الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول أزمة المثقف والسلطة ووحدة قوى السودان الجديد

احمد ضحية

2006 / 7 / 16
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


حول أفكار هذه الورقة :
(1 – 6) : وبعد أن انتهى الكثيرون في شأن السودان الى التسليم بأن مصيره الى التفتت , ومآله الى الانفصالات , نجد أن فكرة (وحدة السودان) لا تزال بحاجة الى اعادة تأسيس في الوعي السوداني اليوم أكثر من أي وقت مضى .
فالكثيرون يعيشون وحدة السودان على صعيد الشعارات , بينما يحيون عملية بناء الدولة الانفصالية . ونشؤ المركزيات الاثنية في الاطراف . . حتى الوحدويون منهم يفكرون في الوحدة بينما يبنون الانفصال , فيما يبدو أن الجميع تخلى عن الحلم بسودان موحد ديموقراطي مستقل . مذعنين للفوضى المرعبة التي يمثلها السودان الراهن .
وهكذا ما سنطرحه هنا ليس بديلا بقدر ما هو اصرار على الاستمرار في (حُلُم) السودان الموحد . والقول : أن بمقدورنا الاتيان بما هو أفضل مما نراه الآن .
وهنا يبرز دور المثقف في إعادة تأسيس الوحدة في الوعي السوداني , وهي ليست عملية سهلة , شأنها شأن عمليات البناء : معقدة وطويلة الامد , خاصة في ظروف حكم الانقاذ التي حاصرت المثقف وهمشت وأقصت دوره بل والغته في الحياة السياسية .
وهذا يقود الى قضية الديموقراطية , التي لن تتحقق في ظل الحصار المتعاظم لدور المثقف , بمزيد من العوائق والازمات التي وفرت الانقاذ كسلطة استبدادية فاسدة شروطها مع سبق الاصرار والترصد ..
ظللنا نتساءل طوال السنوات الماضية , كيف استطاع نظام (اسلاربوي) قمعي فاسد على شاكلة نظام الانقاذ , الذي ولد وهو يحمل بذور فناءه داخله .. كيف استطاع مثل هذا النظام الشائه البقاء والاستمرار , وايصال السودان الى هذه المرحلة من التمزق ..
بالطبع ثمة آراء واستنتاجات وتصورات مختلفة , تمثل مختلف الاتجاهات السياسية , تجيب عن هذا السؤال , لكن ليس من بينها : الغياب الفاجع للمثقف!!..
هذا المثقف الذي – بعكس السياسي – يجيد معظم أنماط الثقافة ويدركها – بما فيها النمط السياسي – لأنه يمتهن الثقافة ويمتلك ملكة الابداع , باعتباره منتجا للثقافة (1) ..واذ نتناول موضوع (الغياب الفاجع)للمثقف في السودان , فذلك لأن دوره – المثقف – ظل شاغل لكثير من الكتابات لوقت طويل .
وبالعودة الى الوراء يمكننا ملاحظة ان فترة زمنية محددة مثل العشرينيات تمخضت عن مثقفين لامعين – بصرف النظر عن تصوراتهم المختلفة حول السودان – مثل عرفات محمد عبد الله ومعاوية محمد نور والتيجاني الماحي وبابكر بدري وابراهيم احمد وعبد المجيد امام و آخرون غيرهم ..
الى جانب تكوينات فاعلة في مسيرة تاريخ السودان الحديث , والتحولات التي مر بها , مثل جمعية " اب روف" واللواء الابيض ومؤتمر الخريجين .. هذه التكوينات التي بناها المثقف , وشكلت علامات فارقة في سيرورة السودان . اذ امتد اثرها حتى الان (2) ..اذن عبر المثقف السوداني عن نفسه وعن تطلعاته لوطنه الذي يريد عبر مختلف المنابر والمجلات والاصدارات مثل حضارة السودان ومجلة الفجر , الخ ...
الادوار المختلفة التي لعبها المثقف في تلك الفترة تكاملت وترتب عليها نشؤ الاحزاب السياسية , بتوجهاتها المختلفة فيما بعد ..
واستمر المثقفون السودانيون يلعبون ادوارهم المختلفة في المجتمع ليتمخض وعيهم لاحقا ومنذ السبعينيات عن مجلة القصة - الى جانب ضغوطاته على المؤسسة الثقافية للدولة , التي اثمرت مجلة الخرطوم والثقافة السودانية – وسوداناو sudanowوالاذاعة والتلفزيون والثقافة الوطنية ووازا وحروف , الخ من مجهودات بذلها المثقفون ...
اذن مثلت الفترة من الاربعينيات الى الثمانينيات من القرن الماضي , فترة نشطة باتجاه تاسيس منابر المثقف , التي لم تتوقف في حدود الاصدارات فقط . اذ رافقتها تكوينات ثقافية مثل رابطة سنار الادبية ورابطةالجزيرة للاداب والفنون ورابطة الاصدقاء الادبية بكوستي , الخ حتى بدا ان مدن السودان المختلفة تكاد لا تخلو من تكوين ثقافي بناه المثقف . للعب دور ما في المجتمع المحلي , ويتطلع به – هذا التكوين – للعب دور قومي ..
وفي هذا السياق , ومع اشتداد عسف السلطة الاسلاموية منذ 1989 مثلت مكتبة البشير الريح , الرئة التي يتنفس خلالها المثقفون , بعد ان صادر النظام الاسلاموي (اتحاد الكتاب السودانيين) وحل كل الروابط والجمعيات الادبية والاجتماعية في العاصمة والاقاليم اثر بيان عسكري فج . وهكذ تفرق المثقفون ايدي سبأ بحل المنابر التي كانوا ينضوون تحت لواءها ..
ومع ذلك , كان المثقف كلما حطموا له كيانا أوجد كيانا آخر , فبتعرض مكتبة البشير الريح للاغلاق اكثر من مرة , وتضييق الخناق على المثقفين , لجأالمثقف الى المراكز الاجنبية(الفرنسي, الثقافي البريطاني , الخ ..) ونهض من قلب هذه العتمة في مركز اخر : عبد الكريم ميرغني , ثم عبد المجيد امام و مركز الدراسات السودانية ونادي القصة السوداني ...
هذه الحركة الدؤوبة التي لم تنقطع خلال نصف قرن من الزمان , على الرغم مما تخلفه من رهق وغياب أحيانا , ظلت تؤشر على الدوام على شيء واحد : أن هناك مثقف سوداني , لا يبحث عن دور فقط في المجتمع , بل ويعرف دوره بالضبط , وان هناك مثقف مستهدف باستمرار بقمع السلطات السياسية والاجتماعية احيانا , وان هناك مثقف مهدد بالصمت والسكت والغياب الفاجع !..
(2 -6) :
رافق نشاط المثقفين في منابرهم التي حاولوا تشييدها خلال ازمات الواقع البائس وحصارات وقمع السلطات الاستبدادية والملاحقات الامنية التي تعرضوا لها , وتعرضت لها منابرهم , نوافذ ثقافية في الجامعات السودانية , مثلتها الروابط الاجتماعية والثقافية والاقليمية , التي حاولت ان تسهم مع المثقف المحاصر خارج اسوار الجامعات , في صياغة المعنى الاجتماعي العام للسودان .
لكن هل نجحت هذه المحاولات حقا في صياغة اي معنى اجتماعي عام ؟!..
يكفي ان نلقي نظرة واحدة على المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي السوداني .. ماذا نرى :
وطن متنازع تتآكله نزعات القبلية , مهدد بالانفصالات .. وطن لا يزال مقعيا في أحد الازقة السحيقة للتاريخ .. وطن تنتظر مؤسسته العسكرية الفرصة في كل عهد ديموقراطي قصير الامد للانقضاض والاجهاز على مخاض روحه المدنية التي تتطلع للولادة ..وطن لا تزال الامراض المنقرضة تاريخيا , مثل الكوليرا والملاريا والسل تحصد ارواح مواطنيه .. هل هذه هي ثمرة نضالات المثقفين السودانيين ؟ ! ..
في تقديري الخاص أن احد اسباب هذه المشكلة , يكمن في تواطؤ عدد كبير من المثقفين وانحيازهم لمصالحهم الذاتية خصما على الاجندة الوطنية , سواء باستمرارهم في اعادة انتاج الثقافة التقليدية او تواطؤهم مع الحكومات الاستبدادية والقوى الطائفية التي تنطوي مشاريعها اصلا على روح مضادة للتقدم , وحصيلة ذلك – الموقف المضاد للتقدم – التخلف المريع الذي يعيشه السودان اليوم ..
ربما يبرز سؤال : اذن اين كان المثقفين الديموقراطيين التقدميين المنحازين للاجندة الوطنية ؟!..
وهو سؤال لا يمكن الاجابة عنه بصورة مباشرة , ففي فوضى الانقلابات والاستهداف المتعاظم للمثقفين منذ الستينيات بجعلهم "دريئة من قش" وتشويه مواقفهم وتصويرها على نحو كاريكاتوري او بصورة تصورهم كشخصيات سايكوباتية , بل وابتذالهم ونعتهم ب"المثقفاتية" , وجعلهم موضوعا دراميا لجماعات "الحلمنتيش" المبتذلة .. الى جانب انهيار اوضاعهم الاجتماعية بسبب الاستهداف المتعمد والمستمر من قبل الحكومات العسكرية, وتعاظم هذا الاستهداف ابان فترة النظام الاسلاموي الحالي , وتسخير هذه النظم الشمولية المستبدة لجهاز الدولة , ليصبح محض جهاز قمعي ..
في خضم كل هذه الفوضى من الاستبداد والفساد والتشريد والنهب المنظم للموارد والاحالة للصالح العام , فقد المثقف ثقته بنفسه بعد ان ضعفت شوكته , بالتالي قدرته على التغيير ..
(3 – 6)
وببروز النص الاسلاموي بمثابة نص على النص الحقيقي , حوصر الواقع برؤية آيديولوجية مفعمة بالالتباس والتلفيق طرحت نفسها حينا : صحوة اسلامية – وحينا اخر : جمهورية اسلامية , الى ان بلغت منتهاها في المشروع الحضاري , او (دولة الخلافة) – كما عند"المثقف" المرحوم فراج الطيب - , فمثلت الذروة في الالتباس والتلفيق – فقد شبه العبد الفقير لله المرحوم فراج الطيب "الجنرال" عمر البشير بأمير المؤمنين عمربن الخطاب- هذه الفوضى التي تعاد فيها عملية اعادة انتاج واسعة النطاق للثقافة التقليدية , من قبل المثقفين "المسيسين الطائفيين والاسلامويين" الذين تواطأوا ضد الحقائق الاساسية لمجتمعات السودان المتباينة في عقائدها وثقافاتها واعراقها ..
(4 – 6) :
اذن استهدفت الايديولوجيا المثقفين , فاصبح على رأس قائمة المطلوبين : المثقفين الديموقراطيين التقدميين .. فحاصرتهم بدعايتها المضادة , لتغريبهم عن مجتمعاتهم وتشريدهم عن بيوتهم وعملهم , بل ولاحقتهم واعتقلتهم وعذبتهم وعندما اطلقت سراحهم اصبحوا غرباء فعلا في بلادهم التي طالما حلموا بها وطنا اجمل ..
وهكذا انجز مشروع "الغياب الفاجع" .. غادر المثقف وهو يحمل هموم تكوين معارضة سياسية ذات نسيج ثقافي , رغبة في اظهار قضية السودان الذي خرج منه مهزوما ومجروحا ومكسور الخاطر – حيث لا عزاء في أغنية عثمان اليمني : نحنا ناس حياتنا جبر خواطر.. أو المثل السائد: كل مكسور بينجبر الا الخاطر - .. ومع ذلك , حاول المثقف وهو في منفاه داخل الوطن او خارجه , منفاه الجبري او الاختياري الاستمرار في الكشف عن كل ما يتصل بالاستبدادد والقمع وغياب حرية الراي والتنظيم و تهميش الشركاء في الوطن ..
(5- 6) :
ثمة عوامل اخرى اسهمت في غياب المثقف , مثل انهيار الطبقة الوسطى التي ان لم ينتمي اليها المثقف طبقيا او اجتماعيا انتمى اليها روحا . فبتهاوي هذه الطبقة تحت ضربات النظام الاسلاموي , اصبحت المجتمعات السودانيسة غير قائمة على نفوذ وقوة الطبقة الوسطى , كطبقة تاريخية مسئولة عن انتاج المثقفين – بصورة خاصة – فمع اثننة الانقاذ للسياسة واستمداد قوة مشروعها الاسلاموي – الحضاري- من نفوذ العشائر والقبائل والبيوتات , وتفتت الطبقة الوسطى عمليا , توغل المثقف اكثر فأكثر في الغياب ..
(6 – 6) :
هنا يبرز سؤال اخر حول مستقبل الديموقراطية والاسلام السياسي , وغني عن القول التشديد على الاصالة والعودة الى تاريخ انقضى وولى كقاعدة للانتقال الى المستقبل , بدلا من اجتراح هذا الانتقال وادواته في التاريخ العالمي للحداثة , يعتبر تسويقا للأسس الايديولوجية للاسلام السياسي , كما ان المثقفين الذين يقومون بدور المؤامة والمصالحة والتلفيق – وما اكثرهم في ظل الانقاذ – بين الاسلام السيتاسي وبين الديموقراطية الليبرالية , هم في الواقع يجعلون التصالح مع الاسلام تاكتيكيا , كما يعتبر الاسلامويون الحوار الذي يتكالبون عليه الان مع القوى السياسية التقدمية شأنا سياسيا لا يستتبع تنازلا عن اسسهم الايديولوجية (3) التي تنهض في – الاسلام الصحيح وفقا لمزاعمهم – وكما يتصورونه كحراس للنوايا ومُلاك للحقيقة المطلقة , اصطفاهم ربهم - دونا عن سواهم من عباد الله المغلوبين على امرهم ازاء فتاوى الترابي التاكتيكية - للاهتداء لهذا الاسلام الصحيح ..
- يتبع –
هوامش :
(1) صاحب الربيعي . الصراع بين السياسي والمثقف : قيم ام مصالح . مجلة الديموقراطية . العدد 18 القاهرة 2005 ص : 43
(2) أنظر مقالات (1 – 6) : احمد ضحية . صحيفة الصحافي الدولي 2001 . سؤال الهوية في فكر النهعضة السودانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا