الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير

حامد تركي هيكل

2020 / 11 / 24
الادب والفن


حكاية القصر

من يدخل بيت آل دهش الواقع على الضفة الشمالية من نهر العشّار لا يملك إلّا أن يحبس أنفاسه دهشة مما يرى من الجمال الباذخ والأناقة الفائقة. فكيف اذا كان الداخلون هم شهاب وغصن والولدين من قرية باب الشمس. هذا عالم لا يمكن تصوره. فالأبواب المصنوعة يدوياً من خشب المهاغوني والساج والأبنوس والمنقوشة بزخارف غاية في الدقة، والمدهونة بالزيوت العطرة تكاد تتوهج في الضوء. الجدران الطابوقية الذهبية اللون والحسنة الترتيب، والمليئة بالنقوش يسلب جمالها الألباب. ثمة أُطر حول الفتحات غائرة تارة، وبارزة تارة أخرى، وثمة خطوط أفقية برزت زوايا الطابوق بشكل مائل فيها من سطح الجدار على هيئة أفاريز أفقية. وثمة سطوح نُقشت فيها نجومٌ ودوائرٌ متداخلة ومتقاطعة، خطوط متواصلة لا نهائية تستولي على نظرك فلا تملك منها فكاكاً، فتأخذك في دورانها وصعودها ونزولها الى عالم عجيب من الهدوء والسكينة. أما الأرضيات فهي صقيلة مُرَحِّبة، ومنقوشة بمربعات ملونة مبهرة. أما السقوف والأعمال الخشبية التي ملأت الفراغات فهي السحر بعينه. سطوح من الخشب المحفور والمعشق منسوج كضفائر حول مرايا وقطع من الزجاج الملون تسكب في الفضاء الداخلي ألواناً لا يمكن لشهاب وولديه أن يجدوها في أي مكان آخر. وأنى لهم أن يجدوها وهم لم يدخلوا بيتا من بيوت المدينة غير هذا القصر.

لم يكن بيتا عادياً ذلك القصر الذي بنتْه نبع عندما كانت في ريعان شبابها وعنفوان مجدها، بل هو ثلاثة بيوت متداخلة. بيت العائلة هذا الذي دخله القادمون للتو عبر مسالك المياه الممتدة وهم يحملون سلّوم مريضاً بالإسهال الذي لازمه منذ أن كان يجوب سهول الحويزة. وهو فناء مربع تحيط به غرف يتكون من طابقين، يرتبط ببيت آخر أكبر منه تشغل الطابق الأرضي منه غرفٌ كانت أبان سنوات المجد الغابرتستعمل كمكتب لإدارة أعمال العائلة المتشعبة، فضلا عن غرف للطعام ولاستراحة الضيوف. أما غرف الطابق الأول فقد خُصَّصت لمبيت الضيوف القادمين من البحر، ومن الصحراء، ومن المدن الأخرى. وثمة بيت الخدم وهو من طابق واحد يتكون من غرف كثيرة تحيط بحوش واسع حيث كانت المؤن تخزن، والطعام يطبخ ويوزع يومياً. وهناك كان يسكن عدد من الرجال العاملين لدى العائلة منذ زمن بعيد.

تم بناء هذا المجمع الضخم في بداية القصر العشرين. ومن هنا كان ضيغم ابن دهش يدير أعماله، ذلك الشاب الذي تدرج من كاتب لدى ملّاك الأراضي الى كاتب لدى تجار سيف الحبوب، حيث كانت البضائع ترد من البر والبحر، على ظهور السفن النهرية والبحرية والجمال، يوم كانت التجارة عالم مفتوح وآفاق لا حدَّ لها، تربط الشرق بالغرب. وحين تمكن ضيغم أو بالأحرى حين تمكنت نبع من الإلمام بأسرار حركة البضائع، أسست العائلة نشاطها التجاري الخاص مستفيدة من تاريخها الصحراوي القديم، وعلاقاتها بمزارعي النخيل وعلاقاتها بالتجّار الذين عمل ضيغم معهم ردحاً من الزمن.

كان على المرء أن يكون حريصاً ليتمكن من جني ثمار الأعمال الرائجة قطعاً ذهبيةً لا تُعَدُّ ولا تحصى. فكان لابد من تحويل الذهب الى أراضٍ وبساتين، يرعاها فلاحون كثر، ولا يرد الى هذا البيت الا ريعُها، فضلا عن الكَيل، وهو ما لذَّ وطاب من تمرٍ مكبوس من أجود ألانواع كالقنطار والبرحي والشويثي وأم البخور وأم الدهن، ودبس دمعة مختوم، فضلا عن القمح والرز زاداً للعائلة ولضيوفها الذين لا ينقطعون عنها، وللآكلين من خيرها من الفقراء طيلة أيام السنة. وكان لابد من تحويل بعض القطع الذهبية الى قطعان من الأبل والغنم يتكفلها الرعاةُ في عمق الصحراء، ولا ترد الى هذا البيت إلّا أرباحُها، وما لذَّ وطاب من ألبانها المجففة، وزيتها المُصَفّى، وبعضُ ما ينسجُ النسّاجون من صوفها. وكان لابد من تحويل الذهب الى أبوامٍ وسفنٍ تمخر عبابَ البحر يعمل عليها ملّاحون كثر، لا يرد منها الى هذا البيت الا ذهبٌ وفير، وتحفٌ من بلاد الهند والسند، وعاج وساج وحرير وبخور وعطور.
كان ذلك القصر كخلية نحل تعمل كلَّ أيام السنة، ولكنّها صمتتْ حين اضطربت أحوال البلاد، فقد هاجر التجّار، وأصيبت الحركة التجارية بركود. فبساتين التمر لم تعد تأتي بريعها المعتاد، والسفن توقفت، وبدأت الحكومة تسيطر على الأعمال شيئا فشيئا، وصار ينظر الى الاغنياء بريبة. أما الشارع فقد غصَّ بأعداد غفيرة من الناس وهم يصرخون غاضبين، لا يستطيع سكانُ القصر معرفة ما الذي كانوا يريد هؤلاء الغاضبون. ورحل العاملون بالقصر والخدم والطباخون وغيرهم. أما السجلات فقد تكدس فوقها الغبار.

ضيغم ابن دهش عاش حتى التسعين من عمره، وكان في زمن الاضطراب ذاك حبيس غرفته سعيدا، لا يدري ما الذي كان يحصل، وقد نسيَ كل تلك الاحداث الملحمية، نسي الاعمال والنخيل والتجارة والسفن، ونسي الدعاوى التي أُقيمت ضده بالمحاكم، ونسي الدعاوى التي أقامها هو ضد خصومه، ونسي الرحلات البحرية الى الخليج وعُمان والهند وزنجبار. نسي كل ذلك، ووجد نفسه أسير لحظات قديمة جداً عندما كان شاباً على صهوة حصانه، يقاتل مع أبناء عمومته القبائل المناوئة في الفلوات وعند تخوم الأهوار، ويعشق نبع حدَّ الجنون. كان جسده الهرم حبيس غرفته لا يخرج منها أبدا، بيد أن روحه كانت تجوب تلك الأرجاء التي لم يعد لها وجود حالماً باختلاس نظرة من محبوبته نبع التي أسرت قلبه.

أما سهيل ابنه الذي بقي في بيت العائلة وحيداً بعد أن فرَّ أخوه الكبير غانم ليطارد شهواته ونزواته، فقد بدت عليه علامات الشيخوخة المبكرة هو الآخر. لقد تعب من مجاراة أمه، وتعب من متابعة تلك الأملاك والأموال الطائلة الممتدة من عمق الصحراء الى عرض البحر. وقد كان تمنى يوماً لو أنه استراح من هذا العبء الثقيل. ولكنه ندم على تلك الأمنية التي تمناها. فها هي الأحداث تأتي تباعاً لتقضي على ملك العائلة وثروتها. وتحيل حياتهم الى خراب. وها هي الأحداث تتسلل الى دارهم، والى أبناءه الثلاثة، فينشب الصراع بينهم، وتنشأ العداوة فيهم.
فرغت مخازن الطعام والمؤن، وراحت الفئران تعبث ببيت الخدم. أما بيت الضيوف فقد بدا موحشا، حين أرتجت أبوابه، ولم يعد أحد يتردد عليه. وحين داهمت الشرطة بيت الضيوف وبيت الخدم، فرَّت السنونوات التي كانت تعشش في السقوف من النوافذ مذعورة، وخرجت القطط التي كانت تتصيَّد الفئران من الرازونات العالية الى الأسيجة ومنها الى السطوح. عندئذ تأكد المفوض الذي كان يقود مفرزة التفتيش أن البلاغ الذي كان قد وصل اليهم كان كاذباً تماماً.

لم يجتمع الأخوة مرة أخرى في ذلك البيت منذ مدة طويلة. سالم كان يعتقد أن أهله وتجارتهم وأملاكهم ما هي إلّا مظهرا من مظاهر الظلم الطبقي. كان يفكر بالمسحوقين الذين يسكنون الأكواخ، وبالحمالين الذين كانوا ينقلون البضائع في الميناء. وكان يفكر بالثورة التي لابد أن تتفجر لتصحيح الاوضاع الفاسدة التي كانت تسود البلاد ليعمَّ الخير والجمال والسعادة. وكان يفكر بحبيبته السمراء التي فتحت عينيه وعقله، كان يفكر بأولئك الابطال الأسطوريين الذين اعتلوا أعواد المشانق ولما تفارق الابتسامة وجوههم. ولم يكن يرى غير ذلك. كان يعتقد أن تخليص المجتمع من هذا الوضع، ومن أمثال أخويه باغتيالهم أوتعليقهم كفيل بتحقيق ذلك الحلم الجميل!

أما غانم فقد كان يفكر بأبعد من ذلك، كان يرى أن أمةً ينتهك موانئها ومدنها الاغراب لا يمكنها ان تتحصل على أمنها! كان يعتقد إن تحصين البلاد من شرور الاغراب كفيل بتحقيق قوتها، لأن أمامها معارك لابد من خوضها والانتصار فيها. وكان يعتقد أن أهله وتجارتهم ليس الا مظهراً من مظاهر انشغال الأمة عن غاياتها الأساسية بأمور تافهة لا قيمة لها! ولذلك يتوجب ضربها حتى اذا كان ذلك يبدو شكلاً من تعذيب الذات. أما وجود أولئك الشباب المخدوعين بشعارات وأفكار منحلّة غريبة، فهو يمثل خطراً لا يقل خطورة. لذلك فقطع شأفتهم والتخلص منهم شرط من شروط النهوض!
بينما كان بخيت يرى بطلان ما ذهب اليه أخواه. فهو يراهما مخدَّرين بأمور دنيوية تافهة. فهو يعتقد أن الناس قد ضلوا ضلالا بعيدا، وأن عليهم أن يعودوا من أجل الخلاص من غفلتهم!
خاض الابناء الثلاثة نقاشات في هذا البيت سابقاً. وتعاركوا بالألفاظ وبالأيدي، وتقاذفوا بالصحون والكتب والأحذية. ولكنهم افترقوا ولم يلتقوا مرة أخرى. فسالم فرَّ الى إيران بمساعدة أقربائه ومعارف عائلته في تلك الليلة العصيبة التي سالت بها الدماء، أما غانم فقد أصبح فرداً من مليشيا شبه عسكرية، ثم بعد أن تغير الوضع، تم القاء القبض عليه وأودع السجن. أما بخيت فقد خرج من البيت وقيل أنه انتقل الى مدينة نائية. أما جدتهم نبع فقد سئمت منهم جميعا. أنتم كنتم السبب بموت أمكم أيها الحثالة.
انتشرت رواية ليس من سبيل للتأكد من صحتها. تقول تلك الرواية أن نبع كانت تنتظر بفارغ الصبر وفاة زوجها لأنها كانت تريد أن تتأكد من نهاية مشرفة لذلك البطل الشجاع الذي أحبها وأحبته، وأتعبته بطموحاتها منذ اليوم الذي طلبت منه أن يتعلم فك الخط وحساب الأرقام. وبعد أن تأكدت من دفنه وأقامة مجلس فاتحة يليق به، عزمت هي على الموت! فكرت أنها لابد أن تموت بوجود ابنها سهيل، وبوجود البيت قبل ان يتداعى هو الآخر. فطلبت من أبنها أن يوافيها الى غرفتها بعد أذان المغرب. عجب من طلبها الغريب. ولكنه عندما دخل عليها وجدها قد أنهت صلاتها. ووجد ابنته ختام واقفة هناك وهي ترتجف هلعاً. استلقت العجوزعلى فراشها، وطلبت منه أن يقرأ الشهادة عليها. عندما أنهى تلاوة الشهادة، نفثت نفسها الأخير وماتت بمنتهى الهدوء.

بعد خمسين سنة من تلك اللحظة التي دخل الولدان وأبوهما والعجوز غصن وهم يحملون سالم المريض خلسة الى ذلك المجاز المفعم بالضوء والجمال، بدا هذا المجاز مظلماً، ومهدماً، تفوح منه رائحة رطوبة الجدران المتسربة من السقف الآيل للسقوط بفعل الزمن، وبفعل آثار القصف الذي تعرض له منذ الحروب السابقة، رائحة ممزوجة بنتانة المياه الآسنة التي كانت راكدة في النهر بلونها الأرجواني الغامق حيث تطفوا قناني البلاستك والنفايات الأخرى. غرف الطابق الأول الخشبية اختفت، وقد اقتلعت أبواب الغرف في الطابق الأرضي، وحل محلها ستائر مهلهلة متسخة كانت تحفظ خصوصية العائلات الغريبة التي راحت كل واحدة منها تحتل غرفة مسكنا لها.
وتم تقسيم بيت الخدم الى عشرة أكواخ احتلتها عائلات أخرى قدمت من أماكن بعيدة. قُطِّع الحوشُ باستخدام الصفائح والقوالب الخرسانية المبنية بطريقة رديئة للغاية. أما بيت الضيوف فقد تم هدمه وبنيت دارٌ أخرى مكانه.

النهاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05