الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على سرير التنوير

عبد العالي زغيلط

2020 / 11 / 27
الادب والفن


استلقى على سريره ..يجاهد التعب من ليلة قضّاها مسافرا ..كان الطريق بين قريته والعاصمة على الطريق السيّار فأرا قضم كل الثوب الأسود..السفر ليلا متعب وماتع...الفندق من خمسة نجوم تحت الصفر..سرير وخزانة جرباء ومغسل..وعليه قضاء الحاجة بعد انتظار الطابور..لم يستحم..يريد أن يخلد إلى النوم..النوووم...لكن الأرق ابن حلُّوف أكمل تمزيق مزود الراحة المرجوة..فأخذ هاتفه الذكي يخربش فيه..مرر أصابعه ..الهاتف حساس جدا..ليس كأبناء قريته، فالتحية في القرية أحيانا تكون قرعا بالعصا وجلدا بالكرباج ..دخل صفحته في الفايس ..رأى مكاتبات على الخاص ضغط على الأيقونة الأولى فخرجت صورتها ..قرأ الرسالة التي تركتها وإلى جانبها باقة ورد تتمطى..وعليها الندى يهفو لرشف ثمالة ضوء القمر على شاطئ بجاية ..اللعنة على المواعيد التي لا تحترم المواعيد..نسي التعب..نسي الليلة الماضية يصارع أضواء السيارات في الاتجاه المعاكس..نسي المطبات التي وضعتها الحكومة ابنة (حاشاه الكلب)..نسي الحليب الفاسد الذي شربه فأمغصه..وقبل كل هؤلاء المنسيين..رشح أم بناته لمرتبة الشرف الأولى في أولمبياد النسيان..أوريكا!..وجدتها!.. سأهاتف صاحبة الرسالة الوردية وأغير موعدها..كيف له تغيير موعد لم يقرره ولم يختره؟!..حسب نفسه أميرا آمرا وأمَّ بناته تنحني لعواصفه التي تخفي انتقاما من جنسها المتكرر مع كل ولادة جديدة..الأنثى اللذيذة تؤكل ولا تُسأل..واللعنة على أيام الجفاف والعمل...
رن الهاتف..خفقة أحسَّها امتدت في كل نواقل الذبذبات..موسيقى انتظار كما لو سمعها من قبل ..ليس الآن وقت البحث عن صاحب هذا اللحن..مراسلك لا يجيب.. يشبه رصيف أزهار مالك حدّاد..كرر العملية مرات عدة فكانت كأنها تمرينات على تنشيط ذاكرة منكوبة ..لم يعد قلبه يخفق كما كان ..صار يردد اللحن ليصل إلى الأغنية..أعادها كما يفعل الرومانسيون..ورددها..آه :عليك اللعنة يا صاحبة الرسالة...(أنا بسْتَنَّاك)...هذه ابنة قحـــبة.. لا يجوز في دين الرومانسية وصف حبيبة تنتظر على أحر من الرنين بوصف غير لائق..مزّ شفتيه مرددا كلمات الأغنية..نجاة الصغيرة!
ونجاته؟؟؟
واستسلم لنوم متقطع..ثم لنوم عميق..بكل ثيابه وعرقه..وامتد به نوم ما بعد الظهيرة حتى استيقظ على ضجيج في قاعة الاستقبال بلغات مختلفة..تلتقي كلها عند (تصبح على خير)..يريد إسكات معدته قبل أن توصد أبواب المطاعم والفندق..لا سهر في المدينة..تسكّع في شوارع لا يعبرها إلا المغامرون والعابرون من أبناء السبيل، وأبناء الحرام، وأعين الحكومة التي تفترش الكارتون حتى يهنأ القادمون من وراء البحر بليل المحروسة ابنة الجزر المدفونة في بطن البحر ..استنشق نسمة بحرية..بحث عن مطعم رخيص ..وجده ..
ــــــــــ واش تاكل يا خو؟
ــــــــــ هات لي كان!
ــــــــــ عندنا ...
وبدأ في تعداد مطبوخاته.. القائمة ليست طويلة، المطعم على وشك إغلاق أبوابه...
ــــــــــ هات الأخيرة ...
جاءه بفخذ دجاج ..وشيء من بطاطا مقلية ..التهمهما بسرعة ..واتبعها بليمونادا..أبعدت العطش إلى حين..تأمل الزبالين.. الجزائر العاصمة مزبلة عظيمة..بدايتها وادي الحراش ونهايتها وديان كثيرة ..ليس آخرها واد الباب الذي جرف معه المصلين والزناة..وبدَّل واجهة العاصمة البحرية..نحتاج من حين إلى آخر أن تتدخُّل الأقدار الربانية حتى تسرّع المشاريع المعطلة منذ ما يسمى بالاستقلال..لا بد من ثمن .. قالت الحكومة عن الذين ماتوا إنهم شهداء! ولكن أهاليهم لم يقبضوا من وزارة المجاهدين ثمن تعديل الواجهة البحرية..شهادتهم دينية فقط، حتى يؤمن المؤمنون أصلا بكذب بني زبلون..عاد إلى فندقه ذي النجوم الخمسة المتساقطة عند مدخله المظلم..ضحكت القطط بالفرنسية من عودته .. أجلت معركتها مع جرذان تفوقها حجما وقيمة، مفسحة له الطريق..تتسابق القطط والجرذان على الأطعمة المتناثرة من الأزقة الجانبية..دق على باب الفندق، جاءه من يفتح الباب والتذمر يملأ منخريه ويرتطم على حافة الشفتين:يا خو راك جيت روطار.. رانا قلنالك بللي رانا نفرميو بكري..ترجم كلامه في نفسه..اعتذر منه بفرنسية ركيكة ممزوجة بعربية مرتجفة..وصعد السلم إلى غرفته.. استراح من غير أن ينتظر دوره في الطابور..هذه إحدى حسنات العودة المتأخرة..شغّل هاتفه من جديد .. وجاءه صوت المذيعة.."وعن نشاطات الصالون الدولي للكتاب ليوم غد فإنه تقرر تنظيم ندوة فكرية من تنشيط (لميس)، وسيكون البيع بالتوقيع لمؤلفاتها فلا تفوّتوا الفرصة،.. مؤلفات (لميس) (اللبرالية الجزائرية؛ الجذور والرهانات) ( الإسلاميون من الكتّاب إلى الإرهاب) (الإسلاميون ..الفاشية الجديدة)، (المرأة في فكر التنوير) ستكون حاضرة فلا تضيّعوا فرصتكم"..سأكون حاضرا يا مثقفة...أغلق هاتفه واستسلم لنوم متقطع...
***
صباحا في السكوار استخبر عن سعر الصرف..الدينار في الحضيض وهو يحتاج إلى العملة الصعبة لأجل رحلة إلى بلاد ثورة الياسمين.. ضحك في سرّه من الياسمين الثائر..يموت الناس كالكلاب المسعورة وتسمي الصحفيات المدللات المذابح بثورة الياسمين...تفوووه على الكذب!.. اشترى جريدة قرأ عناوينها..لا شيء يبشر بخير..تتحدث الجرائد عن شد الحزام..سراويلنا في هبوط اضطراري..صرفَ عن ذهنه فكرةَ الفقرِ المتلصص على مستقبل بعيد..أراد أن يجعل نفسه مَلِكا مخدوما ولو إلى حين ..اتجه صوب المقهى.. انتظر من النادل أن يأتي إليه..أن يرحب به كما العادة..لم يأت النادل..
ــــــــــ سالف سرفيس يا خو؟... سأله متذمرا.
لم يعره النادل اهتماما..لو تجرأ بالسؤال مرة أخرى فإن النادل قد يصب على رأسه بنزينا يخفيه في زاوية ما في المقهى، ثم يستنفر المراسلين المنتشرين كالقمامة في كل زاوية، لتسجيل فيلم مستنسخ عن ثورة البوعزيزي..نادل نذل..ردد العبارة بصوت خفيض، وتنازل عن ملَكِيَّته إلى حين..رشف أحرف الجريدة، قرأ العنوان الأول (دورة الكولسة والضرب تحت الحزام) فتحسس فحولته..نقل بصره إلى العنوان الثاني (نهاية ساخنة لبرلمان محنط) مرّر يده على رأسه .. قلَّب الصفحة (لا فرق بين الأسواق القانونية والفوضوية للماشية).. كلنا أغنام يا عزيزي!..وكلهم ذئاب!..قلَّب الصفحات (حفظ النفس في الإسلام) قهقه الشيطان في داخله، وجرع جرعتي وسكي في خاطر إسلام بني فعلون..هل ثمة شيء يقول إن الفئران ستتوب.. لا شيء يجعل من برلمان اللائي يئسن من المحيض يهتم لأنين المتسول الذي ترجاه بإله بدأ يشك في جدواه..مد يده إلى جيبه الأيمن بقي المتسول ينتظر الصدقة..ثم أخرجها من جيبه الأيسر.. ضغط على الزناد فلم تستجب.. على جدار المقهى نقر ولَّاعته..بالنقر على الجدران يستدرج لهيبها من مكمنه يقدح اللهب..أعاد العملية حتى اندلعت الشرارة..جذب نفسا عميقا..انتبه إلى المتسول:الله ينوب!
يَلْعَنْ دينْ والديكْ..رد المتسول الذي كان قبل فاصلِ (الله ينوب) يستعطف الرجل بِدِين والديه..تأكد من أن الجميع يحتاجون إلى دين جديد..الجحود سيد الأكوان..والحقد وقود لا يحتاج إلى نقر الحائط الأصم.. البارحة عندما وصل إلى دار (نشر الفكر والثقافة والعلم و..و..و...إلخ) ليقبض ثمن كتابه اسمعه صاحب الدار شكواه..ذهبا معا إلى البنك لاستلام المبلغ.. في الطريق تغير كل شيء، سقط من المبلغ المتفق عليه ثمن ترميم طقم أسنان المدير.. ابتلع الإهانة المثقفة من صاحب الدار الأعمش الثرثار،كان الناشر يقترب من وجه محدثه ثم ينفث ما تجمع من لعاب..كان مرتاحا بالحديث معه واقفا.. ثم نال حظه من بصاقه قاعدا في قاعة الانتظار بالبنك.
واصل يقرأ الجريدة غير بعيد عن قبة البرلمان أين يناقش الوطنيون جدّا ميزانية الدولة كما تشلشل المذيعة أخبارهم ..قطع قراءتَه زئيرُ سفينة فرنسية ترسو عند الميناء..ثم قهقهة ثلاث نسوة يجلسن غير بعيد، يتبجحن بأثداء منهكة ..استغرقته القراءة؛ يناقش الإسلاميون قانون الأسرة..خصومهم يسمُّونه قانون الأسِـــرَّة بتشديد الراء وكسر السين المسكين..وكلهم على سرير الملك إخوة في رضاع الكبير..
يصله صوت ينادي على سلعته "السواك العظيم.. فيه فوائد جمة..يقي من الحمَّى..ويرفع الهمَّة..ويجمع شمل الأمَّة..فقد هزم جيوش المغول والتتار..وأرعب الصليبيين الكفَّار"..سمع الخطبة المسجوعة من بائع المسك..وكان قد تزود من كشك نافخ الكير بعلبة سجائر لتكون رفيقة سفره الطويل..يجتمع عنده كلُّ شيء سيجارةُ المالبورو مع سيجارة الحرمين المسماة سواك.. شر هذا بخير ذاك فإذ الله قد عفا ..هو مثل الوطن يتوسد المواطنون الكارطون..ويناقش أبناء الفاعلة ميزانية الدولة إخوانا على سرر متقابلين.. يشربون الويسكي!..لا يهم.. هذه هي الدنيا!
ــــــــــ بكم عود السواك؟
حدجه الملتحي بلا شلاغم..المتجلبب بلا سراويل..قال في نفسه الداكنة: هذا رجل عرف طريق التقشف منذ زمان: اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم!..نزع السروال ولبس الجبة، عرف الطريق من البداية، وليس مثل أبناء الزواني الذين غرَّهم حديث الحكومة العاهرة بالأصالة..
ــــــــ بمائة دينار.. أجاب الملتحي بلا شلاغم.
دفع المبلغ..تناول السواك..أراد أن يشتري قارورة عطر..ولكنه أحس به عطرا قوَّادا يشي بهؤلاء..دعنا من عطر منشم اللعين..سأشتري عطرا فرنسيا يتلقاه أنفها الجميل فيحيي ندى الورد العابر للنَّات!..طوى الجريدة، اتجه إلى المحسب دفع ثمنا لا يساوي الخدمة..لعنه في سرّه بلغة الجيب الفصحى..لماذا تعترض؟! أليس لكل دشرة لغة؟ أليس لكل حاسة لغة؟ ولمَ لا تكون للجيب لغة بنحوها وصرفها ومعجمها؟!
إلى مرأب السيارات... وداعًا جزائر بني مزغنة.. وداعًا للمتناقضات الشامخات الشاهقات..فرصة أخرى ..سلم المفاتيح لمسير الفندق المتجهم والذي يكره العربية الفصحى ..
ـــــــ أورفوار مسيو.
قالها للمسيو مسير الفندق ذي الخمسة نجوم تحت الصفر حتى يغيظه..ثم مد يده إلى جيبه فلم يعثر على حمالة النقود..اللعنة على مواعيد الغرام..فتش جيوبه الأربعة الأمامية والخلفية.. لا يمكن ليد سارق أن تمتد إلى مؤخرتي..هذه ليست سرقة إنها اعتداء على السيادة الوطنية..ولكن الحكومة تفعلها بأناقة تحسد عليها..تحترم كل حقوق الإنسان في الاحتفاظ بمؤخرته كسجل تجاري عندما تشح الموارد!..سمع صوت الخادمة ..فكر في العودة إلى الفندق ..وأخيرا أسعفته الذاكرة.. نسي حمالة النقود عندما دفع ثمن كتاب: (الجزائر إلى أين؟)....لا يمكن أن تضيع ..إنها في مكتبة العالم الثالث..الحقيبة ثقيلة بين الفندق والمكتبة ..يتأمل الواجهات..باردو (يعني عفوا) ..اعتذر منه عابر مستعجل..بالاك يا خو بالاك..استسمحه حمّال..وأخيرا وصل إلى المكتبة ..استعاد حقيبة النقود الجلدية..
ــــــــــ قال له صاحب المكتبة بالفرنسية: فيريفي البورتفاي ديالكْ.
شكره بالعربية الفصحى على أمانته..رد عليه بفتور زائد: مِرْسِي..اسند ظهره على الجدار..طرقه بالولاعة وجبذ نفسا لذيذا.. أخرج دخانه من منخريه..تأمل العابرين..الآن يمكنني الذهاب إلى ندوتها!
كان متشوقا إلى حضور ندوة (لميس) في المعرض الدولي للكتاب، وصل بعد زحام شديد إلى (دار نشرها) الصحفيون الذي حجوا إلى ندوتها سبقوا الجمهور..نصبوا كاميراتهم، وميكروفوناتهم..وقف يقتل الوقت في تأمل عناوين الكتب المعروضة في دور النشر.. أكثرها باللغة العربية، القليل منها باللغة الفرنسية والأقل باللغة الانجليزية، حاول أن يجد كتابا بـــــــــــ"الأمازيغية" فلم يعثر، ربما لكثرة دور النشر، وتساءل بقلق:
أكل هذا الضجيج حول لغة صامتة؟!
في دار نشر مغربية امتدت يد متجلببة قصيرة إلى كتاب بعنوان :قضايا كلامية وسياسية فسقط من يدها كتاب بعنوان "الفلسفة النسقية"..لحظتها انحنى ملتح ليأخذ كتاب: التاريخ الإنساني، فوقع على رأس ملتح كان يهم برفع كتاب "القضايا الكلامية" وتلاقت أعينهما وبعضا من صبابة وكلام يسوطه ويسوقه إلى النفزاوي..لم تعتذر المتجلببة إلى الملتحي..كان يرقب مشهد الجلباب واللحية بتلذذ، إنها متعة التسلية المجانية ..التاريخ الإنساني يكتبه صمت الأنثى بجسدها،إن الحواجب تقضي الحوائج بيننا.. انصرف وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة قبل أن يشطفها منه حوار عند دار غاليمار الفرنسية، إذ سمع أحدَهم يقول بالفرنسية: علينا أن ندعو الأسرة الثورية كي تتكلم.. تسللت إلى أنفه رائحة باريسية من أبط إحداهن بحركة لاشعورية وضع يده على أنفه وفمه، ولكن الرائحة كانت ثورية وذكية بعض الشيء .. فكّر في اقتناء كتاب حول الحضارات البائدة..ولكن دار الآداب لاحت غير بعيدة عنه..تأمل العناوين..امتدت يده إلى رواية أثارت فضوله: دفع ثمنها وعاد إلى مكان الندوة حتى لا يفوته شيء من فكر "لميس"!
مررت أصابعها على شعرها، انزلقت خصلات منه على صدرها المرمري، لفت انتباهه الجيب الذي يفصح عن كنوز ألف ليلة، ابتسمت بثغر نضيد وهي تداعب رأس المكروفون ..تناوشته الظنون..وضعت ساقا على ساق، وشوش صاحبها في أذنها فضحكت ..ثم بدأت محاضرتها بشكر جمهورها..وشكرِ قرائها..وشكرِ متتبعي صفحتها..ثم أشارت إلى عنوان محاضرتها وكأنها تعتذر عن العنوان المستَفِز، بدأت المحاضرة حول "البدائل الفلسفية في المجتمعات الإسلامية" ومما قالته (تعيش المجتمعات الإسلامية فقرا فكريا كبيرا، وهو ما دفع بالفرد إلى الهروب إلى الدين كبديل في كل مجالات الحياة، ومحاولة إقحامه في النقاشات الفكرية والسجالات الاجتماعية، ويعود الأمر إلى افتقار هذه المجتمعات للفكر البديل، لأنّ الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع لم تنشأ في البيئة المسلمة، وهو ما يظهر عند شريحة كبيرة من المسلمين تزدري هذه العلوم، وتعتبرها فكرا دخيلا يتناقض مع المحيط المتدين والمحافظ للمجتمع..) ثم أشادت بفلسفة الحداثة..شعر بحاجة ماسّة إلى سيجارة يفتح بها مخه الصغير الذي سكنه النهد الأبيض المتمرد ..ولكنه أحسَّ بالحرج من شق صفوف الذين اكتظت بهم القاعة..واصلت حديثها عن ينّاير..أصغى إليها بعينين ولسانا وشفتين، حاول الربط بين الحداثة وينّاير فلم يجد إلى ذلك سبيلا، تحرك في مكانه يسارا ثم يمينا..ولكن "لميس" كانت تتحدث أيضا عن التنوير! انحنى كأنه يلتقط شيئا ما سقط منه.. رأى بياضا لافحا ينبعث من تحت التنورة..نسي السيجارة ولكنه شعر بالاحتقان..كيف يخترق صفوف المصلين..عفوا كيف يجتاز صفوف الحاضرين..تذكر التجربة الدانماركية، واصل الاستماع ..ولكن بتركيز أقل..التفت إلى من كان بجنبه فسمع منه مدحا لها، فقد بدا متأثرا بسحر "لميس" أو بتنّورتها الصيفية، قالت:
"التنوير هو التمرد على الوصايا والقصور العقلي، وهي قد أفلتت من وصاية شيوخ العشيرة"
حرك رأسه موافقا، ثم استأذن بالخروج تاركا الكتب التي اقتناها تحجز مكانه..دخن بشراهة، وتبول بحداثة، والتبول كما هو معروف عند الفقهاء حدث وهو ينتمي إلى الإحداث، والإحداث من نواقض الوضوء، ووضوءه ناقض مذ رأى "لميس"..
أخذ مكانه.. شكر صاحبه المتيم بلميس على احتفاظه بالمكان شاغرا، وجدها تتحدث عن المرأة والحداثة وينّاير والإرهاب والإسلاميين والعرب والبربر ومن عاصرهم من السلطان الأفجر..ثم جاء دور الأسئلة تردد في سؤالها، ثم تشجع وسألها عن الفيلسوف نتشه وعن رأيها فيه فأجابت :
هو ذروة الحداثة وبداية ما بعدها، يشبه تماما الإله جانوس..
عقّب بالقول ولكن نتشة فيما أعلم يكنّ عداء سافرا لجنس المرأة وله مقولة شهيرة: إذا جئت إلى المرأة فلا تنسَ سوطك....
تناولت المكروفون مبتسمة ومسحت رأسه بنشوة غير خافية ..ثم أجابته:
ما قلته صحيح ولكنه غير دقيق، بارسكو نتشة عندو مواقف تقدمية، وفلسفته كما تعلم (ولا يدري كيف علمت أنه يعلم ولم تعلم بأنه يجهل!!) قد أُوّلت على نحو سيء في كثير من الأحيان..قاطعها بالقول:
ولكن ثمة حديث يُنْسب إلى النبي محمد (وتمتم بالصلاة عليه، فالجمهور لا يتحمل صلاة على داعي الرجعية الأول ومؤسس داعش!!!) يقول ضع سوطك حيث يراه أهلك..
امتعضت "لميس"، وبنرفزة تراقصت على ملامحها أجابته :
نحن نتحدث عن مسائل الحداثة، ولا علاقة للنصوص الدينية بموضوعنا..
شكر "لميس" على سعة صدرها!..ثم جلس منحنيا لآخر مرّة حتى يرى بقية الطوابق في عمارة لميستان تحت الفستان.. فقد التفّ الساق على الساق مطبقا على ما يشتهيه كل العشاق..ولا يقوله إلا من برحت به الأشواق...
***
وهو يخرج من مستودع السيارات سأله القابض: لم خربشت التذكرة؟!
انتبه إلى أنه سجل رقم الطابق والمكان الذي ركن به سيارته ..ذاكرته قلما تسعفه ..وما الجدوى من شكوى لا تنفع القابض:
حتى لا أحرجكم بالسؤال عن سيارتي.. لقد أصبحت كثير النسيان..
مازحه القابض أن الثمن سيضاعف..فهم الرسالة ترك له بقشيشا ..كلنا لصوص يا عزيزي..مع السلامة ..سر على مهل، صفعته على قفاه دعوات دفع ثمنها سلفا ...
الحرارة تقترب من الأربعين يقول مؤشر السيارة..والأغاني الرومانسية هي الرفيق في سفر لا يريد أن ينتهي...الهاتف الذكي يرقد غير بعيد منه..ينتظر مكالمة..رسالة...أي حاجة..قل بحبك.. قلْ كرهت. بَسْ قول..يا مسهرني..هل رأى الحب سُكَارى..منبه قوي من شاحنة تجاوزته ..شتم صاحبها بما جاد به قاموسه الشتائمي غير الرومانسي ..ونسب صاحب الشاحنة إلى سلالة ذوات الأربع.. من بعيد رأى باعة التين .. خفف السير ..ركن سيارته..ساومهم ..أخذ زاده وعاودَ الرحلة ..صورة ضبابية عن صاحبة الوحي.. لم ترد على مكالمته..ولكن صوت موسيقى الانتظار ينطوي على كل ماضيه معها..تتجاوزه السيارات ذات اليمين وذات الشمال..قانون السير في البلاد هو أن تسير بلا قانون..عَسْ راسك ..دفع بمحول السرعة إلى أقصاه...حذار ردار..خفض السرعة.. يدندن بالأغاني التي يحفظها.. وعندما تأتي الأغنية التي لا يحفظها يسرح بعيدا بخياله..الطريق السيَّار ليس فيه شيء جميل سوى التخفف من السير البطيء.. يا للبلاغة!!..
الخيال يتمايل مع كل صورة جديدة تراها العين..يرحل بعيدا مع كل نغمة تلتقطها الأذن..مؤشر السرعة يتجاوز المسموح به، الهاتف يرن ،والعاصمة صارت بعييييدة...
ـــــــــــــ ألو ..نعم!
ـــــــــــــ أنا في انتظارك!
ـــــــــــــ أنا في طريقي إلى لقائك!
لاحت دورية الدرك لمراقبة المرور..أوقفه الدركي..تأكد من وثائق السيارة، عندك مخالفات: استعمال الهاتف أثناء القيادة، وتجاوز السرعة المسموح بها ، وعليه تسحب رخصتك..كلمات متتابعة وصارمة وبالعربية الفصحى أيضا..
تأمل الدركيَّ لعل في ملامحه ما ينهي حكاية سحب الرخصة بتسوية ودية تدغدغ مصارين صاحب البزة الخضراء..ملامح باردة، لا تكشف عن شيء سوى تطبيق القانون..استسلم لمصيره..ولا حلّ إلا العودة إلى العاصمة..
***
حمل قهوته إلى الغرفة بعد عشاء بصحن زيتون وكفتة في مطعم متواضع، قد يقول عنه التنويريون إنه مطعم وضيع، وحقير أيضا ..فتح ما اقتناه من المعرض..وبدأ القراءة: (...وجدت عاهرة لا انتمائية، لها فخذان بالغتا الروعة إحداهما في القارة العجوز، ذات الأصالة والحضارة، وثانيتهما في بلد ضخم الصناعة فقير الحضارة، ولهذه العاهرة نهدان كاعبان، لهما حلمتان كمنقار الحجل موزّعتان ما بين غرب وشرق...)
وهو غارق في القراءة، سمع طرقا خفيفا..
ــــــــ ادخل..
انفتح الباب
ــــــــ هل عندك ولَّاعة؟
بناية بثلاثة طوابق ونهدين، كانا يصارعان الحمالة من تحت التنورة، تذكر "لميس"، تذكر صديقته في بجاية، صعّد بصره من أسفل إلى فوق..تأكد أن الولّاعة ستشعل العمارة بالكامل.. اقتربت منه سائلة:
ــــــ تطالع الكتب؟
ــــــ أيْ نعم!
ــــــ أرني ماذا تقرأ..
قهقه حتى رجع الصدى في شرفة الليل الكئيب:
ــــــ عاهرة ونصف مجنون..حنا مينة؟ مازالك تامن بالقراية، أنت يظهرلي مهبول!..
عرف أنه نصف مجنون عندما فكر في الاستماع للتنويرية "لميس"..وها هي العاهرة تكمل عنوان آخر ليلة له في جزائر بني مزغنّة. فقد عادت لعترها لميس كما يقول المثل...

ــــــــــــــ
عبد العالي زغيلط/ أستاذ بقسم الأدب العربي ، جامعة جيجل /الجزائر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل