الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السيرة الموجزة لحياة المواطن (م ع ع)

ملهم جديد

2020 / 11 / 22
الادب والفن


ما إن بدأ يعي وجوده ، و يتحسس ما يحيط به كأشياء منفصلة عنه . و بعد سماعه ، و تعلمه ، و ترديده لكلمات مثل ماما، بابا ، تاتا ، جدو ، نمُّورة ، حلاوة ، زعتر ، فإنه سيسمع كلمة" حيوان ". و كأي كلمة عند سماعها للمرة الأولى ، ستكون غامضة في البداية ، ثم لا يلبث معناها أن يتضح في السياقات الإجتماعية المتكررة ، كتأنيب أبيه لأخوته الأكبر منه ، و زعيق الجار في وجه ابنه ، و ركض خالته وراء ابنتها وفي يدها شحاطة ، و بهدلة شرطي لسائق ميكروباص على خط اللاذقية - جبلة ، و لسوف يسمعها أكثر و هو محمولا على كتفي والده الذي ينتظر مع المنتظرين في الصفوف الطويلة أمام الأفران ، و موزعي الغاز ، و مؤسسات الدولة لبيع السلع الإستهلاكية . و مع دخوله - و كان قد كبر قليلا الآن - إلى المدرسة ، سيعرف - من دون أن يندهش - بأنه هو المعني بها عند سماعه لوالده يخاطب مدير المدرسة باحترام " أستاذي الكريم ، اعتبر هالحيوان ابنك ، و أي شي ما بيعجبك فيه اضرب و لا يهمك " . طبعا ، لم يكن المدير يحتاج إلى هذا الإذن ! فقد كان الضرب في البلاد بمثابة "رياضة شعبية" تُمارس بشكل يومي ولم يكن ينقصها سوى المسابقات لتأخذ الطابع الرسمي . كان الآباء يمارسونها في البيوت ، و المدرسون في المدارس ، و الشرطة في الشوارع ، ثم أصبحت فنا قائما بذاته في فروع الأمن بعد أن اكتشفت الحكومة بأن الله لم يخلق " الإنسان على أحسن تقويم " كما ادعى ، فقررت سد ثغرات الخلق الأولى ، و كانت النتيجة" انسان جديد "يعجز الله نفسه عن إعادته إلى الحالة التى كان عليها عندما خلقه أول مرة ! طبعا ، هذا في حال استطاع التعرف عليه !
سيُصبِح الطفل مراهقا، يتأمل بإعجاب شديد الشعيرات التي بدأت تظهر على وجهه ، و قبل أن يخرج من البيت ، كان يشمشم تحت إبطيه للتأكد من عدم وجود رائحة كريهة ، فمن يدري ، ربما التقى بحبيبته التي أحبها من النظرة الاولى عند بيّاع البذر في مدخل الحارة ، و عندما انتبه إلى أنها لم تنتبه ، فإنه ، و بسبب الخجل المستحكم به منذ الطفولة ، لم يبذل أي جهد لجعلها تنتبه ، لكنه لم يفقد الأمل ، و كان يعتمد على نباهتها ، هي التي عاشت حتى عمر التسعين ، و إذا كانت قد اشتهرت بشيء ، فقد اشتهرت بعدم النباهة ! سيٌطْرد من المدرسة و يذهب إلى مدرسة أخرى ، و ستنتقل أسرته إلى المنزل الجديد الذي حصل عليه والده من جمعية ( إسكان الإنسان الجديد ) التي كان قد سجّل اسمه فيها منذ زمن طويل كواحد من أصحاب الدخل المحدود . و طيلة الثلاثين عاما التي قضاها بانتظار حصوله على المنزل ، كان من بين أدعيته المفضلة في فترات الضيق و اليأس ، هذا الدعاء " يارب ، قّرب اليوم يللي بحصل فيه ع البيت ، و خود روحي بعد أسبوع " و مع أن هذا الدعاء ، كان الدعاء الوحيد الذي لم يكن يقصده حرفيا ، فقد شاء الله أن يحققه له حرفيا ! و قبض روحه في تمام ظهيرة اليوم السابع من تاريخ استلامه للمنزل ، و في العزاء ، عندما سُئِل الشيخ الذي كان قد كبر كثيرا، و أصبح ضيق الخلق ،عن السر خلف هذه المصادفة العجيبة، اصطنع ابتسامة ، حكّ أذنه اليمين الكبيرة و المشعرة ، تنحنح كما يليق بشيخ جليل يهم بالإجابة على سؤال يشغل بال المؤمنين ، ثم قال " لا سر و لا خرا ! و إذا كان هناك من عجيبة فهي أنتم ، قلّما تقرأون ، و إذا قرأتم لا تفقهون . كل ما في الأمر، أن الله سبحانه و تعالى أكّد على ما سبق و قاله في كتابه العزيز " الله خير الماكرين " . و من يومها ، سيمتنع الناس عن إطلاق الأدعية جزافا من دون تمحيص ، و أصبحوا يقضون ساعات طوال و هم يقلّبون مسودات أدعيتهم في رؤوسهم ، و أحيانا يستشيرون بعضهم البعض زيادة في الإحتياط ، قبل أن يعتمدو النسخة الأخيرة و يطلقونها نحو السماء . سيدخل في فترة اكتئاب طويلة ، ليس بسبب وفاة والده ، بل لسماع خبر هروب حبيبته مع الإبن البكر لبيّاع البذر في مدخل الحارة . ومع أنه كان قد عاهد نفسه على أن يُقلع عن الحب من النظرة الأولى ، و أن يأخذ كامل وقته في البحلقة ليتجنب صدمة عاطفية أخرى ، فإنه ، و كما تقع "الذبابة في سطل اللبن" ، وقع في حب فتاة أخرى من النظرة الأولى ، و أمل ، مثلما أمل سابقا ، أن تنتبه فتاته الجديدة إلى حبّه ، فلا تضيع سنتان من حياته في حب من طرف واحد ، سنتان قضى لياليها الطوال و هو يتقلب وحيدا في فراشه ، حيث كانت تفاجئه تلك الإنتصابات المتكررة ، و التي كانت وتيرتها تزداد أيام الخميس على وقع تأوّهات جارتهم "حسيبة "، حسيبة الخجولة الصموتة التي لم يكن يُسْمع لها صوت سوى في الليل ، إذ لم يكن يفصل بين غرفة نومه و بين غرفة نومها هي و زوجها سوى حائط سيئ البناء و يفتقد للمواد العازلة ، لتعقبها خيالات دبقة و شديدة الرطوبة ، فلا يجد من معين سوى يده اليسرى ( كان يسراويا ) ، و قبل أن يعود ليغفو ، كان يخالجه ذلك الشعور الخفيف بالإثم الذي لا يلبث أن يختفي بعد تذكره للقاعدة الفقهية التي سمعها في أحد خطب الجمعة " الضرورات تبيح المحظورات " . أمور كثيرة سوف تتغير ، و يبقى الثابت الوحيد في حياته هو سماعه لكلمة حيوان ، لا بل سوف يسمعها الآن أكثر بعد أن تم سحبه إلى الخدمة العسكرية الإلزامية ، فاعتقد للوهلة الأولى بأن كلمة حيوان رتبة عسكرية أكثر منها شتيمة شعبية . و أثناء خدمته ، سيقلدونه ثلاثة أوسمة ، وساما عن حرب لم يسمع بها ، و وسامين عن حربين سمع بهما لم يخضهما ، إذ قضى جل فترة خدمته في بيت ضابط كبير ، كان يغسل السيارات ، و يمسح أحذية العائلة ، و يعتني بكلبين و ثلاث قطط و ببغاء ، وربما كانت أجمل فترات حياته هي تلك التي كان يقضيها مع هذه الحيوانات ، حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم الذي سمع فيه الببغاء يصيح به مقلّدا صوت الضابط عندما كان يناديه" ولَك حيوان " ، نظر إلى الببغاء ، و كان بوده لو يستطيع خنقه ، ثم قال " حتى أنت يا إبن الشرموطة !"
و بانتهاء فترة خدمته العسكرية ، قرر أن يصارح حبيبته - التي لم تنتبه له بعد هي الأخرى - بحبه، ولم يكد يستجمع قواه ، و يشد العزم ، حتى سمع بأنها هربت مع الإبن الأصغر لبيّاع البذر في مدخل الحارة . فأغلق على نفسه باب غرفته ، ينام في النهار ، و يقضي الليل محاولا فك أسرار العلاقة بين الإنجذاب العاطفي و البذر ! ولم يكد يخرج من اكتئابه ، و يبدأ بمغادرة غرفته ، حتى فكّر بالهجرة التي أصبح خطها واضحا ؛ تركيا ، اليونان ، بلغاريا ، و من ثم تصبح قضيته بين أيدي المنظمات الإنسانية . في بلغاريا ، و أثناء المقابلة مع ممثلي إحدى المنظمات التي تعني باللاجئين ، سُئل عن سبب رغبته باللجوء ، فأجاب " لا أريد لأحد أن يصرخ بي يا حيوان بعد اليوم " . لم يأخذ طلبه الكثير من الوقت ، و خلال شهرين أصبح في ألمانيا ، هناك تعرّف على سائحة أميريكية كبيرة في العمر ، كانت أرملة و تشعر بالملل ، تزوجته و عادت به إلى أميركا ، فكان عليه في المغترب أن يواجه لعنة أخرى ! كانت العجوز غنية ، و قلما يمر شهر من دون أخذه معها في رحلاتها بين الولايات التي تتوزع على مساحة قارة ، و في كل مطار، كان يُسحب من بين الواقفين في الدور ، و بهدوء ، يُأخذ إلى غرفة جانبية ، ليقف قبالة موظفي أمن لم يكن لأناقتهما و تهذيبهما أن يخففا من الرعب الذي يبثانه في أوصاله . و لم يحتاج إلى الكثير من الوقت ليعرف أن للأمر علاقة بتشابه أسماء ، كان اسمه " محمد عبدول عبدالله "، و كان بعد كل " غزوة " يقوم بها غزاة القرن السابع على أبواب القرن الواحد و العشرين ، يجلس مبحلقا في التلفزيون ، منتظرا بث أسماء من "استشهدوا" ، و أسماء من ألقي القبض عليهم و هم أحياء في زنزاناتهم ينتظرون ، و أسماء من فروا غير أنهم ما لبثوا من أوكارهم يتوعدون ، فلا يخرج حتى يتأكد بأن ليس فيهم من يحمل و احدا من أسمائه الثلاثة ، و لأن ذلك قلما كان يحدث ، فقد بدأ شعوره بالسعادة في مغتربة الجديد يخفت ، ليحل محله القلق ، صحيح أن لا أحد يصرخ به يا "حيوان " ، لكن الجميع ، جيرانا ، و موظفين ، و رجال أمن ، يشُكّون بأنه إرهابي ! و لم يكن عليه سوى أن ينتظر حتى يحين موعد تقديم طلب الحصول على الجنسية ، حيث يتيح له القانون فرصة تغيير اسمه . و عندما حانت الفرصة بعد خمس سنوات ، و بينما كان في مكتب المحامي يفكّر باسم جديد لا يتخلى فيه عن أصوله و انتمائه إلى الوطن الذي أحب ( كاختيار اسم أجنبي مثلا )، و في نفس الوقت ، لا يوقعه في ورطات تشابه الأسماء التي طالما أقلقته و أفسدت رحلاته ، سمع المحامي يحثه على الإسراع باختيار الإسم من أجل إرسال الطلب إلى دائرة الهجرة ، فقال للمحامي ، سجّل " حيوان بن حيوان ، ابتسم ، و أخذته الدهشة ، فلأول مرة يكتشف في نفسه سرعة بديهة لم يكن يتوقعها " "? can you write it down please " " هل بإمكانك كتابته إذا سمحت ؟" سمع المحامي يقول . كتب اسمه الجديد بخط كبير و واضح على ورقة ، ثم أعطاها له " hayawan Ben hayawan ". تأمل المحامي الإسم ، زمَّ شفتيه مع ابتسامة خفيفة ، ثم قال " nice name , congratulation ...hayawan" " اسم جميل ، مبروك ... حيوان " .
عندما همّ بالمغادرة ، نظرت إليه السكرتيرة ذات الوجه المنمٌش ، و كانت المرة الأولى التي ترفع فيها عينيها عن الكمبيوتر طيلة المقابلة التي استمرت لمدة ساعة ، ثم رددت بالضبط ما قاله المحامي "nice name , congratulation... hayawan " تذكر الببغاء ، و الضابط ، و والده ، و مدرسيه ، و الشرطة ، و رجال الأمن ، و عرف بأنه بدأ للتو حياة جديدة ، حياة لا شيء فيها يربطه بحياته السابقة سوى كلمة " حيوان " ، كلمة سوف يسمعها كثيرا في المستقبل ، لكن ، في سياقات اجتماعية أخرى !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع