الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستشراق الجديد: مشروع هيمنة سياسيّة وإقتصاديّة وإيديولوجيّة

عفاف الغربي

2020 / 11 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


سنعود بالتاريخ إلى الفترة التي برزت فيها ظاهرة الإستشراق التي يصعب تحديد فترة ظهورها بالتدقيق لكن أغلب الدراسات المعالجة لها حددت الفترة بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وصولا إلى الحقبة الآنية المعاصرة، فهو مفهوم يتواصل ويتغير بتغيرات العصر والمجتمعات في تجاذب وأخذ ورد بين الغرب والشرق. وبدأت ظاهرة الإستشراق في منحى ديني محمل بأبعاد سياسة، فبروز الدين المسيحي وتنامي قوته في تنافس مع إشعاع الدين الإسلامي أنتج خلافا وعداوة كبيرة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي. ففي العصور الوسطى لم يكن للغرب أدني فكرة على الحضارة العربية الإسلامية، لكن جراء كثرة الحملات الإستعمارية والإستكشافية أصبح عند الغرب معرفة بدول المشرق وخصوصيات الدين الإسلامي في كل تمظهراته.
شهد الشرق تدفق العديد من الرحالة والأدباء والباحثين من دول الغرب لدراسة دول المشرق والغوص في خصوصيات عادتهم وظروف عيشهم، ولقد سمي ذلك بظاهرة "الإستشراق"، عبر النبش في الخصوصيات العربية المشرقية حبا للمعرفة وبحثا عن المال ووصولا للرغبة في السيطرة والاحتلال. وظهر لفظ "الإستشراق" بظهور اللفظة لأول مرة بالإنجليزية عام 1779 ثم بالفرنسية عام 1799، وقبل تبني الأكاديمية الفرنسية لكلمة "إستشراق" في 1838.
وبالعودة إلى مفهوم "الإستشراق" (Orientalisme)، حسب المنظر الأدبي الفلسطيني-الأمريكي "إدوارد سعيد" ضمن كتابه "الإستشراق" المنشور سنة 1978، هو: "دراسة كافّة البنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربية. وتستخدم كلمة الاستشراق أيضاً لتدليل تقليد أو تصوير جانب من الحضارات الشرقية لدى الرواة والفنانين في الغرب. المعنى الأخير هو معنى مهمل ونادر استخدامه، والإستخدام الأغلب هو دراسة الشرق في العصر الإستعماري ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر. لذلك صارت كلمة الإستشراق تدل على المفهوم السلبي وتنطوي على التفاسير المضرّة والقديمة للحضارات الشرقية والناس الشرقيين... 1978".
فعاد الكاتب إلى المفهوم في ظاهره لكونه دراسة لتوجهات إجتماعية ثقافية للشرق والإهتمام بها فكريا من خلال الكتابات والدراسات حولها, وفنّيا من خلال اللوحات التي تعكس الحياة المشرقية بوجهة نظر غربية بحتة، مشيرا إلى النزعة الغربية القائمة على السلطة والتسلط وعلى أساسها ظهر الإستشراق حيث كان في بداية الأمر يحمل جانب الإسكشاف لمظاهر مشرقية والمغامرة والبحث عن الجديد وسرعان ما تحول الإستشراق إلى ظاهرة أسسها سياسية في أطر سميت بالحماية شكلا ولكن بنزعة إستعمارية في مضمونها.
وفي المعنى الإصطلاحي مفهوم الإستشراق هو يعني "علم الشرق أو علم العالم الشرقي " وعّرف البعض حسب "عبدالله محمد الأمين" الإستشراق أيضاً بأنه: "ذلك التيار الفكري الذي تمثل في الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي شملت حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته " وأحياناً يقصد به: "أسلوب للتفكير يرتكز على التمييز المعرفي والعرقي والأيدلوجي بين الشرق والغرب". ومرة يراد به: "ذلك العلم الذي تناول المجتمعات الشرقية بالدراسة والتحليل من قبل علماء الغرب ".
ووفد العديد من الغربيين لإكتشاف مظاهر عيش وعمارة ونمط غير مألوف عند الغرب, فكان نتاج هذه الرحلات العديد من المؤلفات والدراسات واللوحات الفنية التي أظهرت الطابع المشرقي بصورة حسية تنقل ما عايشوه إما بالحكاية أو بالتنقل على عين المكان لخوض تجربة الإستشراق. لكن كما للإستشراق جوانب مميزة تعكس الطابع الإستكشافي لأطر مكانية وجغرافية جديدة وحضارات ومروث إنساني بعيد عن الملامح الغربية إلا أنها ظاهرة تخفي ورائها جانب مظلم تختفي في طياته نزعة حب التملك والسيطرة التي يتصف بها الغرب.
فكان الإستشراق يعالج واقع إجتماعي خاضع لواقع سياسي ببعد فني عالجه العديد من الفنانون بتقنيات وآليات تشكيلية كالرسم والنحت الذي عكس حياة شعب وحضارة مشرقية متعمقا في موروثها الحضاري والثقافي وعاداتها وتقاليدها التي سحرت المغامرين والمستكشفين والرسامين وكان لمؤلفاتهم ولوحاتهم التي حاكت الشرق تأثير كبير على تطور الثقافة عند الغرب عبر التقيد بالتجارب الإستشراقية ومحاولة النهل منها وحتى السيطرة على ثرواتها بسلطة جيوسياسية إيديولوجية.
سيطرت القوى المادية بشكل كبير على العالم في الفترة الحديثة وصولا للفترة المعاصرة، فكان هو المدخل الذي تمكن الغرب من خلاله في فرض الهيمنة على شعوب العالم خاصة المشرقي والعربي، فالعالم الغربي يمتلك حضارة قائمة على المادة فسهلت المد الغربي على العوالم العربية والمشرقية والمسلمة لضعفها المادي مقارنة بالغرب.
فساهمت ظاهرة الاستشراق ومحاكاة البيئة المشرقية بكل تمفصلاتها الإجتماعية والثقافية والفكرية والإيديولوجية من ظهور الفكر الأوروبي الإستعماري للبلاد العربية والنهل من ثرواتها الفكرية الثقافية وزرع روح غربية ضمن حضارتها في إطار انفتاح وتفاعل بين الثقافتين، وخلق مناهج فكرية ومؤسسات تعليمية تتكون عبرها الفنون والإبداعات.
لكن إلى جانب التبادلات الثقافية قامت العلاقة بين الغرب والعرب على صراعات وحروب على الفضاءات الجغرافية تحت غطاء الفن ليكون الإستشراق مفهومه ومقصده الأصلي خدمة لمصالح الهيمنة الغربية عبر النزعة الإستعمارية والإحتلال الجغرافي والجيوسياسي للعالم العربي. فمثل مصطلح "الاستشراق" من أكثر المفاهيم والعبارات جدلا على الصعيد الفني وحتى على الصعيد السياسي.
وقسم الإستشراق إلى مراحل هذا ما ذهب إليه الدّكتور "المبروك المنصوري" في كتابه "الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة: الإستشراق، القرآن، الهويّة والقيم الديّنيّة"، إذ قسّم الإستشراق إلى ثلاث مراحل أساسيّة هي: "الإستشراق الإستعماري (Colonial Orientalisme) "
و"الإستشراق ما بعد الإستعماري (Post Colonial Orientalisme) " ومرحلة "الإستشراق الجديد " (New Orientalism) وهي مرحلة ظهرت ملامحها في بداية هذا القرن. "
أما حسب "إدوارد سعيد" فالإستشراق "ليس إلاّ رؤية سياسية للواقع، رؤية الفرق بين المألوف (أوروبا وأمريكا: هم) والغريب (الشرق: نحن) والتمييز له ليس مسألة نفسية لإبداء الفروق الوصفية بل هو مسألة سياسية تدخل في نطاق التعليم والتربية والتبليغ الإعلامي وضمن نطاق توجيه السياسة الخارجية لهذه البلدان." فكشف سعيد خفايا الإستشراق ونوامصه وكيفية تحوله إلى ورقة رابحة للهيمنة في يد السلطة السياسية، فيرى بأن الإستشراق هو:" نمط من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه" . بينما يرى د. رضوان السيد "أن الإستشراق يتناثر ويدخل في تخصصات متباينة كالتاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والإقتصاد والسياسة، ولم يعد هناك عالم واحد إسمه الإستشراق، بل هناك عوالم متباينة يحمل كل منها عنوان المجال الذي يهتم به، فإذا كانت مفاهيم الشرق والعالم الثالث والشرق الاوسط متباينة وغير علمية، فان مفهوم الإستشراق صار اليوم كذلك.
فرؤية "إدوارد سعيد" لـ "هم" أي يقصد الغربي المسيحي و "نحن" العربي الإسلامي وتقسيمه لهذه التقسيمات ففي كتابه يتطرق إلى الرؤية السائدة على العربي الإسلامي بكونه همجي متطرف يعجز عن التفكير ومتعصب، والغرب المختلف والمنفتح المتطور، فمثل الإستشراق هدفا لفرض الهيمنة وغرس النزعة التسامحية التي تعتلي الدين المسيحي حسب فكر الأوروبيين والإنتفاع بالمنطقة الجغرافية التي تمثل كنزا ثمينا محملا بالحيوية تضخ الحياة وتنعش إقتصاد الدول الاوروبية وتساهم في تسويق صناعتها وسلعها في رقعة جغرافية أوسع. فقدم "سعيد" نقدا لاذعا للغرب في كتابه "الإستشراق" بعودته على جانب المصلحة الذي طغى والرؤى الإستعمارية الإحتلالية القائمة على التحكم والهيمنة وبالتالي كشف إدوارد على خفايا زعزعت النظرة اللطيفة التي روجها الغرب على الإستشراق, فمثلت كتاباته عنصر مهم في الفهم الصحيح لظاهرة الإستشراق وغاياته السياسية والإيديولوجية، والهيمنة الغربية على جميع الأصعدة سياسياً وإجتماعياً ودينيا وفكريا والقيود التي فرضها الغرب على الفكر والإيديولجيا الشرقية.



1. الاستشراق في أفق انسداده -د. سالم حميش -سلسلة الدراسات (3) منشورات المجلس القومي للثقافة العربية -ط 1 / 1991.
2. إدوارد سعيد، الإستشراق، المعرفة السلطة الإنشاء، مؤسسة الأبحاث العربية،2003، ترجمة كمال أبو ديب.
3. محمود حمدي زقزوق: الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المعارف، القاهرة 1997
4. عبدالله محمد الأمين: الاستشراق في السيرة النبوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1997، ص16
5. ساسي سالم الحاج: نقد الخطاب الإستشراقي، ج1، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002،، ص20.
6. المبروك المنصوري، الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة: الاستشراق، القرآن، الهويّة والقيم الدّينيّة، تونس، الدّار المتوسّطيّة للنّشر، 2010.
7. نفس المصدر 2 ص120
8. رضوان السيد: مجلة الفكر العربي العدد: 31، ص9.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عن الشرق قال بيرم التونسي
صلاح الدين محسن ( 2020 / 11 / 24 - 17:42 )
يا شرق فيك جوّ منوّر والفكر ضلام
وفيك حرارة يا خسارة . وبرود أجسام
هي الشموس بتخلّي الرؤوس تبقي باتنجان !؟

وبعدما زار لندن وباريس , جن جنونه من تمدُّن لا مثل له في بلده . فكتب , ما يغنّيّه
أكثر من مطرب : حتجن يا ناس يا ريت يا اخواننا ما رحتش لندن ولا باريس

رغم علاقة الاستشراق بالاستعمار .. فالشرق استفاد منهما بالكثير مما كان ينقصه - ولو بدون قصد منهما
والمبالغة في كراهية الاستشراق و المستشرقين , أظن مرجعها اختلاف الدين , وبفعل رجال الدين والمتعصبين دينياً
الاستعمار الفرنسي لمصر جاء ومعه مستشرقوه ! فوضعوا كتاب - وصف مصر - لا مثيل له في الثقافة المصرية للآن ! - وادخلوا - لأول مرة - المطبعة , واشياء حضارية أخري - واكتشفوا حجر رشيد , وفكّوا به رموز لغة مصر القديمة. و لولاهم ربما ظلت لغزاً للآن ! , والمستشرقون استخرجوا الآثار وبنوا لها المتاحف ..وفي الشعر والأدب , أخرجوا لأول مرة بعض من اندفنوا في ثقافة بلادهم كشعر عمر الخيام , و نقلوه من الفارسية للانجليزية
شرقيون نهضوا - كاليابان , وغيرها - والشعوب المُعَورَبَة لا نهضت ولا كفّت عن شتم الاستشراق والاستعمار
شكراً أ . عفاف

اخر الافلام

.. على حلبة فورمولا 1.. علماء يستبدلون السائقين بالذكاء الاصطنا


.. حرب غزة.. الكشف عن نقطة خلاف أساسية بين خطة بايدن والمقترح ا




.. اجتماع مصري أميركي إسرائيلي في القاهرة اليوم لبحث إعادة تشغي


.. زيلينسكي يتهم الصين بالضغط على الدول الأخرى لعدم حضور قمة ال




.. أضرار بمول تجاري في كريات شمونة بالجليل نتيجة سقوط صاروخ أطل