الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


     (واقعيةُ داڤيلا .. وشذراتُ الإيمانِ) قراءةٌ في فنِ -الشذراتِ- .. كتابُ -نيكولاس غوميز داڤيلا- أنموذجاً.

مرتضى هاتف بريهي

2020 / 11 / 18
الادب والفن


يبدو أنَّ الكتابةَ الفلسفيةَ الحديثةَ والمعاصرةَ قدْ لجأتْ في أحيانٍ كثيرةٍ لبداياتِ الفلسفةِ؛ لتستعينَ بطفولةِ الكتابةِ الأولى، المتمثلة بأسلوبِ "الشذراتِ"، لا أسلوبِ النّصوصِ الطويلةِ؛ لأسبابٍ اقتضتْهَا هذه المرحلةُ الزّمنيةُ المغرمةُ بالسرعةِ والإيجازِ. وعلى الرغمِ مِنْ أنّ النّصَ مفهومٌ يستلزمُ الترابطَ الدلاليَّ بحسبِ علماءِ النّصِ؛ فإنّهمْ ذهبُوا إلى أنّ الكلمةَ أو الجملةَ أو العبارةَ تعدُّ في بعضِ الحالاتِ نصّاً.
في حين أنّ الشذراتِ، تمثلُ كياناً واحداً، يضمُ مقولاتٍ وأفكاراً مختلفةً لا رابطَ موضوعيّ بينها في أغلبِ الأحيانِ؛ لأنّ أسلوبَ الشذراتِ لايعتمدُ "وحدةً موضوعيةً" أو فكرةً مركزيةً يتمحورُ حولَهَا النّصُ،  تُلزمُ الكاتبَ باتّباعِها، بلْ هو نظامٌ للانفلاتِ من قيودِ الوحدةِ إلى فضاءِ التحررِ.
فضاءٌ يسمحُ للعقلِ بالانتقالِ بين تأملاتٍ، وأفكارٍ مختلفةٍ، في ظلِ الظروفِ التي يعيشُها الكاتبُ؛ لتكونَ كلُّ "شذرةٍ" نصّاً.

ومع أنّ أسلوبَ "الشذراتِ" لهُ سلبيتُهُ المتمثلةُ بعدمِ اعتمادِ فكرةٍ مركزيةٍ أو مغزىً للخطابِ أو النّصِ أو الكتابِ، وهذا ما يخرجُهُ من مفهومِ (النّص المتماسك)؛ لكنّ هذا الأسلوبَ يجعلُ كلّ "شذرةٍ" أو "شذراتٍ" نصّاً لوحدِها؛ على الرغمِ من عدمِ كتابتِها بشكلٍ نصيٍّ، وإنما على شكلِ نقاطٍ أو أرقامٍ متسلسلةٍ.

ولابدّ أنْ نشيرَ إلى أنّ أسلوبَ "الشذراتِ" لهُ إيجابياتٌ كثيرةٌ، تتمثلُ بالابتعادِ عن الحشوِ، والإطالةِ، والاستطرادِ في زمنٍ يقتضي قلةَ الكلامِ أو الصمتَ، ومن ثَمّ فهو يتوخى الالتزامَ بالتكثيفِ الدّلالي والإيجازَ والاختصارَ؛ بغيةَ التّحررِ من النّسقِ النّصيّ والفكرةِ الواحدةِ.

وتُؤرَخ بدايةُ الشّذراتِ لبدايةِ الفلسفةِ اليونانيةِ مع هيراقليطس، وابقراط، وسقرط في أقوالِهم وحكمِهم، ومن ثَمّ في تأملاتِ ماركوس اوريليوس، مروراً بشطحاتِ الصوفيين ومقولاتِهم مثل : النفري، وابن عربي… الخ في التراث العربي، وصولاً إلى العصرِ الحديثِ والمعاصرِ مع شذراتِ نيتشه، وإميل سيوران، وداڤيلا...الخ

وما يعنينَا هنا هو "نيكولاس غوميز داڤيلا"، وشذراتُهُ الفلسفيةُ والسياسيةُ -المترجمة للغة العربية عن دار نابو★- التي تنبعُ من بعدٍ إيمانيّ روحيّ وعقديّ، وفلسفةٍ سياسيةٍ "رجعيةٍ" بحسبِ وصفِ "داڤيلا" لها.
لكنّ هذهِ "الرجعيةَ" غيرُ متطرفةٍ، وليستْ يمينيةً محافظةً مغاليةً؛ بلْ هي رجعيةٌ أخلاقيةٌ وإيمانيةٌ تسمو بالإنسانِ، وتحاولُ أنْ تلجمَ شرَّهُ المستطيرَ.

ويبدو أنّ أيَّ محاولةٍ لبيانِ مغزى كتابِ "شذراتٍ" ستقعُ في فخِ الاجتزاءِ والانتقائيةِ؛ لأنّ الشذراتِ تنفلتُ من قيودِ الوحدةِ الموضوعيةِ والنّصِ الموحدِ؛ لتتشظى على أفكارٍ مختلفةٍ ومتباعدةٍ، متكِئةً على التأملِ، والحكمةِ، والتفلسفِ، وابتكارِ المعنى، والإدهاشِ، والمفارقةِ؛ بغيةَ إيصالِ مغزى "الشذرةِ" الواحدةِ بأوجزِ صورةٍ وأبهاها، وهذا ما يجدُهُ القارئُ في "شذراتِ دڤيلا" المكتوبةِ بحرفيةِ الفنانِ الماهرِ.

ولعلّ ما يَفتنُ القارئَ في "شذراتِ داڤيلا" واقعيتُها فلسفياً وسياسياً، وروحُهُ الحاضرةُ بشكلٍ جليٍّ، وأسلوبُهُ الهادئُ، بعيداً عن صخبِ التّصادمِ والصّراعِ.

أما الموضوعاتُ التي تأمّلَ فيهَا "داڤيلا"، والأفكارُ التي حاورَهَا، فكانَ همُّها الإنسانَ، ومآلُها سعادتُهُ المتوخاةُ، منها: "الديمقراطية"، و"الدين والإيمان"، و"الفن والأدب"، و"الدولة"، و"الثورة"، و"البرجوازية" ...الخ، ولو قدّرَ لباحثٍ أنْ يدرسَ موضوعاً واحداً مثل: "الديمقراطية" سيجدُ فلسفةً سياسيةً ناضجةً وعميقةً.

وشذراتُهُ توجزُ أفكاراً عميقةً ودالّةً، يجدرُ أنْ تُجمَعَ كلّ مجموعةٍ بينها تشابهٌ بقراءةٍ، تُوحِّدُ الشذراتِ بنصٍّ يحتويهَا ويضعُهَا في سياقِ تأويلٍ متأنٍ، يجفو التّناقضَ والتّضادَ، ويرجو التّآصرَ والتّرابطَ.

ولعلّ قراءةً واحدةً لكتابِ داڤيلا لاتكفي لرسوخِ أفكارهِ العبقريةِ والمدهشةِ في ذهنِ القارئ، لكثرةِ نصوصهِ، وموضوعاتِها التي شملتْ كثيراً من جوانبِ الحياةِ، على الصعيدِ الفلسفي والسياسي.

وفي الختامِ، لا يسعُنا بقراءةٍ واحدةٍ إلا الافتتانُ بأسلوبِ الشذراتِ؛ لجماليتهِ، وبداڤيلا؛ بوصفهِ كاتباً استثنائياً.

★ كتابُ (نيكولاس غوميز داڤيلا، شذراتٌ فلسفيةٌ وسياسيةٌ) بترجمة : حيدر عبدالواحد راشد، صدر عن دار نابو سنة 2019م.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي