الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة الخطى

علي شبيب ورد

2006 / 7 / 15
الادب والفن


على الصخب مذعورة تستيقظ ، تفرك مقل نعاسها بالخطى المرعبة ، تستجير بالأسيجة عندما الشوارع تتلعثم . وعندما على تخومها يذرف اللهاث بحاره المظلمة ، يبلسم الصمت أوجاعها . وإذْ تلوذ بالحفر - بعدما التدمير الباسل يرسم خرائط ولائم الإنتصار - فإنها تنوح دون شفاه مخافة أن تفشي سرّاً ما . عادة تمتهن العزلة ، درءاً للفضول . وتلتحف الدهاء ، نكاية بالهوان . بالمحاذاة وحدها أثّثت عالما مغريا للحثيث . وخاصمت كل ما يخدش الذاكرة .
والمحاذاة صيّرت منها حاضنة أسرار خارقة . بمفردها سوّرت منظومة خفايا مرعبة لشبهات مقطّبة / أفراح موقوتة / فضلات سباب / ثقافات لئيمة / إحباطات دائمة / وشايات مبتكرة . وبدماثة خلقها مدّت فسحا عامرة بمقل تلصّص / ميتات رخيصة / صفقات مريبة / كواليس تواطؤ . و تحملت بصبرٍ مذهل هذيانات سماسرة لامعين / شعراء بائسين / موظفين باعة / بنات هوى / قطط ناقمة / كلاب انيقة . ولرهافة حسّها فهي تتأوّه حينا لغياب زهرة / شجرة / نخلة . وتحزن كثيرا لحضور حفرة / بركة / قمامة . وتصعق أبداً لتراجيديا الجثث .
أنا من هذه السلالة الطيّعة إلى الحد الذي يفوق التصور . سلالة ما أربكتها عثرات وركلات وتجاوزات سلالات أخر . على الجانب الآخر لأي شارع في الكون يتمدد أخي التوأم . في حقيقة الأمر نحن أبناء شوارع ، ولكم نفخر بذلك . اجل ولدنا في الشوارع وفيها نحيا ونموت . نسير مع الشوارع في امتداداتها وانعطافاتها ، غير أننا نغيب عنها أحيانا في بعض الدروب بحثا عن الحرية . لا نطيق العيش أبدا في الممرات الضيقة . كيف يمكن لنا العيش في أزقة الحارات القديمة ، لا سيّما المعدمة ؟ لانتحمّل النظر إلى شرفات بيوتها وهي تتشابك بالأيدي مع شرفات بيوت أخر ، تلافيا لإنهيار وشيك . عادة لا ندخل البيوت ، ليس لأن للبيوت أسرار كما يقال . بل لأنها وبلا سبب ترمي بها على رؤوسنا كما الفضلات . ربما ندخل البيوت الفخمة ، لا لشيء إلاّ لإثبات بطر ساكنيها . سفرنا هو سفر شوارع مدن بلاد ما بين النهرين منذ فجر التاريخ بدءً بالمدن السومرية الاولى / أوروك / أور / شروباك / نفر / أريدو ومرورا بالمدن البابلية والمدن الآشورية . وانتهاءا ببغداد الرشيد التي حوّلتها الحروب اليوم إلى شمطاء سليطة اللسان لا أكثر . إذ راحت شوارعها تتنافس بجدارة فريدة لعرض مفاتن خرابها اليومي . ما يشير إلى قدم وجودنا ما ذهب اليه أ . ليو أوبنهايم ( أما بالنسبة إلى مينة أور فنجد مقطعا محدودا – من لوح - عنها يشتمل على أقسام السكنى والشوارع ، حيث ان شوارعها لها اتجاه يتميز بالإتساع وبالممرات القائمة الزوايا ، وان بعض شوارعها تنعطف إلى مناطق مخرّبة والى الحقول والبساتين والمساحات الخالية ) وما يثبت جدوانا لكم ، هو مروركم علينا كل لحظة دوما ، غير أنكم لا تعرفوا مثلا أننا نؤرشف أبدا نوايا الخطو ، ونلملم نثار الفضائح ، ونقارع براثن الهدم ، ونشاكس أفانين المحو، ونحتضن بأوجار صدورنا رعونة البارود وفخاخ الإبادة .
مريرة هي الحروب . كم من المدن والأنام أبادت ؟! ويا لفلسفتها العائمة على بحار الدم . والمانعة لسبل الخير والمودة . ويا لأهوالها التي قبرت تحت جلبابها المهول حضارات الضوء الإنساني ، منذ المدن الاولى التي ترزح تحت أتربة الأهمال . وها هو أحد شعراء سومر يرثي مدينته أور بعد حرب مدمرة أطاحت بالملك ( آبي – سين ) آخر ملوك سلالة أور الثالثة :
( مرّ أيّتها المدينة طعم رثائك . أيتها المدينة ذات الأسم الشهير ، لقد هدّموك . أيتها المدينة ذات الاسوار العالية ، قد أبيدت أرضك . مدينتي لقد أبعدت عنك مثلما تبعد الحملان عن الشاة الطيبة . أور أصبحت كالعنزة الطيبة التي ابعد عنها صغارها ، أيتها المدينة طقوسك كانت ترهب الاعداء ، والآن قواك الإلهية قد نقلت إلى البلدان البعيدة ) لنا أخوة في العالم المتقدم يعيشون حياة رغيدة ، حيث الشوارع الرائعة والحدائق المدهشة والجنائن الغرائبية وووونحن في العالم المتخلف للأسف نفقد نضارتنا كل حين ، الخراب يطال أجمل المدن جرّاء المفاهيم النعراتية والإنتماءات القارّية . والتوجس الدائم من أخطار التقنيات الحديثة . ولشد ما يتضح ذلك بجلاء لدى العرب ، وتطرّفهم الجنوني للحفاظ على هرم الولاء ، بالإستماتة في إدامة وتزويق نظرية المؤامرة المقيتة التي يقدّسها أغلب حكامهم ، وذلك لجدواها السحرية في إقناع العامة للتضحية بأنفسهم كوقود فعّال لحروبهم الأزلية المفضية الى تثبيت مؤخراتهم على كراسي الظلم . اجل الحروب الأبدية التي حولت المدن إلى براكين حطام يتشظّى أبدا على أبداننا المتآكلة . إعتدنا على أن نتلقى بلا مبالاة وعلى الدوام كل أثر يخلفه أبناء آدم – القابيليون طبعا – لنعبر عن ذواتنا بتقارب تام مع اسلوب ستيفن أحد أبطال جويس ( سأحاول ان اعبّرعن ذاتي في اسلوب من الحياة والفن باقصى ما يمكنني من حرية ومن تكامل مستخدما في الدفاع عن نفسي تلك الاسلحة الوحيدة التي أبيحها لنفسي – الصمت والمنفى والدهاء . )
الصمت لغتنا الأثيرة ، وفي أروقة متحف هدوئنا الابدي تتنافس خطى مراميكم الصاخبة .
المنفى عالمنا المجهول ، وعلى فسح ترفعه الرصين تتسكع قبوركم العظمية المتلاطمة .
الدهاء سمتنا البهية ، وفوق حصى مهاراتها تتكسر جرار خفايا أعماقكم المعتمة .
ترى من يفكر بإعادتنا إلى جدوى وجودنا غيركم ؟! أم أنكم لاهون في إشباع سرائركم بأسلحة الحنق والضغينة والغل ؟! ما وجدنا للقبح بل للجمال . ماذا بنا تفعلون ؟! يا لقساواتكم !! جلودنا مدوّنات خطاكم ، أعمارنا تستبطن كنوز ذاكرة ، أرشفت آثار خطى سلالات الكون . يكفي أن تتأمّلوا مشهدا لأيّ شارع في أيّة مدينة في العالم من على الإنترنيت ، لتتبيّنوا ذلك . نحن سبل بحثكم الأبدي عن وسائل تحقيق مراميكم التي أذهلت الفلاسفة والعلماء والكتاب والشعراء منذ السؤال البدئي الأول وحتى اللحظة . بالحب والعقل ازدهرت مدن مثل باريس / لندن / روما / طوكيو / فيينا / وغيرها . بينما الحقد والقتل ينهبان فتنة مدن أخر مثل بغداد . ترى متى تخلع بغداد وشاحها الأسود ، ليطل محياها مشرقا ، يبعث النور لأقصى المدن ؟ وإلامَ تصهل في شوارعها متاريس التحيّن والإنقضاض ، مقيمة ولائم الدم والدخان ؟ وهل ثمة أمل بأن نعود إلى سابق عهدنا دروبا لعابرين يحملون مشاعل أمل وسعادة ، لا حراب يأس وبؤس ؟! دروبا جميلة عامرة بالخطى العبقة بالخير ، لا دروبا تقايض المارة بالبضائع والقمامة والجثث ؟ بغداد .. يا أميرة العصور .. غاليت في الكهولة ، لتعاطيك الضّجيج . كان لك / أن تهجري مثلبة الدّوي / أن تمنحي أفياءك جناحين للربيع / وأن تطمري الثّرثرة . متى تخلعي خوذة العمى ، وتلبسي تاج الورد ؟ فالملعونة . تسرق أفئدة ورؤى . تلبس رأساً . تنزعه كي تلبس آخر . تسلخه عن مدن النّخل المتسابق والغيم . تركله في مدن ليس لها أجفان . يصهل فيها التحديق ، ليؤرشف ميتات حشود الوقت . والدمع بها تقطنه الأسماك . مدن كان لها أن تطرد / البريق عن الصّدأ / الأغاني عن الخواء / الحشود عن السغب . وآن لها أن تقايض / البنادق بالكتب / الفخاخ بالبصل . وأن تسلفن التصحّر بالندى والأسى بالأمل . بغداد .. من يلملم الشوارع ، عن شغب الألغام ؟! ومن يصطاد القرون ، لبلسمة أعوام مشلولة ؟! من يردع خرابنا نحن الارصفة ؟!
مفتتح مؤجل :
------------------------------------------------------------------------------------------------------
إثر انفجار هائل في أحد أجمل مناطق بغداد ، صعد أحد الارصفة على أحد البيوت ، ولهول الصدمة ، أصيب بانفصام الشخصية ، فتصوّر نفسه سقفاً ، طارداً خرسه، ليهذي بما ورد أعلاه
. ----------------------------------------------------------------------------------------------------
إشارات
- بلاد ما بين النهرين / تأليف ليو اوبنهايم
- مسرحية ( آبي – سين ) تأليف حسين الهلالي
- موسوعة جيمس جويس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال