الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى عصر الرعب: توطئة

دلور ميقري

2020 / 11 / 25
الادب والفن


بسم الإله الواحد الأحد، الذي منَّ على رسوله الأمّي بالكتاب، مستهلّاً بالقول: " إقرأ ".. إلى آخر الآية. البدء والختام، عند رب العالمين، كان القراءة، وكان أن جعل مصائرَ خلقه مسجّلة سلفاً في اللوح المحفوظ.
وإنني عبدُ الله، أستهل هذا السِفْر بالقول، أنني حظوتُ بنزر من العلم كي أجعله قبساً لمن هم حولي وذلك بعدما كنتُ بنفسي تلميذاً أنهل المعرفة على يديّ أساتذة أجلاء في مسقط رأسي بمدينة السليمانية، مركز إمارة بابان، وأولهم والدي رحمه الله. وإعلم، يا مَن قُدّرَ لك قراءة هذا الكناش ( إذا بقيَ ولم يندثر؟ )، أنّ قَدَر الترحال كان من نصيبي وكأنما هوَ إقتداءٌ بالسلف الصالح مذ هجرة الصحابة إلى نجاشي الحبشة. كان الشامُ الشريف أحد محطات الحياة، وفيه كنتُ شاهداً على أحداثٍ مهولة، ستقرأها في الصفحات التالية؛ ولعلك تأخذ منها عبراً أو تكتفي بمتعة المطالعة لو وجدتَ فيها متعةً حقاً.
تلك الأحداث، بدأت في حقيقة الحال قبل عام واحد وسبعين ومائة وألف [ 1757 للميلاد ـ ملاحظة المحقق ]، التي شهدت حضور الوزير شتجي باشا الدياربكرلي من محروسة الأستانة مع جيش جرار كي يستعد لتأديب أعراب الحجازـ وكانوا في صيف ذلك العام قد وصلت بهم الجرأة حدّ مهاجمة وسلب قافلة الحج السلطانية ـ ولإعادة الهيبة للدولة. لقد ذهبت الشكوك إلى ناحية والي الشام المعزول، أسعد باشا، بتآمره مع أولئك الأعراب رغبةً منه في إظهار الوالي الجديد بمظهر العاجز عن القيام بوظيفته. كون شتجي باشا هوَ صاحبُ أمر العزل، بصفته الصدر الأعظم، فإنه أضحى أيضاً بموضع في غاية الحَرَج. على ذلك، نفهم لماذا نهضَ بنفسه لقيادة العسكر في الطريق إلى الحجاز. في الأثناء، كان أسعد باشا في طريقه إلى الأستانة كي يتسلم ولاية جديدة في البلقان. لكن الوزير أرسل فور وصوله إلى دمشق تتراً إلى مولاه السلطان، يتضمن شكوكه، آنفة الذكر، بذلك الوالي. وفي الوسع تخيّل ردة فعل السلطان إزاء التهمة، ما لو علمنا أن شقيقته الأثيرة كانت ضمن المحمل الشريف، المتجه لأداء مناسك الحج، وذلك حينَ دهمه الأعرابُ. وربما كان للتهمة سندٌ قويّ، بالنظر إلى أنّ أسعد باشا بقيَ والياً للشام مدة طويلة. حتى أنه بنى لنفسه قصراً يُعادل قصور تخت السلطنة، وربما فكّرَ أيضاً أنه يُمكنه توريث الولاية لأولاده من بعده.
لإدراك أهمية الولاية الشامية بالنسبة للدولة، وكذلك خلفيات الأحداث بشكل عام، ينبغي ذكرُ بعض التفاصيل الخاصّة بتنظيم الإدارة والتي هيَ في غاية التعقيد في واقع الأمر. فمنذ الفتح العثماني للبلاد، درجت العادة ألا يبقى الوالي في منصبه لأكثر من خمسة أعوام، بل إنه في هكذا مدة كان يتوالى على الولاية خمسة حكّام أحياناً. الفساد في حاشية السلطان، جعل شراء المناصب أمراً عادياً. وكان المهم للباب العالي، بالدرجة الأولى، حُسن جباية الوالي لمال الخزينة، وتحقيق الأمن بالدرجة الثانية. مع الفساد أيضاً، برزت قوة قادة الإنكشارية بحيث أنهم كانوا في فترة ضعف الدولة يتدخلون فيمن يجب توليته منصب الصدر الأعظم بل ويقومون بعزل السلطان ذاته لتعيين أحد أقاربه بمكانه. هذا إنسحبَ، ولا غرو، على أمور الولاية الشامية. فآمر الإنكشارية، كان في الغالب لا ينفذ سوى أوامر قادته في الأستانة وكثيراً ما ضربَ عرضَ الحائط بفرمان سلطان الكون. إزاء هذا الواقع، سمحَ الأخيرُ لولاته بالاستعانة بفرق من المرتزقة، ليتمكنوا من الوقوف بوجه الإنكشارية لو تمردوا على الأوامر أو نزعوا للفوضى والنهب والسلب. في العادة، أنّ كل والي كان يُجنّد أفراد المرتزقة من ملّته، أو مسقط رأسه، وعندما يُعزل يبقى هؤلاء في المدينة. لذلك تعددت الفرق، واتخذت أسماء الملل أو المناطق أو رموز معينة: الكرد والتركمان والشراكسة والبشناق والأرناؤوط والمغاربة البربر، والبغّادة والموصلية والكركوتلية والدياربكرلية وسواهم. بعض الفرق في دمشق، كان يغلب عليها أبناء ملتنا. هكذا كان لدينا اللاوند، وهيَ أعرق وأكبر الفرق مع الدالاتية والسكبان و السباهية.
اختصاراً، صارَ يُطلق اسم " الأورطات " على القوى العسكرية النظامية، تمييزاً لها عن " الوجاقات "، أي فرق المرتزقة. مع تزايد عدد هذه الأخيرة، أضحى استقرار الولاية الشامية من الأمور شبه المستحيلة؛ بحيث أن الباب العالي عليه كان أن يستعين لضبطها بباشوات الولايات الأخرى، سواء المجاورة أو البعيدة. لم تكن المنازعات محصورة بين الأورطات والوجاقات، حَسْب، بل أيضاً بين مختلف القوى ولأوهى الأسباب. القلعة الدمشقية، صارَ لها مكانٌ محوريّ في الأحداث كونها تضم فرقة الإنكشارية القوية ذات التسليح الجيد مع عدد من المدافع. في حين أن الفرق غير النظامية كان لكل منها قشلة خاصة، وعادةً ما تكون في حارةٍ يسكنها أفراد ملّتها. وكان لهؤلاء مقاهيهم الخاصة، مترتبة على ذات الإعتبار. حينَ تنشب الحرب بين تلك القوى، أو بمواجهة القوى النظامية، رأيتَ كل حارةٍ تنهض لحمل السلاح وإنشاء المتاريس. مدفعية القلعة، كثيراً ما كانت تصب نارها على أماكن محددة في المدينة، يتحصن فيها الخصوم.
ولكن، ماذا كان يفعل رجالُ الدين ( وأنا كنتُ واحداً منهم في ذلك الوقت ) للحيلولة بين الفرقاء أو على الأقل لمساعدة الأهالي المتضررين؟
مع الأسف، كانت الهيئة الدينية تعاني كذلك من الفرقة إلى استشراء الفساد في أوصالها. فضلاً عن المفتي، وكان المفترض أن يكون صلة الوصل بين الحاكم والهيئة الدينية، أحتل الأشرافُ مكانة بارزة في الهيئة. كوني من السادة البرزنجية، المتصل نسبهم بالدوحة الحسينية الشريفة، كنتُ بالطبع واحداً من هؤلاء الأخيرين. كان البعضُ يهمز من قناة انتمائي للملّة الكردية، لساناً وموطناً، لإلقاء الظلال على انتساب البرزنجية، الموسوم. لكنني كنتُ أرد بما كان شائعاً في أسرتنا، بأن أسلافنا انتقلوا من المدينة المنورة إلى سهل شهرزور في كردستان هرباً من إحدى الحملات العسكرية. والله أعلم.
يبقى القول، أنّ الفرق الصوفية أكتسبت قلوبَ أغلب جمهور المؤمنين بما فيهم فئة الخواص والأعيان. العلاقات ما بين تلك الفرق، لم تكن بأفضل مما بين فرق العسكر. زيادة عن ذلك، تسربت بين بعض الصوفيين آفاتُ الخمر والحشيش والميل إلى النساء والغلمان، لدرجة أن حملات الولاة على أماكن الفسوق، المتعاطية هكذا أمور محرّمة، كانت تخرج في كل مرةٍ مع موقوفين عليهم خرق الطريقة. الأمرُّ من ذلك كله، إنغماس أفراد الطرق الصوفية في منازعات فرق العسكر مناصرةً لهذه أو مناهضةً لتلك وفق العصبية الخاصّة بكل منهم.
بدعة أخرى، وجدت بين العامّة وتقبّلها أيضاً جانبٌ من الخواص؛ وهيَ الولاية أو النبوّة. حقاً إن الأولياء ظهروا سابقاً ومن قديم الزمان، لكنهم في عصرنا زاد بهم الشطح حدّ الزعم بامتلاك مفاتيح النبوّة. هذه الهرطقة، كان لها إذاً الكثيرُ من المناصرين بين مختلف فئات الرعية وذلك في إبّان كل نائبة تدهم البلد إن كانت بفعل الطبيعة أو خلافها. لقد شهدنا الزلزلة الكبرى، التي أحاقت بالشام وبرّها بعد عامين من تجريد شتجي باشا حملته على أعراب الحجاز، فأدت إلى دمار رهيب، بما في ذلك عمارة المسجد الأموي، علاوة على مصرع الآلاف. الطاعون، أعقبَ الزلزلة، ليحصد الأرواح بشكل أكبر. وكانت ثالثة الأثافي، المجاعة، بحيث أن الناس التهموا حتى الميتة والقوارض وأوراق الشجر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كذلك كان الوضعُ، عندما بدأتُ بمسك القلم لتدوين وقائع زمني، بما فيها أحداث شهدتها بنفسي أو سمعتها من أناس على صلة بها. وكنتُ قد حللت بمكان أبي المرحوم على رأس أسرتنا الشريفة، التي اتبعت نِحْلَةً صوفية بعيدة عن الهرطقة والغلو. برغم سنّي الفتية آنذاك، وجدتني قريباً من أصحاب الشأن سواءً في دواوين الولاية أو خارجها. الحال، أن وضعي الموصوف، جعلني في قلب الأحداث أكثر منه شاهداً عليها. روح الشباب، دفعتني دفعاً للمشاركة في وقائع محددة دونَ الشعور بالندم أو الإثم. الآن، وأنا في عُمر الشيخوخة، لو شاء رب العالمين إعادة امتحاني بكل تلك النوائب، فإنني ساكون راضياً تماماً. الحياة، مثلما تعلمتها من تجاربي، هيَ أن يكون المرءُ في قلب الأحداث لا على هامشها.
والآن، عقبَ قراءتك هذه الكلمات التمهيدية، أدعوك لاجتياس متن كناشي، الذي سجّلتُ صفحاته بتأنٍّ شديد وعبرَ سنيّ العُمر المديدة، المنقضية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هوليوود في دقائق.. خيارات صباح العربية لك في السينما والمنصا


.. بعد هروبه من بلاده بسبب القمع.. المخرج الإيراني محمد رسولوف




.. فيلم -أنورا- يحصل على السعفة الذهبية.. تعرف على جوائز الدور


.. الأهلي هياخد 4 ملايين دولار.. الناقد الرياضي محمد أبو علي: م




.. كلمة أخيرة -الناقد الرياضي محمد أبو علي:جمهور الأهلي فضل 9سا