الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سمات الدولة القديمة / اولاً : العقل الجمعي

فارس تركي محمود

2020 / 11 / 30
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


تتميز الدولة القديمة بعدد من السمات والمواصفات التي التصقت بها وأصبحت جزءً أساسيا من تكوينها ولا يمكن الفصل بينهما، فبين هذه السمات وبين الدولة القديمة علاقة عضوية جدلية لا انفصام لها، فأحدهما يؤدي الى خلق وإيجاد الآخر وأحدهما يغذي الآخر ويقويه ويدعمه فكلاهما يدوران في حلقة مفرغة، إذ أن تواجد تلك الصفات في أي مجتمع يؤدي حتما إلى إنتاج الدولة القديمة ووجود الدولة القديمة يؤدي إلى تدعيم تلك الصفات وغرسها أكثر في بنية ذلك المجتمع وفكره وثقافته، وهذا يقود بدوره الى تهيئة الاجواء والمناخات أكثر وأكثر لإعادة توليد وإنتاج الدولة القديمة مرة اخرى وهكذا دواليك، هذه الحلقة المفرغة تشبه تماما تلك التي تتكلم عن الفقر والجهل والمرض فالفقر يؤدي إلى الجهل والجهل يؤدي إلى المرض والمرض يؤدي إلى مزيد من الفقر والمزيد من الفقر يؤدي إلى المزيد من الجهل والمزيد من الجهل يؤدي إلى المزيد من المرض وهكذا بدون توقف أو انقطاع .
إن أبرز وأهم هذه الصفات والسمات هي :
1 – العقل الجمعي : إن العقل الجمعي يعني خضوع المجتمع لسيادة وطغيان نمط بعينه في طريقة التفكير وفي التوجهات وفي النظرة للحياة وفي طريقة العيش والسلوك وفي كل مجالات الحياة . لقد كان العقل الجمعي هو السائد والمسيطر على كل المجتمعات البشرية منذ أن وجدت هذه المجتمعات وحتى بداية العصور الحديثة، وما زال هو السائد والمسيطر على كثير من المجتمعات حتى الوقت الحاضر. إن سيادة العقل الجمعي في المجتمعات البشرية البدائية أمر طبيعي لأن العقلية البشرية في الأزمنة السابقة كانت عقلية سطحية ساذجة تقلد بعضها بعضا وتحاكي بعضها بعضا، ولم تكن قد ارتقت ونضجت إلى الدرجة التي تؤهلها لطرح افكار جديدة متنوعة ومختلفة ومتباينة فكان الناس يشبهون بعضهم بعضا ويقلدون بعضهم بعضا ويتشبثون بما ورثوه من آبائهم وأجدادهم من عادات وتقاليد ومقولات وأفكار، فكانت تمر عشرات ومئات السنين بدون أن يجد جديد أو تتغير الأفكار، فالكل خاضع لما يقوله مجتمعه أو جماعته أو قبيلته ، والكل لا يتصور وجود ما هو مخالف لما هو سائد ومتعارف عليه، بل إن الخروج على عادات واعراف وتقاليد المجتمع كان يعد – ولا زال في مناطق كثيرة – أمراً محرماً أو مشيناً ومستهجناً .
وعلى الرغم من أن سطوة العقل الجمعي لم تكن بالدرجة ذاتها في جميع المجتمعات بل كانت تختلف من مكان لآخر ومن مجتمع لآخر، إلا أنه وبشكلٍ عام يمكننا القول أن الجماعة البشرية في العصور الغابرة عاشت في ظل عقل جمعي مسيطر بدرجة عالية جداً، بحيث تمكَّن من جعل أفكار وتوجهات وسلوكيات ونفسيات أفراد هذه الجماعة متشابهة ومتطابقة وكأنهم شخص واحد تم استنساخه لا تلمس فيما بينهم أي درجة من درجات الاختلاف أو الشذوذ إلا ما ندر، يؤمنون بنفس الأفكار والمسلمات ، وينظرون إلى أنفسهم وإلى العالم المحيط بهم النظرة ذاتها، عاداتهم وتقاليدهم وحكاياتهم وأساطيرهم وأقوالهم وأفعالهم وردود أفعالهم واحدة ، محفزاتهم ومستثيراتهم واهتماماتهم واحدة ، أنماطهم الحياتية من الألف إلى الياء واحدة لا اختلاف فيها، مما يجعلهم أقرب إلى جيش نظامي منهم إلى مجتمع إنساني وهذا بالضبط ما يحتاجه تأسيس الدولة في الأزمنة السابقة وذلك على مستويين :
فعلى المستوى الداخلي أي داخل الجماعة نفسها سيلعب العقل الجمعي دوراً مهما جداً في تهيئة الارضية المناسبة والأجواء الملائمة ليقوم أي قائد طموح أو سياسي مغامر بفرض سيطرته على تلك الجماعة مستغلا خضوعها للعقل الجمعي واستعدادها الفطري للانقياد الأعمى لمن يعرف كيف يستغل نقاط ضعفها وسذاجتها ويبتز عواطفها، ويخاطب المقدس والمبجل والتابو داخلها ، ويدغدغ مشاعرها ويستثير غرائزها، ويحاكي أحلامها وطموحاتها من خلال خطبه الرنانة ووعوده الخلابة والحماسية وقدرته على الإقناع والقيادة والتنظيم ، وبعد ان تؤتي هذه الوسائل والأساليب أُكُلها ويتمكن هذا القائد من جذب عدد من الأتباع يستطيع الاعتماد عليه واستخدامه في فرض نفوذه ، عندها يستخدم الوسيلة الأنجع أي يستخدم القوة والسطوة لإجبار الناس وباقي أعضاء الجماعة على الانصياع له، ومن ثم تصبح هذه الجماعة هي النواة والأساس الذي يعتمد عليه في إقامة الدولة وفي تقويتها وتوسيع نفوذها، وبذلك يكون وجود العقل الجمعي قد لعب دوراً مهماً جداً في توحيد الجماعة وفي تسهيل انقيادها وقيادتها والسيطرة عليها من قبل القائد أو الزعيم .
أما على المستوى الخارجي فكما هو معروف فإن الدولة في الأزمنة الماضية لم تكن تؤسس عن طريق التفاوض مع الجماعات والدول الأخرى، ويقيناً أنها لم تكن تؤسس عن طريق الاستفتاءات والانتخابات أو حق تقرير المصير أو بقرار من الأمم المتحدة أو غيرها من وسائل وآليات لم تظهر إلا في العصر الحديث، بل تؤسس عن طريق القوة فحسب وليس هناك أي طريق آخر ، فالبشرية جمعاء لم تكن في الماضي تعرف طريقاً أو وسيلةً أخرى غير القوة ، وهنا تأتي أهمية العقل الجمعي الذي سيجعل من الجماعة المؤسِّسة للدولة تقاتل وتكافح تحت قيادة زعيمها من أجل إقامة وتوسيع دولتها وكأنها رجل واحد وليست مجموعة من الأفراد مما يرفع كثيراً من نسب نجاحها في الانتصار على الجماعات الأخرى وفي تحقيق هدفها بإقامة دولة، فلن تجد أحداً من هذه الجماعة يتساءل مثلاً عن مشروعية وقانونية ما يفعلونه لأن العقل الجمعي قضى بأنه مشروع ، ولن تجد من يقول مثلا : " إني أرى رأياً مخالفاً " ، أو أن هذا جائز أو غير جائز ، لأن هذا غير وارد أصلاً في ظل العقل الجمعي ، فالقبيلة والجماعة قد قضت واتخذت قرارها وانتهى الأمر، وكلما ازداد تأثير العقل الجمعي في حياة هذه الجماعة كلما ارتفعت احتمالية نجاحها في توسيع وتقوية وحماية دولتها .
إن هذه السمة التي اتسمت بها المجتمعات البدائية والتي كانت من اهم الاسباب والعوامل التي أسهمت في تأسيس الدولة ستبقى ملازمة لها – أي للدولة - وستنغرس وتتجذر اكثر في فكرها وسلوكها وتوجهاتها وستتحول إلى صفة لصيقة بها لأن بقائها واستمرارها واستقوائها وتوسيع نفوذها يعتمد بشكلٍ كبير على وجود وتعزيز هذه الصفة ، أي أنها صفة تجلب الربح المتمثل في بقاء الدولة وتوسعها، وتبعد شبح الخسارة المتمثلة في ضعف الدولة ومن ثم انهيارها لذلك ستبقى وتتعزز وتنمو أكثر وأكثر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية يؤكد تمسك حماس بدور الوسطاء للتوصل لاتفاق متكامل لإنهاء


.. قرار الجيش الإسرائيلي بشأن -الوقف التكتيكي- لأنشطته العسكرية




.. الولايات المتحدة .. قواعد المناظرة الرئاسية | #الظهيرة


.. في أول أيام عيد الأضحى.. مظاهرة قرب السفارة الإسرائيلية بعما




.. بسبب منع وصول المساعدات.. غزيون يصطفون في طوابير طويلة من أج