الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقصلة الأغذية المعدلة وراثياً

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 11 / 30
الصناعة والزراعة


ملخص من إعداد فريق دار الأكاديمية لمحاضرة قدمها مصعب قاسم عزاوي في المنتدى الثقافي في لندن.

تمثل الأغذية المعدلة وراثياً الإنجاز الأكثر حضوراً اجتماعياً وصحياً في حيوات كل بني البشر لأبحاث الهندسة الوراثية التي تمولها شركات عبرة للقارات تتبجح بالزعم بأن هذه الأغذية ستمثل المدخل العلمي لحل مشاكل الغذاء في العالم المعاصر، عبر توفير ما يكفي لإطعام الفقراء جميعهم على اختلاف جنسياتهم، لتقضي بذلك على مشكلة عدم التوازن المرعب بين واقع التغذية القاصرة في العديد من البلدان المفقرة وبين ذلك المستوى الذي تنعم به الدول الصناعية.

وكحقيقة أولية يمكن النظر إلى الواقع العام الذي تجري خلاله أبحاث الهندسة الوراثية الغذائية من خلال الإشارة إلى النقطتين المحوريتين التاليتين:

1- إن أبحاث الهندسة الوراثية الغذائية وتطبيقاتها العملية، محكومة عموماً بسيطرة مجموعة من الشركات الاحتكارية الكبرى وعلى رأسها شركة مونسانتو الأمريكية العابرة للقارات، والتي كانت المتهم الأول في اضطراب معدلات العديد من الهرمونات في أجسام مستهلكي منتجاتها الغذائية، والذي كان له الكثير من العواقب الصحية الوخيمة على أولئك المستهلكين، والذي أثارت أزمتهم بلبلة في نظام الرقابة الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في خريف عام 2016، والذي انتهى كالعادة لصالح الشركات العابرة للقارات وليس المستهلكين العزل من وسائل الدفاع عن انفسهم في المحافل القانونية المتخمة بجحافل المحامين العاملين لصالح تلك الشركات.

2- لقد أخذت الهندسة الوراثية الغذائية طريقها إلى التطبيق العملي في الواقع الاقتصادي العالمي دون استشارة أو موافقة الشعوب أو حتى الحكومات في تلك الدول التي تزعم أن الديموقراطية وحقوق الإنسان رايتها الأولى. أذ أصبح الكثير من المحاصيل على طول العالم وعرضه معدلة وراثياً بقوة الأمر الواقع، وبشكل سابق على إدخال ذلك الموضوع في إطار الحوار الاجتماعي للقبول به أو رفضه وفق مبادئ الديموقراطية المعطلة في أرجاء الأرضين بأشكال وإخراجات متباينة. ومثال ذلك كون منتجات فول الصويا جميعها أصبحت معدلة وراثياً بنسبة تقارب 95% من مجموع الإنتاج العالمي. وينسحب هذا الأمر وبشكل تدريجي ومتسارع في بعض الأحيان على محاصيل القطن، والبطاطا، والبندورة.
ويجب الإشارة إلى أن الهندسة الوراثية وللوهلة الأولى تبدو قريبة من ناحية الهدف فقط من عمليات الاصطفاء التجريبي الذي يتم في المخابر أو في الطبيعة من خلال مزاوجة مجموعة من السلاسل النباتية المتباينة في بعض الصفات من أجل الحصول على جيل جديد يمتلك صفات أكثر تميزاً من ناحية الإنتاجية أو المقاومة للأمراض والظروف البيئية. وتمثل هذه الطريقة الأخيرة نموذجاً لإعادة استعمال وتطوير تقنيات التاريخ الطبيعي على الأرض في عملية تطور الأحياء والذي استخدمه بشكل فاعل غالبية الشعوب من أجل الحصول على سلالات حيوانية أو نباتية متميزة، وقد كان سكان الهلال الخصيب من أكثر المجموعات البشرية تقدماً في هذا الميدان وخاصة فيما يتعلق بتهجين سلالات الأحصنة والقمح في بادية الشام ووادي الرافدين.

أما الهندسة الوراثية النباتية فهي تقف على النقيض من جوهر آلية الاصطفاء الطبيعي إذ تعمد إلى إدماج نموذج مورثي جديد في الحمض النووي داخل نواة الخلية النباتية؛ أي أنها تضيف أو تحذف مورثة من داخل الجينات الموجودة سابقاً في الخلية، لتمنح هذه الخلية صفات جديدة من خلال تغيير شيفرة الأوامر التي يمثلها الحمض النووي في النواة والذي يقود عملية النشاط الخلوي لبناء الخلايا الجديدة التي تنتج في نهاية الأمر النسج المختلفة المكونة من تلك الخلايا، وتشكل بمجموعها الكائن النباتي.

وإن هذه المورثات الجديدة المستدمجة يمكن أن تكون مأخوذة من نبات أو حيوان آخر أو حتى مصطنعة في المخابر لتوضع ضمن الخريطة المورثية للنبات الذي يراد له أن يعدل وراثياً بحيث تصبح هذه المورثات دليلاً جديداً يوجه خلايا ذلك النبات لإنتاج مجموعة من المواد الغذائية الحاوية على بروتينات وشحوم وسكريات لم تكن موجودة سابقاً في بنية هذا النبات والتي ستأخذ طريقها بالتالي إلى جسم الإنسان من خلال تناوله لهذا النبات كغذاء له.

ويمثل التوصيف الأخير جوهر الحقيقة المرّة الكامنة وراء الأغذية المعدلة وراثياً التي قد تهدد الأمن الغذائي البشري والنظام الحيوي الطبيعي الضامن الأهم لصحة الإنسان إذ أن هذه المحاصيل المستحدثة بالتعديل الوراثي لم تخضع لأي دراسة كافية من الناحية الزمنية لتقصي آثارها المستقبلية على صحة الإنسان على المدى البعيد وليس القريب الآني فقط .

ويقدم المتنطعون للدفاع عن الأغذية المعدلة وراثياً العديد من الحجج عارضين من خلالها مجموعة من الأطروحات النظرية والرؤى والفرضيات التي تقوم على أن الأغذية المعدلة وراثياً تمثل المدخل الوحيد لإطعام العالم الجائع. وإذا قبلنا فرضاً التسليم بصحة هذه الأطروحات فإنها يجب أن تنسجم مع المحاور التالية والتي تمثل جوهر الإمكانية لتقديم محصول ذي إنتاجية عالية وبتكلفة قليلة تكون في متناول الجائعين:

1- القابلية العالية للنمو في بيئات متباينة ابتداءً من النموذج البيئي الاعتيادي لهذا المحصول وصولاً إلى الأوساط غير الاعتيادية المغايرة من ناحية التربة أو المناخ.

2- تمتع النبات بصفات إنتاجية عالية تؤمن محصولاً وافراً من الناحيتين الكمية والنوعية ودون الحاجة إلى زيادة كمية المواد الكيميائية المضافة له في طور النمو أو استخدام المخصبات الزراعية الإضافية.

3- يجب أن يتمتع هذا النوع النباتي بقدرة النمو في المساحات والمشاريع الزراعية الصغيرة وليس فقط في شروط الإمكانيات التي تخدم المشاريع والمساحات الكبرى.

4- والعنصر الأكثر أهمية وحسماً، يتمثل في واجب أن تكون البذور رخيصة الثمن ومتوافرة بشكل شبه مجاني للفلاحين الفقراء في الدول النامية، ودون الحاجة إلى طلب البذور سنوياً من الشركات الاحتكارية الكبرى المنتجة لها ووفق الأسعار التي تحددها.

5- يجب أن يكون الهدف الأساسي لهذه المحاصيل هو إطعام البشر ثم الحيوانات وليس العكس.


ولكن عقب محاكمة بسيطة تستند إلى تحليل أولي لواقع المحاصيل المعدلة وراثياً، فإننا نستطيع تلمس التفارق شبه المطلق بين واقع تطبيقات الهندسة الوراثية الغذائية والشروط السابقة، حيث يمكن أن نشير إلى البذور المعدلة وراثياً تحتاج في غالب الأحيان إلى نماذج عالية الجودة من التربة، ولا تستطيع العيش في نماذج التربة العادية، بالإضافة إلى أنها تحتاج إلى كميات كبيرة من المضافات الكيميائية التخصيبية قد تصل إلى عدة أضعاف ما تتطلبه المحاصيل غير المعدلة وراثياً. كما أن نتائج الأبحاث المستقلة تشير إلى أن كمية الإنتاج منسوبة إلى المساحة في حالة المحاصيل المعدلة وراثيا تقل عن نظائرها في المحاصيل الطبيعية بمقدار 10% من نفس الصنف النباتي. وحقيقة تحتاج هذه النقطة إلى توقف مدقق عندها إذ أنها تمثل مفتاحاً ينسف كل الأساس الادعائي الذي استندت إليه شركات الهندسة الوراثية في دعايتها إلى أنها تسعى لسد حاجات العالم الجائع بوفرة إنتاجها.

ويجب ألا ننسى أيضاً أن نشير إلى أن غالبية المحاصيل المعدلة وراثياً تتناول تعديل صفات النباتات بحيث تصبح أكثر فعالية في تغذية الحيوانات من أجل تسمينها للحومها وليس لتصبح أكثر فائدة للإنسان وتلبية لاحتياجاته الغذائية التي قد لا تتوافق مع احتياجات الحيوانات.

وفي هذا السياق لا بد من التنويه إلى نقطة شديدة الأهمية وتتمثل في الجوهر الحقيقي الكامن وراء الزعم المخاتل لدعاة الزراعة المعدلة وراثياً الذي يتمحور حول نقطتين فرعيتين:
أولاهما تتمثل في أن معدل الإنتاج العالمي للغذاء لا يشكو في الدرجة الأولى من النقص، وإنما يشكو في المقام الأول من سوء العدالة والظلم في توزيعه ومن الإجحاف في وضع المعادل السعري للمنتجات الزراعية التي تباع كمواد أولية بأرخص وأبخس الأثمان للدول الصناعية التي تبيع منتجاتها الاستهلاكية والصناعية المعتمدة على تلك المواد الزراعية الأولية إلى الدول النامية وبأسعار خيالية تحتاج إلى كميات كبيرة جداً من المواد الأولية لتأمين سعرها الباهظ. ونذكر في هذا السياق المثال الاقتصادي الشائع المتمثل في أن الفلاحين في المكسيك يحتاجون لبيع أربعة أطنان من الكاكاو الخام للتمكن من شراء دراجة هوائية واحدة من المصنع المكسيكي ذي رأس المال الأمريكي.

والنقطة الثانية مرتبطة بجوهر الهدف الاقتصادي من الأغذية المعدلة وراثياً والمتمثل في أن الهدف الحقيقي للشركات التي تنتج البذور المعدلة وراثياً يكمن في أنها ستعود وتحتكر صناعة المبيدات الحشرية والطفيلية الجديدة الملائمة لهذه المحاصيل المعدلة وراثياً. إذ تعمد هذه الشركات وعلى رأسها شركة مونسانتو العابرة للقارات على إيهام المزارع بتخفيض كلفة الإنتاج من خلال إنقاصها لسعر الكيلو غرام الواحد من المبيدات الحشرية مقارنة بسعر النوع اللازم في الزراعات الطبيعية، ولكنها بالمقابل تتركه لوحده ليواجه الحقيقة المفجعة والعارية بأنه سيحتاج إلى كمية أكبر من المبيدات الحشرية والطفيلية ستصل إلى ثلاثة أضعاف ما اعتاد استعماله في الزراعات الطبيعية غير المعدلة وراثيا،ً وبالتأكيد فإن الدافع الأساسي لهذا الفرق سيكون الفلاح الفقير، عدا عن التأثير غير المحمود والذي قد يصبح خطيراً من جرّاء زيادة تركيز المضافات الكيماوية على صحة المستهلك و الذي يفصح عن نفسه من خلال الازدياد البين في نسبة وقوع سرطان الكلية والسبيل البولي وبشكل عالمي، إذ أن استهلاك الأغذية المترعة بالمبيدات الحشرية و المخصبات الزراعية يعد من اكثر العوامل الإمراضية التي تزيد من خطورة الإصابة بتلك الأنماط من السرطانات.

واستجابة للنفوذ الواسع الذي تملكه الشركات الاحتكارية الكبرى على مراكز صنع القرار العالمي فإننا نستطيع أن نلاحظ كيف استجابت وكالة حماية المحيط الحيوي الأمريكية و نظيراتها في دول الاتحاد الأوربي وروسيا إلى طلب شركة مونسانتو لزيادة الحد المسموح به لاستعمال المواد الكيميائية في الزراعة إلى ثلاثة أضعاف ما كان مسموحاً به سابقاً، وهذا بالتأكيد سيقود إلى أن تطور الحشرات والطفيليات- التي تلاءمت مع مستويات معينة من المبيدات الحشرية وتوازنت معها حيوياً – مقاومة تجاه الكميات الأعلى من المبيدات الحشرية والطفيلية وبحيث تصبح قادرة على اجتياح الزراعات التقليدية التي تستعمل كميات أقل من المبيدات، وبالتالي سيحتاج الفلاح إلى كميات أكبر من المبيدات التقليدية والتي هي أغلى سعراً كما أشرنا سابقاً، وبالتالي سيخسر ضمن قوانين السوق العمياء، وهذا ما سيقوده في النهاية إلى الرضوخ إلى المحاصيل المعدلة وراثياً وإلى استغلال الشركات الاحتكارية.

ولا بد لنا أخيراً من المرور على الفصل الأكثر خطورة في مؤامرة الأغذية المعدلة وراثياً، و الاستخدام الوحشي البربري للكشوفات البحثية في علم المورثات لخدمة الجشع الرأسمالي المنفلت من كل عقال أخلاقي، والمتمثل في تحكم الشركات الاحتكارية بمصير الإنتاج الزراعي العالمي، الذي يفصح عن وجهه الدميم بحقيقة الغزو المورثي الذي مفاده أن الأجناس المعدلة وراثياً تستطيع أن تغزو المناطق الزراعية المجاورة والتي لا تستخدم الزراعات المعدلة وراثياً، وهذا ما يدعى بظاهرة الغزو المورثي وذلك خلال عملية الإلقاح الطبيعي الذي يحدث من خلال الهواء أو الحشرات بين النباتات من نفس الصنف الحيوي. وبما أن الشركات الاحتكارية تعمد إلى تعديل المورثات بحيث تكون ذات صفات قاهرة أي أن الجيل الناجم عن تلاقح محصول معدل وراثياً وآخر غير معدل وراثياً سينتج عنه فقط محصول معدل وراثياً في معظم الحالات. وحدا ذلك الواقع البائس بعض العلماء من أن يحذروا من أنها فقط مسألة وقت حتى تجتاح المحاصيل المعدلة وراثياً كافة المزارع في أرض المعمورة. والحقيقة المفجعة تتمثل في أن تلك العملية قد بدأت في تدوير عجلتها الشيطانية، إذ تشير آخر الأبحاث إلى أن انتشار المحاصيل المعدلة وراثياً فاق إلى درجة هائلة ما كان متوقعاً من قبل، كما هو حال النتاج الزراعي لفول الصويا الذي أصبح أكثر من 95% منه على المستوى الكوني معدلاً وراثياً كما أشرنا إليه آنفاً.

وحقيقة يقتضي ذلك الواقع المفجع في قتامته منا جميعاً وقفة مدققة تضع نصب أعينها رسم توجه عملي جديد وتحرك فعلي وفاعل من أجل الوقوف اجتماعياً وعلمياً بوجه أولئك المفسدين لجوهر الحياة الطبيعي والمهددين لاستمرار البشرية وسلامة المجتمعات والبشر صحياً واقتصادياً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو