الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علاقة المثقف والسلطة ومخاض السودان الجديد

احمد ضحية

2006 / 7 / 17
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


(1 -5 ) :
اذن مثل كل العالم النامي , نشأت الانتلجنسيا في السودان , نتيجةسببين متداخلين , أحدهما له طابع فوقي يرتبط بحركة التحرر الوطني ضد الاستعمار , والسعي نحو بناء الدولة الوطنية .والاخر نتيجة عملية بناء وتوطين جهاز الدولة (1) ..تأثرت الانتلجنسيا في السودان المعاصر , بالانتلجنسيا التقليدية (علماء الدين) لكنها تأثرت أيضا بالمعارف والعلوم الحديثة والأفكار الجديدة .
يشير دكتور حيدر اراهيم الى ان احد الباحثين يرى ثمة توهم بأن المثقف خارج السلطة , ولكنه بداخلها , بمعنى وجود معارضة داخل السلطة لا خارجها , حين يبحث المثقف المسيس عن بديل داخل النسق السياسي القائم ..
وهناك حالات المثقف داخل السلطة وخارجها في آن واحد , وذلك لأنه ينتمي الى مؤسسة تديرها السلطة الحاكمة , ولكن على مستوى المبادرة الفكرية هو خارج هذه السلطة , وهذا لا يعني عدم وجود قلة تحاول ان تكون خارج السلطة , او خارج كتلتها التاريخية (المؤسسة العسكرية , الامة , الاتحادي , الحركة الاسلاموية والطائفية بصورة عامة) متناقضين فكريا معها , وينشطون سياسيا بهدف تغييرها , وقد يكون هؤلاء عاملين داخل أجهزة الدولة نفسها , لأن تحديد داخل / خارج السلطة يتم حسب الموقف الفكري والسياسي , أي بحالة الوعي وليس بحالة الوجود (2) .. ومن هنا ينطلق دكتور حيدر لدحض فكرة "التجسير" بين المثقف والسلطة , مشيرا إلى أن محاولات البعض تعميم فكرة التجسير بالقول أنها موجودة فعلا في المجتمعات الغربية وهي التي تجنب تلك المجتمعات التوترات , فذلك لأن المثقف هناك ليس بعيدا عن السياسة ومراكز اتخاذ القرار , ودوره مؤثر من خلال توعية الرأي العام أو تقديم النصح والمشورة للنخبة الحاكمة في الاقتصاد والاستراتيجيا والعلوم والفنون . كما يقوم بمهام عديدة ذات صلة بالعمل السياسي , مثل العلاقات العامة , كما تظهر في الحملات الانتخابية وقياس الرأي العام والاتجاهات , ويمثل المتخصصون المثقفين مجموعات أو ما يسمى think – tank تساعد في وضع القرار وإيجاد المبررات والتوضيحات وتقديم الحلول العملية اي الاستشارة السياسية المتكاملة , ومثل هذه العلاقة ممكنة في مجتمعات ديموقراطية وتعددية ليبرالية تكفل حق الاختلاف (3) ..لكن في مجتمعات استبدادية مثل حالة السودان الذي يقسم رئيسه بالطلاق في شئون الحكم والسياسة كأنه يفاوض على سعر"بعير" في "سوق الناقة" بأم درمان .فذلك غير ممكن؟! ..
من الصعب أن يتنازل مثل هذا الحاكم المستبد عن سلطته المطلقة طواعية للمثقفين , اذا لم يشكلوا قوة ضغط مؤثرة ومنظمة , لذلك يتم نسف فكرة التجسير هنا من أساسها (4) فالامر لا يحتاج الى جسور او توفيق لوجهات النظر بل تغيير جذري , بتغويض نظام حكم المؤتمر الوطني الاسلاموي الفاسد وبناء نظام ديموقراطي على انقاضه .
( 2 – 5 ) :
لقد وصلت أزمة المثقف والسلطة الى ذروتها خلال عصر الانقاذ , فقد هزم المثقف هزيمة ساحقة , وماحقة لدوره الطليعي , فالدينامية الاجتماعية التي رافقت الفترة من العشرينيات حتى السبعينيات انتقلت الى فئة المثقفين البيروقراطيين , وبالتالي ضمر مركز الاحزاب والتنظيمات السياسية وانتقل الى جهاز الدولة , فقد صعدت البيروقراطية والعقائدية العسكرية والمدينية عدة مرات من خلال الانقلابات في (1958 – 1969 – 1989 ) على حطام النخبة المثقفة وكان ثمن هذا الصعود هيمنة العسكرتاريا او العقائدية أو هيمنتهما معا كما في حالة الإنقاذ( يونيو 1989) , بالتالي التهميش الدائم والعزل المنظم بل التشريد المتواصل للمثقف , ومنعه لعب اي دور مستقل في الحياة السياسية والاجتماعية , وهو ما يفسر ايضا – الى جانب عوامل اخرى اشرنا اليها في حلقات سابقة – اغتراب وهجرة مئات او الالف العلماء والمهندسين والمفكرين والادباء والفنانين الى الخليج واليمن واميركا واوروبا وكندا واستراليا ..
( 3 – 5 ) :
ما هي الاسباب التي دفعت بالعبدلاب والعنج لبناء دولة واحدة مركزها سنار , وما هي الأسباب التي دفعت بالفور والعرب لبناء دولة واحدة مركزها الفاشر , وما هي الاسباب التي حركت الفاشر وسنار لبناء مركز جديد في ام درمان , كحاضرة للسودان الكبير الموحد ..
في ظني يمكن قراءة ذلك بطريقة مختلفة عما هو سائد – بعيدا عن مفهوم "الفرن " أو الدمج القسري او "اعادة الانتاج" وما يرافق هذا المفهوم من أحاسيس بالقسر والاضطهاد التاريخي والتدني او التقدير المبالغ فيه للذات في الهامش – نعم يمكن قراءته بطريق مختلفة اذا اعدنا قراءة الوعي السوداني للكشف عن التصور الوحدوي في سنار والفاشر وام درمان .
فاعادة قراءة التجربة السنارية والتحالفات التي نهضت عليها , واعادة قراءة سلطنة الفور – بل وحتى مملكة المسبعات في كردفان التي شملت "مهمشي"جبال النوبة - , نلاحظ ان كل هذه الممالك او السلطنات نهضت في تحالفات شبيهة بتحالف سنار بطريقة او اخرى . , وان اهم ما يمكننا الخروج به منها هو الحراك الاجتماعي الضخم الذي احدثته , فالمهدية – مثلا – تمكنت من تحريك الشعوب السودانية بمختلف اثنياتها من انحاء السودان المختلفة الى مركزها في في وسط السودان .فام درمان . فمن شأن مثل هذه المراجعة ان تثمر جدلا واعيا حول تقويم التاريخ والتراث السوداني – الذي لا يخلو من ايجابيات عديدة – وتوظيف هذه الايجابيات في فهم الهوية الوطنية بصورة ايجابية , بالتالي الافادة من ذلك لتصحيح وتقويم الحاضر, بدرجة او اخرى , لا ستشراف المستقبل "الفدرالي" المثمر للسودان دون شك .
فالتراث عموما باستثناء (العقيدة) يصبح تاريخا يدرس ويُدرس دونما حاجة للتشبث به , لا لشيء الا لأن العصر تجاوزه , والا سيصبح التشبث بالتراث خاصة ما هو غير مفيد , واجتراره عائق امام الوحدة والتقدم , وهذا يعني ضرورة اعادة بناء الثقافة الوطنية التقليدية وتحويلها الى ثقافة وطنية ثورية .
فاذا كانت الطائفة هي مرحلة متقدمة عن القبيلة , والحزب السياسي مرحلة متقدمة عن كل ذلك , فاننا بحاجة اليوم أكثر من اي وقت مضى الى تغيير الواقع الاجتماعي للمضي ابعد من ذلك , بأن تكون لنا أحزاب حقيقية (برامجية) لا تعتمد على الولاء القبلي او الطائفي او الانتماء الديني في نفوذها , وان تكون لدينا تحالفات كبيرة (شبكة مؤسسات مجتمع مدني – جبهة ثقافية – وحدة قوى السودان الجديد او كتلة قوى السودان الجديد)وهذا لا يعني أن نكتفي بتغيير الواقع الاجتماعي فقط , بل ان نعمل ايضا على تغيير المفاهيم المتصلة بالثقافة الوطنية وأبنيتها ومناهجها وتصوراتها للعالم وقيمتها , والا فان تبريرات الدعائية الطائفية والاسلاموية والاثنية ستودي بهذه الثقافة للحفاظ على تقليديتها – سواء كان ذلك في المركز او الهامش – التي سرعان ما ستستعمل للانقضاض على الكتلة التاريخية (x) التي بإمكانها أن تشيد السودان الجديد فعلا , فالمكونات التقليدية مثل "روح وريحان" و" المنتدى الفقهي" و "وجه النهار"و "العلم والايمان" , الخ ..من برامج تراثية محلية ومستوردة من العالم العربي الاسلامي يتم توظيفها كمعاول هدم لمشروع التنوير باسم الإسلام , وهو ما يفتح الباب واسعا لبرامج المنوعات لتستضيف برامج مضادة للتغيير الاجتماعي في المنوعات المسائية المزعومة بتلفزيون السودان – الذي يفترض انه جهاز قومي وهو ليس كذلك قطعا – مثل استضافة المك ناصر وحاشيته من الجموعية قبل اشهر قليلة في منوعات المساء للتفاخر بانهم –قبيلة الجموعية – "أصحاب البلد" وانهم تكرموا وتفضلو على السودان بقطعة الارض – التي في الواقع هي جزء من مليون ميل مربع مملوكة لحكومة السودان وفقا لقانون الاراضي منذ كانت مؤسسة الاراضي ضمن مسئوليات الجيش- التي شيد عليها مطار الخرطوم الجديد , الذي كان من المفترض ان يطلق عليه اسم الجموعية او يسمى مطار المك ناصر ؟؟؟؟الخ من ترهات ..تسهم في تشكيل الوعي الجمعي بالاتجاهات الخاطئة في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والمعقدة من تاريخ السودان ..
يجب الا يفهم من حديثي هذا أنني ضد الجموعية , فهذا ليس صحيحا , فاستضافة "مك الجموعية" او "سلطان الداجو" ليقول مثل هذه الامور لا تهمني ولا اظنها تهم السودان الكبير في شيء ..ما يهمني حقا هو ان تتم مثل هذه الاستضافات بطريقة مدروسة تسهم في تكريس "السودانوية"وليس"القبلية" ..بحيث تضيف الى رصيد وحدة السودان , لا ان تخصم من هذا الرصيد الفقير .
ما أعنيه بالضبط أن تراعي هذه البرامج عدم اثارة النعرات العرقية , فهز السيف ( على طريقة يا بلد نحنا وحدنا رجالك) تجعل جهاز التلفزيون اكثر جهلا من الجهل الذي هو عليه , في وعيه بحقيقة وطبيعة دوره "القومي " الفعلي , كما تكشف عن عدم وعي هذا الجهاز بالشعار الذي رفعه(التنوع في اطار الوحدة) هذا التنوع الذي لا يفهم منه الاسلامويين العنيفين القائمين على امر التلفزيون سوى" الكمبلا" و "الكسوك", الخ فبنظرهم انهم عندما يعرضون تراث الهامش في الرقص والغناء انما يحققون الشعار المرفوع – اذن كل ما يفهمونه عن تنوع الهامش يتلخص في الرقصات والغناء فقط – وهو دون شك تفريغ للشعار المرفوع , فقد اعتادت الانقاذ تفريغ الشعارات من مضامينها النبيلة , وقد فرغت شعار الفدرالية من محتواه من قبل . ان قضية التنوع اكبر من هز السيوف او العجيزات . انها باختصار تتلخص في كيف يسهم الهامش مع المركزفي صياغة المعنى الاجتماعي العام لكل السودان , لا في الرقص والغناء فحسب .
ما يطرح الحاجة لتلفزيون جديد في برامجه الحية , يطرح – على نحو خاص – ما هو جوهري في قضايا التنوع الثقافي والتباين العقدي والاثني , ونقاط الالتقاء او المشترك بيننا جميعا . وهو امر يقتضي مزيعين حقيقيين على درجة معقولة من الثقافة والوعي . وهذا لن تحققه الا سياسات جديدة للاعلام عموما سياسات ترمي لتعميق نقاط الالتقاء بين السودانيين في اطراف الجغرافيا المختلفة . سياسات تفهم معنى ان يكون لك "شركاء اصيلين" في الوطن , من حقهم ان يروا انفسهم "ذاتا" فاعلة لا "موضوعا"من موقع الآخر الذي يجابه "الذات "المركزية .منذ 1956.
ما نرمي اليه انه يجب ان نعمل على معالجة الثقافة التقليدية في كافة مستوياتها بتفريغها من هذه العتمة التي تعتمل داخلها .واحتواء مراكز الخطورة فيها على مشاريع الوحدة الوطنيةوالتحديث , فدون ذلك لن يكون لدينا مجتمع مدني حقيقي ولا مؤسسات مجتمع مدني حقيقية ولا اجهزة قومية حقيقية في المحصلة النهائية لا وطن حقيقي او دولة حقيقية بين دول العالم الواسع , الذي نشعر بالخجل عندما نتجول فيه ونرى الهوة التي تفصلنا عنه .
( 4 – 5 ) :
ما تقدم لن يتم الا بضغط من الكتلة التاريخية (الكتلة التاريخية المقصودة هنا : قوى السودان الجديد الموحدة بما في ذلك الحركة الشعبية والمثقفين الديموقراطيين)التي لا يجب ان تكون هنا هي ذاتها مجرد مرحلة لتغيير موازنات السياسة وسياسات الدولة . اذ يجب ان تبنى وتشيد على اساس انها تنظيم ينهض في العقلانية والديموقراطية وتعدد المنابر داخله والممارسة التحررية الوطنية والتنموية والوحدوية ..
والكتلة التاريخية ليست مجرد مفهوم , فهي تحالف قابل للتطبيق وجدير بان نفكر فيه كفكرة مركزية لمجابهة تحديات هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا فهي ممكن امثل يتوافق مع معطيات تاريخنا الذي لطالما نهضت دوله في التحالفات , بالتالي يمكننا تحقيقه فالتاريخ لا تغيره ذكريات "نحاس" الجموعية في ام درمان ولا ذاكرة الفروسية لدى "بني جرار" – فقد كانت الميرم "تاجا" اخت علي دينار تساوي لوحدها عشرة فرسان اشداء , وقيل في رواية اثنية أكثر راديكالية مائة .. وكان طبل علي دينار "المنصورة" لا يقرع الا لامر جلل .. وكان يا ما كان في سالف العصر والاوان .. ثم مااذا بعد كل هذا ؟؟؟!!..
ما الذي يعنيه كل ذلك للحاضر ؟؟ التاريخ تغيره حسابات الحاضر وميزان القوى في هذا الحاضر ..
ولان الإعلام القومي – مجازا – لا يزال اعلام اسلامو عربي لن يتم تصحيح مساراته لاستيعاب الشركاء الاخرين في الوطن الا بتقويض حكومة المؤتمر الوطني من اساسها وتشييعها نهائيا الى مزبلة التاريخ الى غير رجعة للحركة الاسلاموية ..ليبدأ عهد البناء الحقيقي للدولة السودانية الجديدة , التي نأمل ان يكون لنيفاشا "دور حقيقي" فيها ..حتى يخرج فعلا من ركام الماضي وذكرياتنا الحزينة سودان جديد يلبي تطلعات الجميع ..
(5 – 5 ) :
صحيح نحن لسنا متشابهون كتؤام لكن ذلك لن ينفي اننا اخوة , وهو ما يجب ان نركز عليه كمثقفين وديموقراطيين – استثني هنا مثقفي المؤتمر الوطني وكتلته التاريخية والانتهازيين الذين تجدهم حينا اقصى اليمين وحينا اخر اقصى اليسار وفقا للموجة – يؤمنون بمشروع السودان الجديد بارادة موحدة , تعمل على بلورة نظرية تعتمد عليها قوى السودان الجديد "الموحدة" بهدف مقاربة هذا المفهوم "السودان الجديد" كبرنامج للعمل الوطني وعدم الاكتفاء بتجارب الصواب والخطأ التي يمكن ان تقع فيها الحركة الشعبية لو بقيت منفردة لتها التاريخية "قوى السودان الجديد", بعيدا عن تحالف المثقفين والديموقراطيين وقوى السودان الجديد .
ومسألة الارادة الواحدة لن يحققها الا هذا التحالف "الكتلة التاريخية" فدون هذا التنظيم لن يتمكن المثقفين ولا قوى السودالن الجديد من حماية مكتسبات نيفاشا .
- يتبع –
هوامش:
(1) دكتور حيدر ابراهيم علي . المثقفون : المفهوم والتكوين في السودان .مركز الدراسات السودانية . القاهرة 2001 . ص : 66
(2) السابق. ص : 25
(3) نفسه . ص : 34
(4) نفسه ص : 37
(x) أنظر : دكتور حسن حنفي ودكتور محمد عابد الجابري . حوار المشرق والمغر ب . رؤية للنشر . القاهرة 2005.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران