الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول

حامد تركي هيكل

2020 / 11 / 30
الادب والفن




تقع البسطة رقم 13 التي تعود للصديقين عماد وحسن على الرصيف المقابل لمحلة البتاويين، بين الشارع وحديقة الأمة، في منتصف المسافة تقريبا بين ساحة التحرير وساحة الطيران. ثمة بسطات كثيرة إلى جوارها، وبسطات أخرى صُفتْ على أرض الحديقة أسفلها. بسطات متراصّة، بدت وكأنها كثيرة الى درجة لا يمكن عدُّها. غطَّت البسطات كل المساحات في المكان الممتد من ساحة التحرير إلى شارع الجمهورية إلى شارع السعدون إلى ساحة الطيران. وقد عمدت البلدية على ترقيمها لاستحصال مبالغ منها لقاء اشغال الرصيف. فكانت هناك 3562 بسطة!
جموع غفيرة من الناس تحتشد هنا يومياً، حتى لكأنك تشعر أن سكان المدينة كلهم قد هجروا بيوتهم وجاءوا هنا يجولون حول هذه البسطات. تكاثرت هذه البسطات العشوائية التي تنتمي الى عصر بدائي بسرعة. بدت البسطات متشابهة إلى حد كبير، ولكنها مختلفة. مختلفة بوظائفها، ومختلفة بأصحابها. فثمة بسطات للنساء، وأخرى للرجال. وثمة بسطات لبيع الملابس، وأخرى لبيع الأطعمة، والأدوية، وبسطات أخرى لكل ما يخطر ببالك من سلع.
تنوعت المبيعات بتنوع الشعب. وتنوعت الشخصيات بتنوع المجتمع. بيد أنها بدت متشابهة. فكلها لأناس بسطاء. ترى فيها الحب ذاته، والصدق ذاته، والطيبة ذاتها، والوجع ذاته. ربما كان هناك تنوعٌ خفيٌّ آخر لم يتعرف عليه الصديقان عماد وحسن بعد. ربما لأنهما حديثا العهد بعالم الحضيض الذي انغمسا به مؤخرا.

أبنية
ثمة تناقض صارخ بين الشكل الهندسي للأبنية التي تحيط بالساحة والشوارع المتشعبة عنها من جهة والبسطات من جهة أخرى. فالأبنية رغم انتمائها الى عصور مختلفة الا أنها هندسية، تعود الى الحضارة أو المدنيّة، تشعر أن تلك الأبنية تعود الى النظام، وقد بُذل جهدٌ واضح لإنشائها. وتلك الأبنية عالية وراسخة.
الأبنية التي تحيط بساحة التحرير متباينة، فبعضها شاهق وبعضها واطيء، بعضها مكتمل منذ عقود، وبعضها هيكل فارغ منذ عقود، بعضها متهالك امتدت اليه يدُ الزمن لتنال من جماله وعمارته، وتحيلها الى خرائب آيلة الى السقوط، وبعضها جديد. كل الأبنية المحيطة بساحة التحرير تحكي قصصَ التحولات التي مرَّتْ بالبلاد، وتلك القصص مؤلمة غالباً. فها هي مدرسة الراهبات التي أُنشئت على أرض بستان نخيل جميل على شاطيء دجلة بهندسة وعمارة أوربية، اكتسبت شرعية تاريخية بعد مرور الزمان عليها، وبعد أن ارتبطت بذاكرة الناس بهيبتها ودورها التربوي المتين، وبمن مررنَ بها ودرسنَ فيها من بنات العراق. ولكنها تحولت الى ثانوية العقيدة! يوم امتدت اليها يد الدولة الشمولية لتنفي كل تنوع ممكن خارج حدود سلطتها. مرة أخرى اكتسبت تلك الثانوية تجذّرها في ذاكرة الكثيرين الذين لم يعرفوا سواها شاخصا يشغل هذا الموقع العزيز من بغداد.
ما ينطبق على مدرسة الراهبات ينطبق على كل متر مربع، وعلى كل جدار. فقد شمل تغير التاريخ تغير أسماء الشوارع والأماكن. فشارع الخلفاء كان اسمه شارع الجمهورية، وكان قبل ذلك اسمه شارع الملك غازي. وجسر الجمهورية كان اسمه جسر الملكة عالية. يا ألهي! للمكان بعدٌ رابع.
وحده نصب الحرية بقي محتفظا بشخصيته التي أُنشئ عليها. لم تستطع أيادي السلطات المتغيرة أن تمتد اليه. بقي نصب الحرية ربما لغموضه، وربما لاحتواءه على رموز لا يمكن لأحد أن يشكك بها، ولعظمته التي لا يمكن لأحد أن يجرؤ على المساس بها، أو لربما لقدمه، أو لعلوِّه! بقي نصب الحرية سالما من العبث والتحولات.
مدرسة الراهبات صارت مثل خاصرة آمنة للساحة، والمطعم التركي الذي يربض مثل ثور مجنح ، فهو مثل برج مراقبة يبعث شموخه على الأطمئنان، ونصب الحرية ذاته صار أيقونة لبغداد.
شوارع
ساحة التحرير، هي كل المساحة المتشعبة كشبكة. قلبها ساحة التحرير، تلك الدائرة التي تحيط بها الشوارع وتتوسطها حديقة النخيل، التي تؤدي اليها سلالم. والتي أصبح لها رأس هو جسر الجمهورية، وجسد هو نفق التحرير. يحمل ذلك الجسد على كتفيه نصب الحرية مثل شراع سفينة تبحر الى مرافيء مجهولة! ثم توسع هذا الجسد فصار يشمل حديقة الأمة والشارعين المحاذين لها من الجنوب والشمال، حتى ساحة الطيران. ولهذا الكائن المتشعب أطرافٌ تمتد من جهة الجنوب من أمام وخلف مدرسة الراهبات على امتداد شارعي أبي نواس والسعدون حتى تتلاشى عند أطرافها البعيدة. أما من الجهة الشمالية فتمتد عبر شارع الرشيد وشارع السعدون الذي هو امتداد لشارع الخلفاء( الجمهورية سابقا) حتى جسر السنك وساحة الخلاني. كل تلك الشبكة من الأماكن تشغلها في الظاهر فعاليات تجارية وتمر منها وعبرها حركة سكان بغداد، الا انها في الواقع موطن لنشاط وسكن وحياة جماعة لا يعلم بها أحد.
عالم قاع المدينة
خلف العالم المرئي المعروف لدى الجميع وخلف العالم الرسمي الذي توثقه سجلات الحكومة والتسجيل العقاري وعقود البيع والشراء والاجراءات المعلنة التي يعرفها المجتمع ثمة عالم آخر غير محسوس. عالم لا يراه التجار، ولا يشعر به المتحركون بسياراتهم ولا يراه السابلة والمتنزهون والمتبضعون. ولا يراه عمال البلدية، ولا رجال الشرطة ولا السياسيون، ولا رجال الدين. عالم خفي مستقل بذاته ومعزول.
شخوص هذا العالم يفضلون البقاء في الأماكن الأكثر عمومية مثل شوارع وانفاق وحدائق الباب الشرقي، حيث يكون الناس مسرعين ومتغيرين وطارئين فلا ينتبهون لهذا العالم المقيم. وهم يتحاشون العيش في الأماكن السكنية لأن الناس العاديين هناك يترددون على مركز المحلة يومياً، وبالتالي يثير انتباهم وجود هؤلاء الغرباء، فيضايقونهم أو يؤذونهم. أما مراكز المدن والأماكن الأكثر عمومية فهي ليست لأحد. وبإمكان شخوص عالم الظل هؤلاء أن يعيشوا هنا بسلام، وان يعملوا ببيع الاشياء وان يؤسسوا لهم بسطات كبسطة عماد وحسن. ليس كل البسطات لأناس ينتمون الى عالم الحضيض هذا، بل أن أكثر البسطات لأناس عاديين، وقد لا يعلم هؤلاء العاديون بوجود رجال ونساء الحضيض بينهم. فهم يعودون مساء الى بيوتهم تاركين الشوارع لرجال ونساء القاع لا يشاركهم بها أحد.
شخوص هذا العالم الخفيّ المتواري خلف عالم الناس الطبيعيين هم الأكثر ذكاء، والأقدر على البقاء رغم صعوبة حياتهم. وهم الأكثر عفة ونقاء وانسانية. وهم متعاونون مع بعضهم بطريقة لا يدركها الناس العاديون.
شخوص هذا العالم نجحوا بالافلات من أقسى الظروف، فهم فنانون محبطون، وروائيون مبدعون، ورسامون لم يستطع المجتمع تقدير ابداعهم، هم سياسيون معارضون فرّوا من ظلم الحكومات لينجوا بجلدهم، وهم جنود فرّوا من الخدمة العسكرية حين رفضوا الاشتراك بالقتل، وهم محبّون فشلوا بتجارب عشقهم الخاصة، وهم ضحايا من كل نوع. هم مرضى انفصام الشخصية، ومرضى الرهاب بكل أنواعه، وهم ضحايا الجن، وأناس تعرضوا للسحر الأسود ففقدوا توازنهم وفقدوا قدرتهم على العيش مع الناس. هم ضحايا التعذيب في سجون الحكومات وسجون المحتلين، وهم أناس سحقتهم الظروف ففروا الى سلام عالم الحضيض.
لا يعرف عالمهم الا من هو منهم. أما نحن فبالكاد نشعر بوجودهم. وحتى لو احسسنا بوجود أحد منهم فربما لا يتجاوز انتباهنا له بضع ثوان من الزمن. ثم ما نلبث أن نغفل عنه لأنه ببساطة لا يهمنا. نرى أحيانا أحدهم وهو يعبر الشارع أمامنا بلباسه الممزق، أو نشاهده أحيانا وهو يفترش الرصيف يهيئته المقززة. نشاهد أحدهم وهو يتكلم مع العصافير التي تحط على شجرة فنضحك برهة ثم نتجاهله. ونلاحظ أحدهم وهو يحث الخطى سائرا وثمة كلاب تسير معه، فنعجب، ولكننا نتغافل عنه، فنحن لا نشعر بفضول من أي نوع لمعرفة هؤلاء الاشخاص المجانين.
نجح افراد مجتمع الحضيض هذا بالافلات من قبضة السلطة التي احكمتها علينا نحن الاسوياء، فظلوا أحرارا لا يلتفت اليهم أحد. فلم يتم سوقهم في صفوف الجيش الشعبي. وحينما سقطت بغداد بيد القوات الأمريكية، لم يلحظ الجنود الأجانب الذين كانوا يراقبون تحركات الناس من خلال زجاج همراتهم، وشاشات دباباتهم ومن خلال كامراتهم المعلقة على المناطيد وتلك التي تجوب بها الطائرات سماء بغداد، لم تنتبه كل تلك الاجهزة والعيون الى وجودهم. ورغم ان الشظايا والقنابل العنقودية وانفجارات السيارات المفخخة قد نالت من بعضهم بالصدفة، إلّا أنهم أفلتوا من كل تلك الفوضى.
رجال العالم الخفي هؤلاء لم تؤثر عليهم الحرب الطائفية والانقسامات العميقة التي حصلت في البلاد. فلم يشغلوا أنفسهم في سؤال بعضهم البعض عن عشيرته أو قوميته أو طائفته. بل ظلوا متحابّين متعاونين يساعد بعضهم بعضا، ويتفقدون بعضهم، ويتقاسمون خبزهم.
ساحة التحرير مكان شرعي لهم، وخاصة في الليل. يتواصلون ويتناقلون الاخبار. وهم يحتلون كل تلك المساحة الشاسعة الممتدة وسط بغداد، يسكنون الخرائب والحدائق والانفاق والمقابر القديمة التي لم يعد أحد يدفن موتاه فيها. يفترشون الحفائر في الباب الوسطاني وما تبقى من أسوار بغداد التاريخية، ومقبرة الشيخ عمر، والأبنية الخاوية المهدمة في البتاويين والأزقة المعتمة التي تتخلل المحلات القديمة المهجورة الواقعة بين شارعي الرشيد والجمهورية.
هم شعب آخر ممتد ومتواصل يحفظون تراتثهم الخاص بهم، فبعض قصصهم المحكية بينهم والتي لم يسمع بها الناس العاديون تعود الى زمن الحرب بين الهادي والمهدي! وبعض حكايات أسلافهم تعود الى المدة التي احتل بها هولاكو بغداد! يتناقلونها، فتساعدهم على قضاء الوقت. وعندما شاع بين الناس استخدام الهاتف النقّال، اقتنى بعضُ رجال ونساء مجتمع القاع هؤلاء تلك الأجهزة، فساعدتهم على التواصل بينهم وتفقد أحوال الجماعة التي امتدت رقعتها كثيرا.
عماد وحسن
يبلغ عماد من العمر عشرين عاما، أسمر البشرة نحيف، عيناه كعيني صقر، كان طالبا جامعيا في السنة الثالثة حين هجر عالم المدينة الفوقي ليلتحق بعالم المدينة السفلي هذا. كان يسكن مع أهله حي الأمين، بغداد الجديدة. ذكي جدا، كان يحبُّ القراءة، ويحبُّ الرسم، ومشاهدة الأفلام السينمائية. أما حسن فيبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، معتدل القامة، أبيض البشرة، ذو وجه طفولي، كان عاطلا عن العمل، يسكن أهله حي أور. حسن تنقّل بين عدد من الأعمال الموقتة المختلفة، وقد توصل الى فكرة مفادها أن لا سبيل أمامه لبناء نفسه. فكل الطرق مسدودة. شاهد بنفسه كيف أن الاعمال التجارية والإنشائية وكل الأنشطة المختلفة التي عمل فيها عاملا بسيطا يسيطر عليها فاسدون أميّون لا يفقهون من الحياة شيئا. وهؤلاء يزدادون غنىً وفسادا يوما بعد يوم، ويستحوذون على كل شيء يوما بعد يوم. أما الشباب أمثاله فلم يعد أمامهم من فرص للحياة. الفرص المتوفرة هي تلك الفرص الكريهة غير المحببة والتي تتمثل بخدمة الفاسدين والتملق اليهم والعمل معهم. هكذا فهم الواقع. يسكن عماد وحسن خيمة بسيطة نصباها في حديقة الأمة منذ أن تركا عالم الناس والتحقا بالعالم الخفي لرجال قاع المدينة هذا.
لكل واحد من شخوص عالم قاع المدينة أسبابه الخاصة التي دفعته للجوء الى القاع، حيث وجد نفسه. في عالم القاع هذا تسود قيم التعاون والمحبة والصدق والنقاء. قيم تبهر كل من يتعرف اليها، فينجذب اليها، وينشدُّ اليها الى الأبد.
رجل غامض
في الساعة الخامسة مساء تقريبا من مساء يوم شتوي بارد، عندما كانت مصابيح أعمدة الانارة مطفأة بسبب انقطاع الكهرباء عثر الشابان على رجل ملقى قرب خيمتهم التي نصباها في حديقة الأمة لمبيتهما. تلك الخيمة الحقيرة التي لا تنصب الا ليلا فلا يلاحظها أحد نهارا. ولكنها كانت تبقى قائمة في بعض الأحيان، فلا يلتفت اليها أحد، حين عمت العشوائية وسط بغداد، وهجر مراقبوا البلدية أعمالهم منذ سنوات طويلة.
كان رجلا في الخمسين من عمره ربما. يرتدي معطفاً قديماً، كثّ اللحية، بنطاله ممزق، وكذلك قميصه والكنزة التي يلبسها. عندما وضعه الشابان على بطانية وتفحصاه، هالهما هزال جسمه. لم يكن مصابا، بل كان مغمى عليه.
جرداه من ملابسه وعلى ضوء مصباح يدوي يعمل بالبطارية، تمكن الشابان من فحص جسمه للتأكد من خلو الجسم من اصابة ما.
- حسن! يبدو أن الرجل سليم. قال عماد
- نعم! ولكنه في حالة إغماء.
- لننظفه إذن ونلبسه ملابس أخرى غير ملابسه القذرة هذه.
- سأتصل بسعيد بالة لجلب ملابس.
اتصل عماد بسعيد بالة، وهو شخص معروف في مجتمع القاع، والذي كان يعمل سابقا في بيع الملابس المستعملة في الباب الشرقي، فهو يعرف المخازن، ويعرف البسطات ويعرف كل شيء تقريبا، حتى أنهم أطلقوا عليه كنية ( إبليس). بعد أقل من ربع ساعة على اتصال عماد بأبليس هذا طالبا منه احضار ملابس لرجل في الخمسين من عمره، وبعض المطهرات، جاء سعيد حاملا كيسا يحتوي الأشياء المطلوبة. بعد عملية تطهير سريعة باستخدام سوائل معقمة وقطن وشاش. تعاون الشابان على إلباس الرجل الملابس التي جلبها لهما سعيد على وجه السرعة، وهي ملابس داخلية شتوية، ودشداشة شتوية زرقاء اللون، وغطاء رأس عبارة عن كيس صوفي لونه أسود. ثم سارعا إلى تغطيته بالبطانيات.
جلسا صامتين يتأملان هذا الرجل الغريب. على ضوء مصابيح يدوية.
في الساعة الحادية عشرة عاد التيار الكهربائي مرة أخرى، وتوهجت الساحة مرة أخرى بالنور بعد أن كانت تغرق بظلام دامس. وللنور بعد الظلام ألقٌ خاص. تكشفت قسمات وجه الرجل بصورة أوضح. كان الشابان متعبين ونعسين. ولكنهما كانا مشغولين بهذا الرجل الغريب. فوضعه غريب. هو كبير السن، ولا يعرفه أحد، ولم يشاهده أحد من المشردين في الساحة. وليس في جيوبه أيّ شي يساعد في التعرّف على شخصيته. لا بطاقة شخصية ولا جهاز هاتف ولا أي شيء.
ثم أنه لا يبدو أنه مصاب بجروح، ومؤشراته الحيوية مستقرة كالتنفس والنبض. كل ما هنالك هو غائب عن الوعي.
تساؤل
شاع خبر الرجل الغريب بسرعة بين اصحاب البسطات والشحاذين ومدعيّ الجنون، وما أسرع ما تنتقل الأخبار بين رجال ونساء القاع في ساحة التحرير. فساحة التحرير بالنسبة لهؤلاء على امتدادها وتشعبها جسد واحد، تنتقل داخله الإشارات والأخبار بينهم بسرعة البرق. ساحة التحرير كلها كيان واحد متواصل، فهم يتواصلون بالرسائل النصية وبالمكالمات. وسرعان ما جاء الخيمة عدد من الشباب منهم. وكذلك حضر عدد من الرجال كبار السن على أمل التعرف على الرجل الغامض. تفحصته عيون من حضروا، تطلعوا الى وجهه الأسمر الذي ظهرت وجنتاه، وغطته التجاعيد، لحيته الكثّة المتسخة، أسنانه المتهدمة الصفراء، جبهته المرسوم عليها خطوط أفقية غائرة. جسمه النحيل الذاوي، والذي يبدو عليه الهزال. أصابعه التي تعلوها طبقات من السخام، أظافره التي لم تُقلّم منذ زمن بعيد.
هل جاء هذا الرجل من مكان بعيد؟ تساءل رجال القاع. هل كان يعيش كل تلك المدة هنا في أزقة المنطقة ولم يتعرف عليه أحد منهم. هل جاء من منطقة أخرى من مناطق بغداد ؟ هل جاء من محافظة أخرى؟ هل هو مجنون أم عاقل؟ هل هو مرسل من قبل السلطات لكشف أسرار عالمهم المتواري في الظلال؟ أم أنه رجل ينتمي الى الناس العاديين؟
- أوه! هذا دكتور منعم، أنا أعرفه. قال سليم المتحدر من منطقة الوزيرية. وسليم متسرع دائما في إطلاق أحكامه على الأشياء دون تردد، حتى بات الجميع يعرفون ذلك ولا يثقون بما يقوله. فما يهمُّ سليم هو أن يقول لا أن يقول شيئا محددا ودقيقا. وواصل كلامه.
- دكتور منعم أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد. كان أستاذاً معروفاً وذكياً جدا، والطلاب كانوا يأتون إليه وهو نائم على بطانية على الرصيف ليسألوه بمسائل معقدة لا يعرفها إلا هو. يقولون أنه تعرض للسجن والتعذيب مرة، ولذلك فقد عقله وصار مشردا يفترش الرصيف ويأكل مما تجود به أيدي المحسنين.
شاع خبر رقود الدكتور منعم أستاذ الفلسفة في خيمة حسن وعماد في كل أرجاء ساحة التحرير. وتحدث عنه الجميع. فقد عرفه الناس رجلا فقيرا يفترش الرصيف المقابل للمكتبة المركزية في منطقة الوزيرية. كان دائما يحتفظ بقنينة ماء وصمونة. ينام متدثرا ببطانية قذرة، مضطجعا في هذا المكان منذ زمن بعيد لم يعد أحد يتذكر بدايته.
وغالبا ما كان الدكتور منعم يبتسم للمارة، بعض الناس كانوا يعتقدون أنه مخمور دائما، رغم أن أحدا لم يشاهده وهو يحتسي الخمر. ولا يعلم أحد على وجه التحديد من أين يأتي بالخمر ليشربه، ولا من أين له بالمال اللازم لشرائه. الا أن تلك الأمور غالبا ما لم تكن ضمن تفكير الناس عندما يشاهدون شخصا متسخا يفترش الرصيف. وما حاجة المجنون للخمر وهو المأخوذ الى درجة لا يضاهيها سكرٌ. وأحيانا يظهر العدوانية للمارة، خصوصا لأولئك الذين يضايقونه. كان الدكتور منعم غالبا يغط بنوم عميق طيلة ساعات النهار. أما ليلا فقد شاع بين الناس أنه كان يقصد أماكن مخيفة لا يعلم بها أحد. اذ قال بعضهم أنه شاهده يجول بين قبور الجنود البريطانيين في المقبرة الانجليزية القريبة. شاهدوه وهو يسير بمحاذاة سكة القطار المعلقة المتصلة بجسر الصرّافيّة، ثم يدلف الى المقبرة. وسمعوه وهو يكلّم أرواح القتلى بلغة أجنبية. وما أن تشرق شمس اليوم التالي حتى يعود الى رصيفه المعتاد لينام. بعضهم الآخر قال أنه كان يشاهد الدكتور منعم كل ليلة يتسلل الى مقبرة الشيخ عمر، وهناك كان يقضي الليل كله يكلم الموتى ويناقشهم بمسائل لا يعرفها أحد. فيما أقسم آخرون أن الدكتور منعم كان يحرص على البقاء هنا ليكون قريبا من المكتبة المركزية حيث كان يتسلل الى قاعاتها ومخازنها خلسة من منافذ سريّة، ومن انابيب التبريد، يقرأ فيها على ضوء مصابيح الشوارع الذي ينفذ من الشبابيك. ولكنه ترك القراءة عندما انتقلت المكتبة المركزية الى مكان آخر.أحيانا يوقظه طلاب الكليّات ليسألونه عن موضوع معين. ينتهرهم أحيانا فيهربون. وأحيانا يعتدل بجلسته فيشرح لهم وهم يسجلون كل كلمة يقولها. وقد شاع بين الطلاب أن من يأخذ من الدكتور منعم فكرة أو موضوعا فيكتبه ينال أعلى الدرجات.
الأمر الذي لم يكن معقولا بالنسبة لرجال عالم القاع هو أنهم كانوا يعلمون أن الدكتور منعم قد مات منذ سنوات، فهو واحد منهم. ولا يعقل أن يكون قد عاد من موته. إذن من يكون هذا الغريب الوافد اليهم والذي لا يعرفه أحد منهم؟
لكن عبود الرجل الذي كان متخصصا بجمع فتات الخبز وكعوب الصمون، والذي كان يخزن بصبر منقطع النظير تلك البقايا اليابسة بأكياس في الخرابة التي يسكن فيها، والتي كان لها دور في انقاذ الارواح في أوقات عديدة عصيبة مرت بها الجماعة في الماضي القريب، قد أبدى رأيا آخرا.
- لا، هذا سلمان أعرفه. هذا مسكين انفجرت مفخخة على سيارته ومات كلُّ أفراد عائلته، ففقد عقله.
عبود يعرفه الجميع هنا تقريبا، فهو رجل ضئيل البنية يلبس دشداشة بيضاء صيفية في ليالي الشتاء الباردة. تفوح منه رائحة العجين المختمر والذي يلتصق على يديه وعلى دشداشته.
فقد عرف سكان جسر ديالى منذ زمن ليس ببعيد قصة سلمان الذي كان يقود سيارته الواز الروسية القديمة والتي كانت تقل أسرته الصغيرة المكونة من زوجته وولده وابنته، متجها لزيارة بيت والده يوم الجمعة عندما انفجرت سيارة مفخخة أمام سيارته تماما. كان سلمان يسكن بيتا من بيوت التجاوز ضمن ما كان يعرف سابقا بمعسكر الرشيد. فمنذ الأيام الأولى لسقوط بغداد، استحوذ على غرفتين من غرف المعسكر، فسيجهما ووضع للسياج بابا من الصفيح، وسكن فيهما هو وأمه. بعد مدة تزوج، وعادت أمه لبيتها في منطقة جسر ديالى. ومنذ ذلك اليوم وحتى يوم الانفجار المشئوم كان سلمان يعيش في بيته الذي أصبح ضمن حي كبير جدا من بيوت المتجاوزين. ورزق بنت وولد. منذ ذلك الوقت عمل سلمان بأعمال مختلفة ، فقد عمل في بيع المسروقات تحت جسر محمد القاسم قرب ساحة النهضة مدة من الزمن. ثم عمل في عصابة للسطو المسلح مدة أخرى. ثم عمل منظفاً مع الأمريكان في منظمة. ثم عمل فرداً في مليشيا قبل أن يترك كل تلك الأعمال ليتفرغ الى العمل كوسيط بتجارة الأعضاء البشرية. اعتاد سلمان ان يصطحب أسرته كل يوم جمعة للغداء في بيت والده في جسر ديالى. قتل الانفجار كل أفراد الأسرة، وقذفه العصف بعيدا، ولكنه نجا بأعجوبة. ليكتشف الناس بعد مدة أنه قد فقد عقله. فقد راح سلمان يجول ليل نهار في ذلك المكان الذي حصل فيه الانفجار. كان يسير من جسر ديالى على امتداد شارع محمد القاسم حتى ساحة النهضة، ثم يعود ادراجه ليصل الى البوعيثة. وهكذا كما البندول ظل يذرع تلك الأرجاء جيئة وذهابا يحدث نفسه. ينام حيثما شعر بالأرهاق. يأكل ما يقدمه له باعة الثلج والمشروبات الغازية الذين كانوا يبيعون بضاعتهم لسواق وركاب السيارات المنطلقة من بغداد الى الجنوب. أتسخت ملابسه، وعلق بها سخام السيارات، وتهرأت. طالت لحيته، وتغيرت ملامح وجهه. وصار كائنا آخر لاعلاقة له بسلمان الذي كان قبل الحادث.
- ما الذي جاء به ؟ سأل عبود مستغربا.
لكن عزوز صاحب بسطة الملابس أكد لهما أنه يعرفه أيضا. عزوز أبو دميعة إنسان حساس للغاية، فهو يمكن أن يبكي لأبسط المواقف. طيب ومحبوب. هو متشرد كان يسكن في منطقة الزعفرانية. مشكلته أنه يمكن أن يحول كل موقف الى دراما.
- هذا غازي أبو فيصل، مسكين أخذوا ولديه، أعتقلوهما ولحد الآن لم يجدهما. وهو بعد أن بحث عنهما سنين فقد عقله. فقد اعتقلت جهة مدنية غير معروفة ولديه، واتصلوا به طالبين فدية. مر أبو فيصل بأوقات عصيبة. باع منزله وهو كل ما يملك من أجل تأمين المبلغ المطلوب. وبعد أن دفعه للخاطفين، فقد الإتصال بهم، وفقد الأمل بالعثور على ولديه، ومنذ ذلك الوقت فقد عقله. الا أن آخرين يجزمون أن الرجل قد جُنَّ في تلك الليلة المشئومة التي وجد فيها ولديه جثتين هامدتين ملقاتين أمام داره. لا أحد يمكنه التأكد مما حصل، الا ان الأمر المؤكد أن غازي مجنون يجوب الشوارع.
شائعات
تناقلت ساحة التحرير أخبار الرجل الغريب. وجابت قصص الدكتور منعم وسلمان وغازي كل أرجاء الساحة وأزقتها وخرائبها ومخازنها المعتمة. وترددت تلك الأسماء تلك الليلة على ألسنة الناس الذين يجولون الأرصفة من الخلاني الى ساحة النصر ومن جسر الجمهورية حتى ساحة الطيران. ونقلت الرسائل النصية التي أرسلها المشردون والمعتوهون لأصدقائهم عبر شبكات الاتصالات أسماء الشخصيات الثلاثة تلك الليلة بشكل لم يسبق له مثيل.
- تم انقاذ الدكتور منعم الليلة
- سلمان أبو جسر ديالى تعرفونه، الليلة تم اخلاءه مصابا بجروح خطيرة
- غازي أبو الزعفرانية اليوم وجد مقتولا في الخلاني.
ونقلت آلاف الرسائل النصية معلومات محرّفة أخرى.
- أستاذ نعمان أبو الفلسفة اليوم شاهدوه في الباب الشرقي
- دكتور نعيم أبو الاقتصاد بالجامعة المستنصرية اليوم قتل
- سليمان أبو الولد المغيبين من أهل الوزيرية اليوم استشهد
- غازي أبو المكتبة الوطنية مات!
ازدادت حيرة الشابين عماد وحسن. وقررا إبقاءه في خيمتهما والإعتناء به، لاسيما أنهما غير قادرين على نقله إلى المستشفى، فضلا عن الفضول الذي تولد لديهما لمعرفة حقيقته عندما يصحو.
بدأ الرجل باستعادة وعيه على ما يبدو. فتح عينيه، وتمتم ببضع كلمات غير مفهومة قبل أن يعود إلى النوم.
كان همُّ الشابين معرفة حقيقته. فقد يكون من سكان المنطقة، وقد يكون مجرد رجل غير متوازن قاده حظه العاثر ليكون أحد الضحايا. وقد يكون أستاذ الفلسفة، أو سلمان الذي فقد عائلته بتفجير إرهابي، أو ربما يكون أبا فيصل الذي فقد أولاده المغيبين.
تناوب الشابان على النوم. وبدا لهما أن مهمة جديدة وشيقة باتت تنتظرهما وقد تمتد لأيام مقبلة عديدة.
أفاق الرجل الغريب ليلاً. ساعداه على تناول شيء من طعام هو عبارة عن شوربة عدس منقوع بها قطعة صمون. وساعداه على شرب قليل من الماء.
في سكون الليل، نظر الرجل إلى الشابين نظرة رضا وحب. واعتقد أنه ميت وأنه الآن في الدار الأخرى. واعتقد جازما أنه يكلم ملاكين، وأنهما يصغيان اليه ويكتبان ما يقول. لكنه بالواقع كان يتمتم بأصوات غير مفهومة، أصوات خافتة، وكانا يحاولان التقاط مفردة واحدة من سيل تلك الهمهمات غير المفهومة دون جدوى، ما أثار فضولهما أكثر.
للحكاية تتمة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل