعكس رؤيته للتطور الذي صوّره دليل شؤم على الديار ، في حين تقمص ابنه روح الشباب وأقنعنا بلا جدوى التمسك بالقديم وضرورة التعايش مع الحاضر الذي أصبح ضرورة .كان المشري دقيقا في تحليله لوجهة نظر الجد وأبنه ، لدرجة تصل حد التوثيق ، رصد من خلالها التحول /اللعنة/الأمل /منعكسة على الأفراد والمجتمع سواء بسواء.
استطاع المشري أن يوزع روحه على شخوص روايته بعيدا عن الصراخ وحشو أفواه الشخصيات بمقولات جاهزة ، وترك الخيار لشخوصه أن تتلمس مواطئ أقدامها على مسرح الرواية لتصلنا مقنعة مكتفية بعوالمها .
هذا لا ينقص من وجود الإيقاع الجماعي الذي لازم أحداث الرواية ،وأضاء جانبا كادت القرية أن تفقدة أمام هجمة الحضارة التي يدافع عنها (حامد)ويمقتها الشايب (عطية)ليعكس بذلك صراعا بين جيلين يتشبث كل نهما برؤاه ومواقفه .
السرد الهادئ الذي يسقي التفاصيل شغل "المشري"عن إعطاء شخوصه مساحة زمانية يقفون فيها مع أنفسهم ن يواجهون ذواتهم ، يستنطقون أعماقهم عبر تداعيات The stream of conscious
وليترك للمتلقي لحظة التقاط أنفاسه ليستريح من متابعة التفاصيل ليقف على دواخل الشخصيات .
البساطة الآسرة ،محطة تستوقفنا في هذا المنجز الإبداعي فنعجب للجملة السردية التي يعجنها بمفردات محلية تخدم السياق وتمنحه أفقا أوسع ،خاصة إذا ما لامست روحا أسطورية للموروث الشعبي الذي صُوّر بشفافية تجسد حتى أصوات الأشياء :…ترتطم قدمه بفناجين الشاي فكان أحدها مملوءا فتدلقه ،ويضرب الفنجان بالإبريق فيندلق بحثالة وتدق الفناجين بعضها ببعض فتحدث قرقعة مسموعة ،لا يظن السامع أن بها فنجانا سالما..
من خلال متابعة اكثر من أسلوب في الساحة السعودية ،وجدت أن المشري يؤسس لطريقة فردانية ن يؤرخ من خلالها للموروث الشعبي محاولا وضع لبنات منهجية خاصة تؤنسن مفردات البيئة ، يخدمه في ذلك خصوصيات كثيرة على رأسها الجرس الموسيقي في سياقاته اللغوية ، حتى يخال المتلقي أن "المشري" قد مر يوما على محطة الشعر ولا زال عالقا به… باليد الواحدة من الصحن كانوا يأكلون وباليد الواحدة في شأن الحياة يعملون، يسرحون في الصباحات وعلى الدور في العشية يرجعون..
الإيقاع المموسق مما ينتظم مفردات هذه العبارة ضمن إيقاعها الداخلي، يشير إلى قدرة "المشري" على توظيف المفردة في مكانها حسبما يسمى نقديا igh Diction H.
في الرواية يمكننا رصد عالمين منفصلين ، أجاد "<المشري"تحديدهما وقياس نبضهما وإن ترك لنا حرية تحديد موقع الكاتب وعالمه المفضل ، العالم الأول هو القرية منظورا إليها بعيون الشايب"عطيه"الذي يرى في القرية بؤرة لتجمع الناس والتقاء الأيادي والقلوب وحتى الديكة على صوت واحد ،ولا ينسى موقف رجال القرية عندما تدافعوا يعوضونه عما فقده في حريق بيدره.
الشايب "عطيه"يتحصن بالقرية ملاذه الأخير أمام التشوه والإلغاء واجتثاث الجذور ،وهو من هذه الزاوية يرثي الحضارة المعاصرة وإن لم يعاد إنجازاتها ،فهو لا يخاف من التلفزيون كجهاز عصري ومنتج حديث ولكنه يخاف من الإعصار الذي يستشرفه بروحه ويحسه بأعماق وجدانه قادما لاقتلاع جذورنا وطمس خصوصيتنا باسم التمدن ….ألا ويل عينك يا شايب …لو عشت إلى يوم ترى فيه أصابع اليد عند اللازم ليست واحدة .
خوف الشايب من فقدان الروح الجماعية وارتفاع منسوب الأنا وذوبان دفق صوت الجماعة ،ماذا يعل بنا التلفزيون غير تسميرنا ساعات دون أن ننطق مع أهلنا وأولادنا حتى ومع أنفسنا؟
"المشري"يقف خلف الشايب ،مكبرا حجم المأساة ،واقفا ضد الحداثة التي تلوثنا ،وإن كان قبوله لها مشروط ببقاء الإنسان فيها ومعها إنسانا.
هذه المرحلة ،يراها القارئ تضع خاتمة للأبوة وتقطع وريد التلاحم الأسري وتذهب بالعلاقات الإنسانية وتشطب من عقول ناشئتنا بالتدريج حميمية المشاركة في المناسبات الاجتماعية ،فتبهت قيمة ومعنى لمة العرس والسوق الشعبي وحلقات المساء قرب المسجد.
ناقوس الخطر يدق بانفصال "حامد"عن منزل والده ،الأرض تُهجر ولم تعد مصدرا للقمة العيش واستبدلت بلهاث حارق خلف وظيفة في المدينة ،مع أن الشايب يصر دون جدوى على التمسك بالقرية والبيت ويرفض باستماتة ،السكن في بيت جديد لقناعته أن العيش في المدينة يستتبعها ضريبة تدفعها البشرية فتشوه عفوية الإنسان وتنيمه على سرير من قلق.
تبرز خلال الرواية بطولة غير بطولة (الشايب عطيه وحامد ومليحة وصالحة )وغيرهم، تلك بطولة المكان الذي نلمسه في فصول الرواية بارزا ورئيسا ،كأنما يشارك الجماعة نبضها .
حضور المكان حقيقي كما هي حقيقة وجود "عطية"وذلك من خلال رصد مجمل التغيرات التي تجتاح المكان الذي يؤنسنه الكاتب،ويجعله شاهدا ومتحديا للتغيير السلبي المتمثل في تلويث نقاء الريف وتشويه علاقات الناس الذين تزحف المدينة إليهم وتطحن منتجات الحضارة إنجازاتهم الإنسانية.
يقودنا هذا إلى الجزء الأخر من الرواية وفيه رصد الكاتب ظهور المدينة ونشوء المدارس وناء البيوت الحديثة وما ترتب على لك من هجر للأرض وضرب لروابط الأسرة……..
كانت الكهرباء تجعل من الليل كالظهيرة فأصبح الناس لا ينامون إلا بعد أنصاف الليالي وينفقون ساعات الليل الطويلة كالمقيدين في مواجهة الصندوق البلاستيكي ذي الواجهة الزجاجية.
هل نريد هجاء وعمقا وإيحاءا اكثر من ذلك لتصوير بشاعة الحياة المعاصرة؟
السؤال هنا ماذا يجدي الإنسان الذي يربح الدنيا ويخسر وجوده؟
الشايب "عطية"يهجو التقدم لأنه وصل المدينة وشوهها، ولم يصل الريف ولم يبق على نقاءه فظل الريف متخلفا ، أليس بالإمكان أن تصل منجزات الحضارة إلى القرى وتظل على نقائها فنأخذ ما يرفدنا بالجديد ونرفض ما يدمرنا؟أم أن الحضارة الحديثة لا ترضى بإنصاف الحلول وتصر على ما أصبح مثلا مما قالع شكسبير To be or not to be
ّلا وجود لك بغير حضارتنا الحديثة،فإما أن تلغي كيانك معها وإما أن تظل متخلفا بدونها.
أما التوصل إلى معادلة وسطى تحفظ لنا خصوصيتنا فيبدو أن ذلك غير ممكن حتى الآن حسب وجهة النظر الغربية .
السؤال الحضاري الذي يبثه "المشري"أملا في البحث عن خلاص يوازن بين خصوصياتنا وحاجاتنا للغرب ،وهو السؤال الذي طرح بأشكال عديدة على أقلام رواد النهضة دون أن نصل لجواب شاف.
يتحسر "المشري"على ما آلا إليه الحال …… أما وأن الزمان قد تبدل بأسوأ منه، فإن الشايب ليتمنى مجيء واحد من الجيران أو من الجماعة ، يتحدث أو يتذكر الماضي الجميل ، بدل ذلك جاءت السيارة والتلفزيون والبيت الحجري وغابات الأسمنت وأقفل الخلق على أنفسهم الأبواب في إقامة جبرية,لا يزورون أو يزارون ،وبقوا متباعدين إلا إذا جمعتهم مناسبة عابرة و…… باع الناس أدوات الزراعة القديمة والملابس والحلي لأناس لا يعرفون لغتهم ،ذوي بشرة حمراء وشعر أصفر، وراح أهل القرية يهزؤون منهم في منازلهم، إذ كيف هؤلاء المجانين يدفعون القيمة الغالية في أشياء لا تنفع؟
بتوظيف المفردة الدالة وإضفاء الغلالات السحرية ، قدم
لنا "المشري" مرثاة التقدم الذي جاء على حساب الإنسان كقيمة ولم يكن لصالحه كمعادل موضوعي يوازن بين أشواقه وحاجاته وعندها يصبح التطور مطلبا إنسانيا.
كثيرا من آراء الشايب عكستها روح الكاتب ونقلت إلينا رؤاه بفنية وبساطة وتميز ،خاصة تلك التفاصيل التي وظفت لبناء درامي عمّق إحساسنا بالحياة وإيقاع الزمن بمزاوجة محسوبة ضمن مسار ملحمي يلامس إيقاعا أسطوريا في علاقة الإنسان بالأشياء في تناغم يرتفع بالجماد لمستوى إنساني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07