الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم التسامح عند فولثير

محسن وحي

2020 / 11 / 25
حقوق الانسان


مما لا شك فيه أن الحضارة الغربية لم تكن لتشهد عصر النهضة والأنوار والحداثة، لولا مجموعة من الفلاسفة الكبار الذين دافعوا عن الإنسان، بما هو قيمة مطلقة وغاية في ذاته، يستحق الكرامة والسعادة في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة. يعد فولثير أحد هؤلاء الفلاسفة الذين أسسوا "لقيم العيش المشترك"، إذ أنه كان مناقضا بشدة للظلم والتعصب والعنف الذي كان منتشرا بين المذاهب المسيحية المختلفة في زمانه، ودعا إلى ضرورة الحد من هذا العنف الديني وإحلال ثقافة السلم والتسامح بدله. إن التسامح، حسب فولثير لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية، في حين أن عدم التسامح قد عمم المذابح على وجه الأرض(فولثير، 2009، ص 39). وقد كان فولثير أيضا مدافعا عن المظلومين في المجتمع الذي عاش فيه، كدفاعه عن قضية "آل كالاس"، والتي خصص لها فصلين في كتابه" رسالة في التسامح". كتب فولثير هذه الرسالة تحت تأثير أفكار جون لوك حول التسامح؛ لأن رسالة لوك ألفت حوالي قرن قبل فولثير. وكان هدفه من كتابة هذه الرسالة هو أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وذلك من أجل مواصلة الكفاح ضد التعصب والعنف الذي كانت تعاني منه أروبا بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص، والتي عانت من حرب الثلاثين سنة) 1618 –1647 ( بين المذاهب المسيحية. في إطار هذا السياق نتساءل مع فولثير ما هي الأسباب التي تقف وراء التعصب الديني؟
إن التعصب، حسب فولثير، هو نتيجة لاعتقاد المذاهب المسيحية امتلاك الحقيقة، وأن مذهبها هو وحده الصحيح. هذا الأمر يذكرنا بالتعصب وعدم التسامح الموجود بين الفرق الإسلامية، والتي تقاتلت فيما بينها، منذ ظهور الخوارج إلى اليوم، خاصة المتعصبين من السنة والشيعة. إنه قانون التعصب الذي يعتقد أن "الحقيقة مذهبي وما أقوله أنا هو الصحيح". اللاتسامح الموجود بين هذه المذاهب الدينية هو تعبير عن حالة الإنسان الأولى التي عبر عنها فلاسفة التعاقد الاجتماعي بحالة الطبيعة. إنها وضعية من التوحش والاحتكام إلى الغرائز والانفعالات السلبية بلغة اسبينوزا. واللاتسامح تعبير كذلك عن الجهل، إذ أن الإنسان الذي يتحكم فيه الجهل لا يشعر بأي ضرورة للتعلم، مادام أن الآخرين لا يفكرون على نفس شاكلته. إنه إنسان يؤمن أن كل ما يعتقد الآخرين هي ضلال مبين، لذلك فهو لا يريد أن يسمع، ولا يريد أن يتحاور معهم، في حين أن الحوار هو الشرط الإتيقي لكل علاقة إنسانية. يمكن القول، إذن، أن الجهل والدوغمائية هي سبب التعصب واللاتسامح. وهي نفس الفكرة التي دافع عنها سقراط، بحيث أنه ربط بين الجهل والشر، إذ أن الأفعال الشريرة التي يقوم بها الإنسان، حسبه، هي نتيجة لجهله، ولو حصل له العلم أو المعرفة لسلك طريق الفضيلة، ومادام أنه جاهل فسيسلك طريق التعصب وعدم التسامح مع الآخرين المختلفين.
بالإضافة إلى ذلك، يرى فولثير أن من بين أسباب وجود التعصب واللاتسامح هو انتشار الخرافة، إن المؤمن بالخرافات يحكمه بالضرورة منطق التعصب. العلاقة بين التعصب والخرافة علاقة جدلية، فكلاهما يغدي الآخر، فما يزيد من قوة التعصب هو تصديقه للخرافات والتعصب لها. كان يهدف فولثير من مؤلفاته القضاء على هذا التعصب المنتشر، ولهذا ألف "رسالة في التسامح".
لا يمكن فهم "رسالة في التسامح" لفولثير إلا بربطها بالسياق العام الذي عاش فيه. لقد أشرنا سابقا إلى أن انتشار التعصب بين المذاهب المسيحية هو السبب الرئيسي الذي جعل الفلاسفة يتصدون لحالة اللاتسامح هذه. في هذا المضمار يقول فولثير: " إن الحق في التعصب حق عبثي وهمجي؛ إنه حق النمور وإن فاقه بشاعة: فالنمور لا تمزق بأنيابها إلا لتأكل، أما نحن فقد أفنينا بعضنا بعضا من أجل مقاطع وردت في هذا النص أو ذاك"(فولثير، 2009، ص 48).
اعتبر فولثير أن أروبا في زمانه هي المكان الوحيد في العالم الذي يخلو من التسامح، بخلاف مجموعة من الأمم التي عاشت في جو من التسامح والعيش المشترك. هذا الأمر يظهر بشكل واضح عندما استشهد بمجموعة من التجارب التاريخية التي عرفت حالة من التسامح والتعايش بين مختلف العقائد والأديان. أول هذه المجتمعات التي استشهد بها فولثير هو المجتمع الإغريقي، لقد كان في نظره مجتمعا متسامحا، ويتجلى هذا التسامح في حرية التفكير والتدين التي كانت مكفولة للجميع، فقد كان للأثينيين هيكل مكرس للآلهة الأجنبية(فولثير، 2009، ص51). وهذا خير دليل على أن الإغريق كانوا متسامحين مع الأمم الأخرى، بل حتى مع نفس أبناء جلدتهم، إذ أنهم لم يعارضوا، بالرغم من تدينهم الشديد، إنكار الأبيقوريين للعناية الإلهية ولوجود النفس(فولثير، 2009، ص 49).
المثال الثاني الذي استشهد به فولثير هو المجتمع الروماني. لقد كان هذا المجتمع في نظره مجتمعا متسامحا، وما يؤكد ذلك هو الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها الفلاسفة والعلماء في تلك الحقبة من التاريخ، على الرغم أن أفكارهم كانت مخالفة لما كان سائدا داخل المجتمع الروماني. في هذا السياق يقول فولثير: "عند الرومان القدامى، منذ رومولوس وحتى عهد دخول المسيحيين في نزاع مع كهنة الإمبراطورية، لم يتفق قط أن اضطهد إنسان واحد بسبب أرائه. فقد شك شيشرون مثلا، في كل شيء، ولم يتردد لوقراسيوس في أن ينفي كل شيء أيضا، ومع ذلك لم يوجه إليهما أبسط لوم. بل تمادى بلينوس الطبيعي في الجرأة فاستهل كتابه بنفي وجود الله"(فولثير، 2009، ص53). بالإضافة إلى هذه المجتمعات التي كانت متسامحة استشهد فولثير بالمجتمع الصيني الذي كانت تتعايش فيه اثني عشرة ديانة مختلفة.
يمكن القول أن الغاية التي جعلت فولثير يستشهد بهذه المجتمعات التي عرفت التسامح هو أن يضع المذاهب المسيحية أمامها، حتى تعرف مدى همجيتها مقارنة بهذه الأمم، وكأن حال لسانه يقول: يا أيها المسيحيون خذوا العبرة والصورة الحسنة من هذه المجتمعات، ولا تكونوا ممن يدعي المحبة والتسامح وهو مستعد لقتل أخيه الإنسان باسم الدين الذي هو منه براء.
 نقد تعصب المذاهب المسيحية من الداخل:
لقد خصص فولثير فصلا كاملا من كتابه "رسالة في التسامح" من أجل نقد تعصب المذاهب المسيحية من الداخل، وذلك من خلال بيانه أن السيد المسيح نفسه لم يكن من دعاة التعصب أو العنف باسم الدين، ولم يدعوا إلى إقامة محاكم التفتيش وقتل المخالفين للدين المسيحي، كلا ما كان ذلك من الدين في شيء، بل هي أفعال ناتجة عن غطرسة الكنيسة المسيحية ورغبتها في التسلط على رقاب الناس باسم الدين المسيحي. استشهد فولثير، في هذا السياق، بالعديد من الأمثلة التي تبين أن السيد المسيح لم يكن يوما ما يدعوا إلى العنف، بل كان شخصا متسامحا. في هذا المضمار يقول فولثير:" تدعوا أقوال المسيح وأفعاله قاطبة إلى اللطف والصبر والحلم. مثال ذلك رب الأسرة الذي يفتح ذراعيه لابنه الضال، والعامل الذي وصل في أخر ساعة وتقاضى أجره بكامله أسوة بسواه، والسامري فاعل الخير. وقد برر المسيح بنفسه لتلامذته عدم صيامهم، كما غفر للخاطئة، واكتفى بأن أوصى المرأة الزانية بالإخلاص لزوجها"(فولثير، 2009، ص126). هذه الأمثلة وغيرها تبين أن التعصب والعنف لم يكونوا يوما ما من أساسيات الدين المسيحي، بل هو حالة عرضية في نظر فولثير ويجب استئصالها. لهذا يجب على المذاهب المسيحية العودة إلى هذه الأصول إن أرادت أن تتكلم باسم السيد المسيح. هذه العودة إلى الأصول سيقوم بها، فيما بعد، وحتى قبل ذلك، مجموعة من المصلحين الدينين مثل "جون كالفن" و"مارثن لوثر"، تحت ما يسمى بحركة الإصلاح الديني التي دعت إلى التخلي عن بعض الطقوس الكنسية الزائدة. وقد لقيت هذه الحركة معارضة شديدة وصلت إلى حد قتل المصلحين من طرف الكنيسة المركزية، مثل تخلصها من المصلح التشيكي "جون هوس"بإحراقه سنة 1415
 التسامح الكوني من منظور فولثير:
إن المنظور الكوني للتسامح عند فولثير يتجلى في هذه القاعدة: "إعتبار جميع البشر إخوة"(فولثير، 2009، ص163). إن هذه القاعدة في نظرنا تشكل جوهر التسامح عند فولثير، والسبب في ذلك أنها تؤسس للهوية الإنسانية بدل الهوية الثقافية، وبصيغة أخرى تعتبر أن العوامل الثقافية بين البشر عوامل ثانوية، لكونها نتاج طويل من وقائع التاريخ، في حين أن الإنسانية هي ما يجمع البشر. في هذا المضمار يقول فولثير: "أدعوكم إلى اعتبار البشر جميعا إخوة لكم. ماذا؟ قد تجيبون؛ أيكون التركي شقيقي؟ والصيني شقيقي؟ واليهودي؟ والسامي؟ أجل بلا ريب؛ أفلسنا جميعا أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد"(فولثير، 2009، ص163). من شأن هذه القاعدة الكونية للتسامح أن تجنب الإنسانية حالة التعصب واللاتسامح، وذلك عن طريق إزالة العوامل الثقافية التي تقيم حواجز سيكولوجية مع الغير المختلف. ومن شأنها أيضا أن تؤسس لأخلاق التسامح التي تستمد أسسها من اعتبار البشر جميعا إخوة في الإنسانية، ولا فضل لدين أو عرق على آخر، مما يمكن من إقامة علاقة إيجابية مع الغير المختلف، والتي يحكمها منطق الاعتراف والاحترام، بدل التعصب واللاتسامح. بالإضافة إلى ذلك فهذه القاعدة، في نظرنا، تشكل الأساس النظري لإعلان مبادئ التسامح، الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة بباريس إبان الدورة الثامنة والعشرين للمؤثمر يوم 16 نونبر 1995.
يمكن القول أن "رسالة في التسامح" لفولثير شكلت لحظة تاريخية مهمة في الفكر الإنساني، فهي أحد النصوص الفلسفية التي بنيت عليها الحداثة الغربية، والتي أعلت من شأن الإنسان، وأعادت الاعتراف بحقوقه الإنسانية. وتكمن راهنية هذه الرسالة في دعوتها للتسامح بين المذاهب المسيحية التي كانت تعيش في حالة من التعصب الديني المفضي إلى العنف. بالإضافة إلى ذلك دعوة صاحبها إلى تسامح كوني يذيب جميع الحواجز الثقافية بين البشر. إن التسامح، في إطار هذا السياق، يقتضي احترام كرامة الإنسان والاعتراف بالغير المختلف، مهما كانت معتقداته أو جنسه أو لغته، فنحن جميعا إخوة في الإنسانية. إنها أخلاق التسامح التي تؤدي إلى بناء مجتمع إنساني مفتوح بلغة كارل بوبر، بدل مجتمع مغلق ومتعصب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي


.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية




.. كاميرا العربية ترصد نقل قوارب المهاجرين غير الشرعيين عبر الق


.. هل يمكن أن يتراجع نتنياهو عن أسلوب الضغط العسكري من أجل تحري




.. عائلات الأسرى تقول إن على إسرائيل أن تختار إما عملية رفح أو