الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مارادونا في حواري المخيم!

مهند طلال الاخرس

2020 / 11 / 27
سيرة ذاتية


من وقع اسمه الجميل ديغو ارماندو مارادونا الى سحر اقدامه التي اجادت رقصة التانغو الارجنتينية الشهيرة الى هدفيه الاشهر والاطرف في تاريخ كأس العالم، وكلاهما في انجلترا -العدو اللدود له ولنا ولغيرنا- .

الهدف الاول احرزه صاحب افضل اقدام كروية بيده، تلك اليد التي اسماها يد الهية، والهدف الثاني كان الاكثر شهرة على مدار تاريخ كأس العالم؛ اذ امسك مارادونا الكرة من قبل منتصف ملعب الخصم (انكلترا) وانطلق بها كالغزال مراوغا كل من جلبه سوء حظه العاثر في ذلك التاريخ لمحاولة ايقاف مارادونا، لكن مارادونا لم يشاء له التاريخ ان يتوقف في ذلك اليوم او يتعثر، يومها انطلق مارادونا نحو الهدف كالرصاصة، وحين بلغ بوابة المرمى انفجر بالهدف مسجلا نصرا كرويا خالصا وحاسما حطم به اسطورة تلك الامراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ومعلنا ميلاد فجر جديدة لاسطورة ترسم ملامح بقائها بدقة متناهية .

بعد احتلال جزر الفوكلاند الارجنتينية من قبل انكلترا، لم يكن التاريخ بالنسبة للارجنتين يحتمل اي هزيمة اخرى، وهذا ما وعته الارجنتين بكاملها في ذلك اليوم، بل وحثت منتخبها الوطني على الثأر من الغزاة، ولم يكن امامهم إلا كرة القدم ليأخذوا بثأرهم من انكلترا الطاغية والمستعمرة، كانت انكلترا مدججة بالنجوم مثل الحارس المخضرم بيتر شلتون وهداف كأس العالم جاري لينكر واسماء اخرى كثيرة رنانة وذات وقع مهيب في عالم كرة القدم، لكن كل تلك الاسماء لم تتسع لها صفحات التاريخ امام ذلك الفتى الذهبي راقص التانغو الذي نجح بدك حصون انكلترا بهدفين اقل ما يقال فيهما انهما غيرا شكل ومسيرة كرة القدم بعد ذلك، ليس هذا وحسب، بل ان هذه المبارة اثبتت ان التاريخ ينتصر للمستضعفين المغلوبين على امرهم، بحيث اصبح التاريخ بعد هذه المبارة قادرا على منح ابنائه فرصة اخرى للتعويض والانتقام.

التاريخ نصير المستضعفين، هذا ما اثبتته كرة القدم عبر مسيرتها الطويلة والحافلة بانتصار منتخبات دول فقيرة ومستضعفة ومغلوب على امرها على منتخبات دول كبيرة ومتقدمة ادمنت تسيد المشهد العالمي في الاستكبار والاحتلال والعربدة والبلطجة.

جائت كرة القدم كالحلم القادم من بعيد وكالفرح الذي طال انتظاره وكمعجزة هبطت من السماء نثرتها يد الاله في وجوه المستضعفين من سكان كوكب الارض، نجح المستضعفين في استقبال ذلك الحلم دون سائر الكواكب، استقبلوه على رؤوسهم وصدورهم، ثم احسنوا ترويضه ومداعبته باقدامهم ولم يسمحوا له بالسقوط على الارض، كان ذلك الموقف اول اسباب الحب بين المستضعفين والحلم وثاني الاسباب كان ان هذا الحلم منح المستضعفين ميزة الانتقام ممن تعود على النصر في دروب عديدة، كانت ميزة الانتقام هذه المرة عادلة ولاتستبيح ولا تغافل احد من الفرقاء، كان الانتقام يجري بالإِقدام والأَقدام والرؤوس والاكتاف والصدور والافخاد وبسائر اجزاء الجسد، ماعدا تلك الايادي البشرية طبعا، اما الالهية فمسموح بها، لكن تلك اليد الالهية قد تعود وتتدخل من جديد اذا ما سرقت احلام المستضعفين على كوكب الارض.

كان كل هذا يجري كتعويض من قبل رب السموات والارض عن غياب العدل الذي تحدثه ايد البشر، فكان لابد من موازنة الامور عبر تدخل الارجل، من هنا كانت نشأة كرة القدم، ومن هنا كان لها كل هذه الشعبية وكل هذا الحب واللذان ما ان يمتزجان حتى نغرق في بحر من الجنون اسمه كرة القدم.

لم يكن السجال حول ما هي كرة القدم خاصا بنا وحدنا، كان ذلك السجال قد اصبح محور حديث العالم، هذا السجال بدأه مارادونا منذ ان رأينا اقدامه كيف تداعب الكرة، كانت الكرة تلتصق بقدمه وكأن احد خاطها فيه، حتى اصبحت جزء منه، كانت الكرة تعود اليه من الجميع ويرسلها له الجميع كانت الكرة دائما تفضل البقاء بحوزته كما لو ان مغناطيسا يجذبها اليه.

هذا السجال حول ما هية كرة القدم لم ينتهي، بل ازداد اشتعالا واصبح اكثر القا بعد ان تدخل فيه شاعرنا الكبير محمود درويش، هذا التدخل من درويش اضفى على كرة القدم مسحة لم تكن بالحسبان، لكنها كافية لتعيد تعريف كرة القدم من جديد.

"هي شيء من صراع التأويلات، ومسرح واقعي لتعديل موازين القوى، أو المحافظة عليها، لخلق مستوى آخر للواقع، أو تثبيته. هي شيء من لعبة إعادة تركيب العالم على أسس مختلفة، وعلى جدارة مختلفة.
حرب عالمية يمارس فيها خيال الشعوب دوره الغائب أو الحاضر. لا أحد يتفرج على سباق الأجساد، والمهارة، والذكاء، المعبّرة عن طبائع الأمم في الهجوم والدفاع، في العنف والرقص، في الفردية والجماعية. الجميع ينخرطون.
ولعل المشاهدين هم أشد اللاعبين اندفاعا لأنهم يدفعون بتاريخهم النفسي وتأويلاتهم ورغباتهم في التعويض إلى الملعب، لرفع اللعبة إلى مستوى التعبير التمثيلي المتخيّل عن روح الأمة وحاجتها إلى التفوّق على الآخر. هي الوطنية المتفجرة. شرارة الإفصاح عن الباطن في علاقته بالآخر. وهي حرية الإفصاح المتاحة عن الذات المحرومة من الإفصاح في سياق السياسة أو الجنس أو اللون.
هي انفجار حرية تعبير عن حرية غائبة، أو عن سيادة تسعى لأن تواصل سيادتها. هي شيء من الصراع الاجتماعي أحيانا، وعن وحدة القوى الاجتماعية الداخلية في صراعها القومي مع الخارج أحيانا أخرى.
هي المُتاح للتعبير والتنفيس والتظاهر ضد قمع يتحوّل الحَكم، أو المدرب فيه، إلى رمز لحاكم ظالم، أو لقضاء غير عادل حين تتخذ محاكمة الهزيمة شكل محاكمة السلطة، أو حين يتخذ الانتصار شكل التدليل على أن روح الشعب ووحدته هما اللتان انتصرتا، وأنهما لا يتحملان المسؤولية عن هزيمة عسكرية ليست حتمية.
وأحيانا تتخذ اللعبة معنى الانتقام الجماعي أو التعويض الجماعي عن عدم التكافؤ في موازين القوى بين دول كبرى ودول صغرى. وباختصار، فإنها تمثل ما تبقى من إجماع حول فكرة، أو حماسة، أو قوّة، أو هدف".

في المخيم حيث ولدنا وترعرعنا كانت الكرة بشكلها الدائري وغلافها الجلدي المعروف غير مألوفة بالنسبة لنا، كان الفقر يغزو كل زقاق المخيم، لكنه الشغف بكرة القدم يسمح بكل شيء، ابتداء من صنع تلك الكرة الى اعادة تسمية نفسك وتغيير اسمك واستبداله بمن تحب وتهوى في عالم المستديرة المجنون، هذا كله طبعا قبل شيوع ظاهرة اقتناء تيشرتات
نجومك المفضلين او قمصان منتخبك الجميل، كان هذا ترفا لا تحتمله زقاق المخيم، كانت هذه هواية لم تخلق بعد!!.

في المخيم كان امتلاك الكرة ترفا لا يملكه الكثيرون، وكان ضربا من الهمالة والدشارة ان ترى ثلة من الشباب يتصايحون او يتراكضون خلف كرة.

كان المخيم محقا في اولوياته، لكنه لم يكن محقا في حرماننا من متعة الكرة.

كانت كرة الشرايط التي تتناقلها اقدام الفتية في شوارع المخيم ثقيلة تسير على مهل، لم يكن من السهولة ان نطلق العنان لاقدامنا لركلها، كنا نخشى عليها من ان تفقع او تنتفل او تتناثر، كنا احيانا كثيرة نكتفي بمنظرها وبتقاذفها دون ان نسمح لها بان تسقط على الارض، كانت الكرة او ما يشبهها عزيزة علينا، كنا بعد كل مبارة نعيد تدويرها وخياطتها والباسها ثوبا جديد، كانت الجرابات الرياضية الطويلة اجمل اثواب الكرة، كانت كرة الشرايط جزء من زقاق المخيم وذاكرته ايضا، لم تعد كذلك منذ ان غزتنا كراة البلاستيك والجلد والكاوتشوك المسماة التانغو او الاوفيشال، تغير شكل الكرة وتغير سلوكنا ومع هذا التغير عرفنا كثيرا من العادات والمشاكل.

كانت هذا الكرة الجديدة بالنسبة لبعض المشايخ رجس من عمل الشيطان، وكانت بالنسبة لاخرين آفة العقول، وبالنسبة لغيرهم محراك الشر، وعند البعض وسيلة للتلاهي والتلاقي، لم يكن من بيننا من يتوقع ان تصبح الكرة في يوم من الايام وسيلة للانتقام.

قلة من الاهالي من كان يعتقد بأن للكرة مستقبل وحضور سياسي وتمثيل واعد، كان هؤلاء القلة يحملون على اعتاقهم امالنا واحلامنا الكروية، كانت احلامهم واحلامنا الكروية ممنوعة من اللعب في البطولات العربية، لا لاسباب وجيهة، بل لسبب وحيد، انك لاجيء فلسطيني تقيم في المخيمات، وان هذه المخيمات لا تتبع للدولة ذات العلم المعروف، وان هذه المخيمات ترفع علم ازرق معروف لكل العالم ان من يعيش تحت ظله هو لاجيء عليه ان يعي ويعلم جيدا انه خسر كثيرا حين هُجر ونزح من بلده، وان كرة القدم بالنسبةالينا ترف لا نستحقه، كان هؤلاء يستكثرون علينا ذلك الشغف الذي تسببه كرة القدم، كان هؤلاء يحاولون عبثا بأن لا نمنح انفسنا فرصة الانتقام.

احد ابناء المخيم واساطيره الكروية، كان جهبذا في امور كثيرة، كان احد الاندية الكبيرة والمعروف من يومه باقليميته البغيضة يطارده باستمرار بغية تسجيله في صفوفه، كان يأبى ويرفض ذلك بأدب جم، كان يعتقد ان نادي المخيم احق به، ويكرر ذلك على مسامع النادي العريق والغريق باقليميته، حدث ذات يوم ان اخبره رئيس ذلك النادي بالخبر الصادم لاندية المخيمات؛ "لن تلعب اندية المخيمات في بطولة الدوري وانا على وجه الارض".

لم ينهزم صاحبي ولم ينكسر، بل سافر الى الكويت مدرسا وعمل فيها ولعب فيها لاكثر من فريق، وكذلك سار به الحال حتى لعب لعدة فرق مصرية منها الاهلي والزمالك والترسانة، غدا صاحبي اسما لامعا في عالم كرة القدم، وتقاذفته السبل وعصفت به الانواء، طلبته فرق كبيرة وجرت محادثات عديدة، كانت تصطدم جميعها بكونه لاجئا يقطن في المخيم فلا دولة له ليلعب لمنتخبها.

وعلى قدر ذلك الافق الرحب الذي فتح له من قبل العديد من الاندية الخارجية، وعلى كثرة تلك الابواب المرحبة به، كان يمني النفس فقط ان يلعب لمنتخب فلسطين.

سألته ذات يوم وكنت صغيرا لا افقه من كرة القدم غير اللهو والتعب: ما سبب كل هذا الاصرار لان تلعب لاحد اندية المخيمات بينما لا تعترف الدولة بنا، كان جوابه هو ليس اصرارا بحد ذاته بقدر ما هو فرصة للانتقام!.

عصفت الاحوال والاهوال بصديقي واصيب بغضروف الركبة فعاد للمخيم يندب حظه، طال المشوار وامتد العمر وانفق صاحبي ما في جعبته من مدخرات ونقود ولم تكن صحته ووضع قدمه يأهله للعمل بأي مجال شاق وسدت كل الدروب في طريقه، لكنه نجح اخيرا في التحصل على وظيفة بسيطة في مصنع للشيبس؟!

كان صاحبي مفعما بالامل، لاتغادره الابتسامة، كان قوي العزيمة والشكيمة، بلغه ان اصبحت سيرته مادة للتندر والفكاهة لدى ذلك العديم -رئيس النادي اياه ومشايعوه- غضبت انا وثلة من فتية الحارة حين سمعنا الخبر، اتجهت بصحبة رفاقي الى ساحة النادي، كان الخبر قد ذاع وشاع، واصبح حديث العموم في النادي، وجدنا من سبقنا في التفكير بغية الرد على تلك التفاهة الصادرة من العديم.

كان غيرنا متقدم علينا بالطرح، كانت مجمل الافكار خلاقة ومفعمة بالحب، كانت مجملها تستهدف رد الاعتبار لصاحبنا.
وصل صاحبنا وتوسط ساحة النادي بعد قبلات وسلامات لا تنتهي، قص عليه رفاقه واصدقائه سبب هذا التجمع وهذه التحيات.

لم يجب صاحبنا ولو بكلمة واحدة، كانت دموعه قد تكفلت بذلك الرد الذي انتظرناه.

بقي صاحبنا يوزع القبلات والسلامات وغادر ساحة النادي وحسنا فعلت انا بأن غادرت معه، بعد خطوات كثيرة كنا شارفنا على بلوغ مشارف حارتنا حين قابلنا عمي وآخرين من ابناء جيله واقرانه، كان الجميع يطمئنون على صديقي ويمطرونه بالكثير من الاسئلة، كنت احاول ان اشاغلهم عن ذلك دون جدوى، وحده عمي من ادرك تلك الغاية ومنحني ما اريد، فاستعجلنا الوداع انا وصديقي. بقي صديقي صامتا طوال المسافة المتبقية من الطريق، وساعدته على ذلك حتى وصلنا حارتنا، حاولت توديعه مواسيا وطالبا منه تناسي ما حدث، قال لي : لا عليك، هناك ميزة في كرة القد؛ انها دائما ما تعطيك فرصة للانتقام!.

وما هي إلا ايام معدودة حتى غزت شاشة التلفاز دعاية لمارادونا تلقفها الجميع بلهفة، كانت الدعاية لمصنع اكياس شيبس نسيت اسمه مع ازدحام الايام والذكريات، المهم ان الدعاية كانت تشير الى مسابقة تهدف الى تجميع مربعات الصور الصغيرة المتعددة والعائدة لمارادونا والموجودة جميعها في داخل كيس الشيبس، كانت تلك الصورة بالذات عند تجميعها تشير الى نفس تلك الصورة لمارادونا الفريدة والمعلقة على جدران غرفة صاحبي!.

ايام وغزت اكياس الشيبس التي تحمل وتحتوي على صور مارادونا كل دكاكين المخيم، وتسابق الجميع على شراء حصته من الشيبس بغية امتلاك اكبر قدر من تلك الصور الصغيرة.

في المخيم انطلقت حملة مسعورة بغية تجميع وتركيب قطع الاحجية من تلك الصور الصغيرة، والتي تتكون من خلال تجميعها وتركيبها الصورة الاكبر، والتي عند تجميعها تعطي نفس تلك الصورة الموجودة على جدار غرفة صاحبي، تلك الصورة كانت الاجمل لمارادونا.

كانت الدكاكين تعطينا مع بكيت الشيبس لوحة كرتونية بمساحة 20×30 مرسوم عليها صورة مارادونا بلون واحد، وكانت تلك اللوحة مقسمة على مربعات عدة متساوية، اشبه ما تكون بمربعات الرسم البياني، وكان كل مربع يشكل جزء من الصورة الكاملة، وكانت تلك المربعات يجب ملئها بما يتطابق ويتناسب معها من تلك القطع التي تظهر لنا في اكياس الشيبس، كان اجمل ما في تلك القطع المستخرجة من اكياس الشيبس انها ملونة، كانت الصور الملونة ترفا فيما مضى، ولكنه مع مارادونا اصبح ضرورة حتمية لنرى ذلك الجمال والروعة على حقيقته الطبيعية.

اصبح الجميع في المخيم يسابق الزمن بغية تجميع مقاطع تلك الصورة لمارادونا، لم يعد مصروفنا اليومي بقادر على تلبية شغفنا بتجميع اكبر قدر ممكن من مقاطع تلك الصورة.

لا يمكن زيادة المصروف، ولم نكن نعرف بعد ذلك الذل المسمى دين، ولا يمكن العمل، ويجب البحث عن مصادر جديدة للدخل، لكن لا وقت لدينا، فالانهماك على تجميع مقاطع الصورة يشغل البال ويستحوذ على كل الوقت والتفكير المتاح لنا، كان لا بد من الحل.

ذات صباح وبالحاح شديد كنت اطالب والدتي بزيادة المصروف، لمحني ابي فسألني عن السبب، اخبرته امي عن تلك الحمية التي تشتعل لدي انا وكل ابناء الحارة، فاستوضح اكثر عن الموضوع ووعدها بالحل.

بعد ايام عاد ابي وهو يحمل بين يديه ما يكفي لان يملأ ويجمع اكثر من عشر لوحات من صور مارادونا!

استمر ابي على هذا المنوال، وطلب مني ان احضر ما تكرر لدي من الصور انا وكل اصدقائي وكل ابناء الحارة ليستبدلها لنا مع طلابه، الذين اصبح ابي وبصفته استاذهم يحضهم على تبادل الصور المكررة فيما بيننا وبينهم.

لم تقتصر عملية التبادل على طلاب مدرسة ابي وابناء حارتي فقط، بل انتشر هذا الامر حتى اصبح ظاهرة عمت وشاعت في كل ارجاء المخيم، وكالنار في الهشيم دب هذا الامر في كل الارجاء وتمدد حتى خارج المخيم.

لم يقف الامر عند هذا الحد، بل تسارعت الوتيرة واوشك الوقت المخصص لهذه المسابقة على النفاذ، فشاعت في المخيم عادة جديدة تمثلت في لعب الفنة في مقابل هذه الصور، وهذا ما ابقى صورة مارادونا في حواري المخيم سنوات وسنوات، فجيل كامل منا كبر وصورة مارادونا بين يديه وفي جيبه وعلى جدران بيته وفي شاشات التلفاز وفي باكيتات الشيبس.

هناك من كان اسعد حظا بأن نجح في تجميع كل مكونات تلك الصورة في الوقت المحدد، ونجح في استبدلها بالجائزة المعلن عنها، فكان هناك من نجح باستبدال طبة الشرايط بكرة حقيقية يباهي بها اقرانه، وهناك من ربح بسكليت والتي لم نكن نعرف في حينه ان اسمها دراجة هوائية؛ كنا كثيري السؤال عن ماهية تلك الجائزة المذكورة التي تتذيل تلك اللوحة الكرتونية المطبوع عليها صورة مارادونا، كنا نتسائل ما المقصود بالدراجة الهوائية مقارنة مع الدراجة النارية التي تلي الدراجة الهوائية في قائمة الجوائز؟ كان من ضمن الجوائز ايضا دفاتر واقلام وقرطاسية وتيشيرت يحمل الرقم 10 ، كان من ضمن الجوائز شوال شيبس ايضا، وكانت الجائزة الكبرى تلفزيون ملون 24 بوصة يسيل اللعاب عليه ولم نكن نراه حتى في المناسبات، كانت اقصى الامنيات في هذا المضمار ربح ذلك الجهاز الموصول به سماعات للاذن، ذلك الجهاز كان اسمه هيتفون، كان ذلك الهيتفون ترفا لا تحتمله زقاق المخيم، لكنه كان امنية في قوائم الاماني، جهدنا كثيرا لتذكير النفس بها وحرصنا عليها من عوالم النسيان، لكن هذا هو ديدن الايام مع من غلبتهم الدنيا وتجاوزتهم الاحلام، فما ان تحلم بشيء وتصنع له العوالم وتضيء له الدروب وتسهل له كل المسالك وتنتظره بفارغ الصبر، حتى يأتيك صاغرا لكن بعد فوات الاوان.

ذات يوم وقبل انتهاء موعد المسابقة احضر لي صديقي كرتونة مليئة بكل مقاطع الصور التي تجمع صورة مارادونا واعطاني اياها، اخبرني صديقي بأن اوزعها على الجميع وان احرص على تسليمها للدكاكين في نهاية هذا اليوم.

ازدحم القصاد والاصحاب واصحابهم على زقاق حارتنا بغية اللحاق بركب الفائزين والتحصل على ما تبقى لدينا وما يفيض عن حاجتنا بغية اكمال لوحتهم، كنت قد وزعت كل ما لدي على تلك الجموع التي امتلأت بها زقاق حارتنا، لم يتبق لدي شيء، احدهم بكا بكاء شديدا، لم يعد لدي شيئا لاعطيه، تنبه صديقي لتلك الاصوات ولتلك الجلجلة التي احدثتها الجموع التي تغص بهم جنبات الحارة، فأطل علينا من نافذة البراكية الصغيرة، كان نظره يجول في كل ارجاء الزقاق، يحمل الحب والفرح وينثره على الجميع، كان سعيدا جدا بذلك المنظر، ناداني واستفسر عن سر بكاء ذلك الصغير، اخبرته بأن مالدي من صور قد نفذ، طلب مني ان اعطي ذلك الصغير لوحة كاملة معبئة ومجمعة بصورة مارادونا.

امتثلت للامر على مضض واعطيت الصغير لوحة كاملة مجمع عليها صورة مارادونا، لم يقف الامر عند هذا الحد بل نازعه شقيقه الذي يرافقه في ملكيتها ونشأت بينهما حكاية اخرى...

في ذلك اليوم امتلأت حارتنا بالحكايات، كان اجملها تلك الحكاية التي القى بها على مسامعنا صديقي وابن عمتي بشير اعشيش. كان بشير يخبر الجميع عن قصة مارادونا في مخيم البقعة، كانت تلك القصة قد شاعت في المخيم وراجت وبلغت مراميها واصبح لها مريديها في كل الاجيال، حتى انها اصبحت سلعة للتندر والفكاهة، كانت القصة الطرفة تشير الى ان ثلة (شلة) من ابناء المخيم يشاهدون مباراة الارجنتين وانجلترا في نهائيات كأس العالم، وكان من بينهم خليل كابتن النادي في حينه، وحصل ان اشتعلت المباراة وسجل مارادونا الهدفين، فما كان من صديقهم خليل إلا ان استفحل في شغفه، فكان ان علق على مراوغة مارادونا الشهيرة والتي تحصلت منها الارجنتين على الهدف الثاني بقوله :" هذا الولد رقم عشرة لعيب لعيب، هذا الولد رقم عشرة ابن حرام مصفا".

بعد 34 عام من هذه الحادثة وبالتحديد في 25/11/2020 توفي مارادونا عن عمر يناهز الستين عاما، توفي مارادونا بعد ان جمع المجد من كل اطرافه، ونجح بذلك بصورة فريدة؛ فكان بحق نجم النجوم وملهم الملايين ومعبود الجماهير، نجح بأن يجسد صورة المخلص والمنقذ والاسطورة الباقية، وبرحيله وجب اعادة تعريف معنى الاستثناء والاسطورة في كرة القدم من جديد.

في المخيم بقي مارادونا حاضرا كما كان، وتسابق المحبين في استحضار سيرته ونوادره وكذلك اعظم اهدافه، ولانه المخيم الشهيد والشاهد على النكبة واللجوء والتشريد، فقد اظهر كل ما هو وطني ومشرق في سيرة مارادونا، -وتجاوز عن صورته عند حائط البراق، وغض النظر عن تأيده لاسرائيل في البدايات-.

حافظ المخيم على صورة مارادونا البطل؛ فاظهره في صورة وهو يحمل علم فلسطين وفي اخرى وهو يلبس الكوفية الفلسطينية وفي صورة اخرى وهو يقول للرئيس الفلسطيني محمود عباس "انا قلبي فلسطيني"، ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل تم استحضار كل تصريحاته التي تقف في وجه امريكا واسرائيل وتعادي الامبريالية العالمية بزعامة امريكا، هذا عداك عن استحضار صور لقائاته المتعددة بفيديل كاسترو وهوغو شافيز بالاضافة الى صورة ذلك الوشم الذي يعتلي كتفه الايمن والذي يحتوي صورة ابن بلده والثائر الاممي الكبير تشي جيفارا...

في المخيم كان حضور مارادونا استثنائيا في كل شيء، فله المحبين والمريدين وكذلك الخصوم والكارهين، وجلهم برازيليون، كان محمد وجهاد وعماد اكثر المولوعين من اصدقائي بمنتخب الارجنتين وقائده مارادونا، لكن جهاد كان اكثرهم شغفا، كان كل ما يتعلق بمنتخب الارجنتين متوافر لدى جهاد، كان يقتني المجلات والصور والالبومات ويدون الكثير الكثير من الاحصائيات الخاصة بالارجنتين ومارادونا.

في المخيم لم يخلوا ذلك الحضور الاستثنائي لمارادونا من بعض المصادفات العجيبة الغريبة، ففي نفس يوم وفاته حصل ان توفيت ام خليل كابتن نادي المخيم وصاحب تلك الطرفة الشهيرة "هذا الولد رقم عشرة لعيب"، لم تقف الامور عند هذا الحد فلقد صادفنا في بيت العزاء الذي اقامه نبيل (شقيق خليل) رغم انوف الكورونا، حصل ان تصادفنا مع مارادونا ابو جرار، كان مارادونا ابو جرار يلعب لفريق حيفا في المخيم، كان الجميع يناديه باسم مارادونا لشدة الشبه بينهما، كان ابو جرار يشبه مارادونا في الشكل وقصر القامة وقصة الشعر وطريقة المشي مع رفع الرأس عاليا ودفع الصدر للامام، وكان ابو جرار يحمل الرقم عشرة ايضا، كان يشبه مارادونا في كل شيء تقريبا، إلاّ في مقدرته على لعب كرة القدم كمرادونا طبعا.

في بيت العزاء وجدت صاحبي من ايام مارادونا ومسابقة الشيبس، كانت تقاسيمه قد تغيرت كثيرا، كان شاحب الوجه والعينين، كان الدهر قد اكل عليه وشرب، لكني عرفته سريعا، تأخر هو بمعرفتي، واعتذر فيما بعد، فقد بلغ مرض السكري منه مبلغه، لقد تواطأت عليه الايام والاهوال والانواء، لكنه بقي شامخا صامدا يجابه الحياة بأمل، ذكرته بتلك المسابقة وسألته ان كان لازال يعمل في مصنع الشيبس اياه.

ابتسم كثيرا وترك راسه للحائط، وادخل يده اليمنى من تحت نظارته يخبيء عينيه ويفركها بإصبعيه، كانت يده اليسرى تمسك بخاصرته، توقعته الما طارئا او عارضا صحيا الم به، اخبرني بعد ان انزل يده اليمنى عن عينيه بعدم القلق، واخبرني بسعادته الغامرة بهذه الذاكرة، وسألته بغية الاستزادة بمعرفة حاله واحواله، اجابني من اين تريدني ان ابدأ، قلت له من حيث تريد، اجابني، سنحتاج الى بيوت عزاء كثيرة تجتاح كل حواري المخيم لاخبرك كيف قهرتني الايام؟

فهمت الرسالة من العنوان، ولم يكن هو بخيلا عليَّ في تلك العناوين، لكنه عاد واستدرك قائلا: سأخبرك عن سبب اعتقالي الطويل، قلت يا حبذا، قال: اتذكر تلك المسابقة لمارادونا، قلت نعم، قال : اوتذكر تلك الجملة التي قلتها لك، سألته اي جملة؟ قال : هناك ميزة في كرة القدم انها دائما ما تعطيك فرصة للانتقام! قلت نعم نعم تذكرتها، قال لي : بعد تلك المسابقة وشيوعها وشهرتها وقد كنت انا صاحب فكرتها وهندستها، قاطعته قائلا، لم اشك للحظة بذلك، فتلك الصورة نفسها كانت على جدران غرفتك، وقد مكنتني الايام من ان الاحظ تقسيماتك المربعة عليها، قال: دعك الان من تلك التقسيمات، فبعد تلك المسابقة ونجاحها الباهر طلبتني دوائر وجهات عدة في البلد لاستحدث مسابقة اخرى جديدة شبيهة بتلك الخاصة بمارادونا، لكن على ان تكون المسابقة هذه المرة تحتوي صورة ذلك القزم وليس مارادونا، سألته والشك يعتريني، من ذلك المقصود بالقزم؟ اجابني والدمعات لم تعد تجد متسعا في عينيه: يا مهند ذلك الجواب كلفني عشرون عاما من عمري في المعتقل!!.

في تلك اللحظة خيل لي اني ارى امامي كل الدمعات المتساقطة على جنبات كوكب الارض.

بعد كل هذا الفيض من الذكريات والوجع، مال علي صاحبي وهمس باذني: يا مهند، "قهرتني الايام، لكنها لم تهزمني بعد".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات