الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-درب جا ونزل-

محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)

2020 / 11 / 19
الادب والفن


مذ بدأت أمي تسمح لي باللعب مع أبناء الحي في الدرب وأنا لا اعرف من حينا غير منزلنا ومنازل أطفال جيراننا ، وحده منزلنا كان يقع على الزنقة الرئيسية أما باقي المنازل فكانت تقع قلب الدرب المقابل لبيتنا . هما في الواقع دربان : كبير نلعب فيه ويضم أكثر المنازل ودرب صغير يسمى "جا ونزل " لا تتعدى دوره المسكونة ثلاثة ..بينما دار رابعة عبارة عن خربة مهجورة من قبل ان ارى نور الحياة ، يحكى ان النار قد شبت فيها ، فتهاوى سقف الدار على أرضها و كانت السبب في قتل كل اهل البيت عدا صبي صغير تم إخراجه من تحت الأنقاض ولا يعرف احد ماذا كان مصيره ..
لم نكن نقترب من البيت المهجور،فامهاتنا كن يحذرننا منه لما يروين من حكايات عن الجن الذي تزوج بنتا نسيها رجال الإنقاذ وقد صارت البنت نفسها جنية تخطف الصبيان ، لهذا كنا كأطفال بقدر ما نخاف هذا البيت نتجنب الدخول الى" درب جا ونزل" ..حتى لا نصير رهائن في بيت يسكنه الجن واهله ...
قلما كنا نحن الأطفال لا نلتقي في الدرب الكبير مساء بعد العودة من المدرسة حيث نلعب "حفيرة " بعظام المشمش او كريات طينية أو زجاجية ملونة ، أو غميضة وطايبة ،أوحابة وغيرها من اللعبات التي كنا نتسلى بها ويظهر بعضنا قوته وذكاءه من خلالها .....
ذات صباح من أيام العطلة الصيفية تفاجأنا نحن الأطفال بخروج رجل وامرأة من داخل البيت المهجور،كم أرعبنا ظهورهما !! .. ،فقد كنّا نسمع ان الجن يتسيفون بشرا وحيوانات، متى دخلا وكيف خرجا ؟ لا ندري !!..
لكن بعد أيام صرنا نرى رجالا يدخلون ويخرجون ،والحمير تنقل الرمال والاسمنت والحديد الى البيت ،فأدركنا ان ورثة البيت قد ظهروا وشرعوا في إعادة بناء المنزل ..
لاندري الزمن الذي استغرقه إعادة بناء الدار فقد انتهت العطلة و عدنا الى مدارسنا بعد عطلة الصيف ثم اقبلت عطلة صيف أخرى والدار لازالت في آخر مراحل البناء ..
كل سكان الحي صاروا يتحدثون عن البيت الجديد الذي أخذ بلب النساء خاصة ،وقد صار بهجة عين ، وعمارة تجسد الجمال والأصالة، ، نافورة ماء يتغير لونها حسب الأوقات بموسيقى أندلسية وغربية ، قبب وزليج فسيفسائي وزخارف خشبية وجبسية في الاسقف والجدران ،بلاط رخامي بتربيعات ملونة بيضاء وسوداء ، فما دخلت البيت أنثى من الحي الا وتمنت ان يصير لها بيت مثله ، فكل امرأة صار البيت لها تنهيدة ورغبة في إعادة اصلاح بيتها أو الانتقال الى بيت جديد تجد فيه ما أخذ بلبها في درب جا ونزل ..
ماحرك غيرة النساء وفضولهن أكثر هو نوعية الأثاث الذي تم تجهيز الدار به ،وكان ورثتها من أكبر أغنياء البلد، وان من سيسكنها عريسان جديدان من طبقة غنية .. يحملان معهما اصالة وطن وامتزاج حضارة امازيغية عربية بألوانها من سجاد وزرابي وتلامط الافرشة وخاميات مما بعث في البيت سحرا لايعرفه أي بيت آخر في الحي ، حتى الخشب الصحراوي الافريقي له في البيت اثر ...
اهتز الحي بكامله لصخب حفلة الوكيرة التي أقامها صاحب الدار ، أجواق أندلسية و أخرى للملحون ، طوائف عيساوية وكناوية ، موائد للطعام يسهر عليها ممون من اشهر ما أنجبته المدينة ، وقد كان استغرابنا كبيرا أن أكثر المدعويين كانوا نصارى ويهودا عرفناهم بطاقيتهم الصغيرة السوداء او البيضاء ..يوم بليله ونهاره لم تتوقف فيه موسيقى ولا رقص ، ولا توقف أكل، حتى أن الممون بأمر من صاحب البيت قد وزع الكسكس على كل سكان الدربين الكبير والصغير ..
لا أحد كان يعلم أن البيت لن يعود مأوى للسكن العادي كما كان ، بل سيصير دارا للضيوف الأجانب والطبقات الراقية ، فموقع الدرب القريب من دار الدبغ شوارة مكان دباغة الجلود بالطريقة التقليدية والذي لن تصله الا بعد مرورك على الصفارين حيث صناعة الأدوات النحاسية التقليدية بكل أنواعها الخفيفة والثقيلة وكل الملحقات التي تفتخر بها المدينة و التي تعد من عراقة تاريخها الحضاري ، والمشاطين حيث صناعة كل أنواع المشط من قرون البقر والعجول وهي حرفة صارت تنقرض ولم تحتفظ بها سوى المدينة العتيقة تجلب اليها دهشة الزوار الأجانب ..
لاينزل دليل سياحي بزوار المدينة الأجانب دون ان يدخل الدار، للغذاء او العشاء او تناول الشاي وتدخين عشبة الكيف التي يعشقها السياح .. بل من الزوار من كان يبيت في الدار حيث لا تهدا حركة بليل ولا نهار وهذا ما أقلق السكان الذين فقدوا راحتهم وصاروا يخافون على أبنائهم وبناتهم خصوصا وان وسائل الاغراء كثيرة ومتنوعة ..
اشتكى السكان ، كتبوا عرائض وقاموا بوقفات احتجاجية ، لا من يرد الصدى فكلما اشتكى اهل الدربيًن تكاثر زوار الدار بالليل والنهار وقد انضاف زوار جدد من الخليج كما تنوعت جنسيات البنات اللواتي كان بعضهن يقمن بالدار ينمن بالنهار ويعملن بالليل ..
صرنا كاطفال ممنوعين من اللعب في الدرب الكبير بل ممنوعين حتى من الوقوف بباب منازلنا وكلما امتد العمر بنا عرفنا أكثر عن الدار وما يمارس فيها ..
هجر سكان الدور الثلاثة من "درب جا ونزل " سكناهم بعد أن بح صوتهم من الشكوى بلا استجابة من السلطات بل حتى الدرب الكبيرصار يغادره سكانه ..
ذات صباح وأنا أغادر البيت الى اعداديتي تفاجأت برجال الشرطة يملأون الزنقة ، ارتهبت واستعدت ذكريات الجنود الفرنسيين الذين كانوا يطوقون الحي أيام الاستعمار بحثا عن الفدائين .. ماذا وقع ؟ بسرعة تراجعت الى باب البيت ، دخلت وقفلت الباب وشرعت أحكي ما رأ يت ..
لم يكن أحد يخطر بباله أن البيت لم يكن دارا للدعارة الراقية فقط يقصدها جميع الأجناس وانما كان بؤرة يهودية لتنظيم الهجرة الى إسرائيل، كما تدرس في البيت جميع مؤامرات القتل والانقلابات واثارة الفتن وقد كانت الدولة تتابع الامر بتعقل وروية الى ان فكت كل خيوط المؤامر ة والتي لم يكن زعيمها ومسيرها غير الطفل الناجي من الحريق والذي تبنته عائلة يهودية ومعها هاجر الى إسرائيل حيث تم تدريبه على الجاسوسية ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-