الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثانياً : النظام الأبوي والديكتاتورية

فارس تركي محمود

2020 / 12 / 2
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


إن واحدة من أهم صفات وسمات الدولة القديمة هي الديكتاتورية والحكم المطلق والتسلط ، هذه السمة التي لولاها لما وجدت ولما قامت الدولة القديمة أصلاً ، فهذه السمة لم تولد مع ولادة الدولة القديمة بل هي سابقة لها وقد انتقلت إليها من المجتمع البشري أو الجماعة البشرية التي أنتجت الدولة ، فالديكتاتورية بمعنى حب التسلط على الآخرين والتحكم بهم والسيطرة عليهم هي سمة متأصلة وفطرية في الطبيعة البشرية لأنها – أي الديكتاتورية – تجعل من يمارسها أو يتمتع بحق ممارستها أقرب إلى تحقيق الربح وأبعد عن التعرض للخسارة . إن الأب الروحي للديكتاتورية أو الأصل الذي نشأت عنه هو النظام الأبوي ألذي ظهر بدوره نتيجة لحاجة الجماعة إلى تنظيم شؤونها وفض نزاعاتها وتلبية حاجاتها الروحية والدينية وغيرها من المتطلبات التي ظهرت كإحدى نتائج ميل الإنسان للعيش في جماعات وتجمعات أي كونه حيوان اجتماعي كما يقول علماء الاجتماع .
إن تلبية هذه الحاجات أوجد الحاجة الى بروز فئة أو طبقة أبوية تحظى باحترام وتبجيل المجتمع تتكون في أغلب الأحيان من كبار السن وزعماء الأسر وشيوخ القبائل والكهنة ورجال الدين ، إن وجود مثل هذه الطبقة وعلى الرغم من أهمية دورها في المجتمع إلا أنه أدى وبالتدريج إلى ظهور فلسفة تقديس الأفراد وزيادة ميل الإنسان للخضوع لجهات أعلى منه يعتقد بتميزها وبتفردها وبعصمتها وبقدرتها على الإتيان بأفعال تفوق قدرته بل وحتى فهمه ، لذلك فإن أغلب المجتمعات البدائية كانت تنظر الى الحكام والأباطرة والسلاطين نظرة تقديسية ، وتعتقد بتميزهم عن بقية الناس من حيث انهم يمثلون الإله وفي بعض الاحيان يصبحون هم الآلهة أو أنصاف آلهة ، أو أنهم يحكمون باسم الإله ، أو أن الإله قد كلفهم بالحكم ، أو أن حكمهم تحقيق لنبوءة قديمة ومقدسة ، أو أنهم ينحدرون من سلالة أرقى وأنقى بكثير من تلك التي ينتمي اليها العوام ، أو إنهم هم الذين لا غنى عنهم من أجل سلامة وديمومة واستقرار الدولة .
وفي أحيان كثيرة لم يكن الحكام هم من يبتكر ويروج لمثل هذه الأفكار بل الناس المحكومين أنفسهم يخترعونها وينشرونها ومن ثم يصدقونها ويحولونها إلى حقيقة مقدسة تتناقلها الاجيال ، فالعقلية البشرية البدائية لم تكن تقبل أو تتصور أن إنسانا عادياً حاله حال بقية البشر يمكن أن يحكم ، بل يجب أن يكون هذا الإنسان متميز عن الآخرين وتقف خلفه قوى خفية وإلا لما أصبح حاكما ، الأمر الذي مهد الطريق لظهور الديكتاتورية وتجذرها .
يضاف الى ذلك أنه لم يكن بالإمكان إدارة المجتمعات البدائية والسيطرة عليها وإدارة جميع تفاعلاتها من أصغرها إلى أكبرها وعلى كافة المستويات إلا من خلال استخدام القوة والقمع والتسلط ، مما جعل الانسان يحمل بداخله نزعتين متناقضتين تتمثل بتشبثه بالديكتاتورية من جانب ولعنها من جانب آخر ، فهو من جهة يميل بداخله إلى – أو مجبر على - ممارسة الديكتاتورية وهو يمارسها بالفعل بدءً من أدنى المستويات إلى أعلاها كسلطة الرجل على المرأة والزوج على زوجته والأب والأم على أبنائهما والأخ على أخته وصاحب العمل على من هم بمعيته والأستاذ على طلابه والكبير على الصغير والضعيف على القوي ، وسلطة رجال الدين والشيوخ والزعماء على من هم دونهم ، وصولا إلى الديكتاتورية بأجلى صورها وهي الديكتاتورية السياسية أي ديكتاتورية الفرد . ومن جهةٍ أخرى هو يلعن الديكتاتورية عندما تمارس عليه ويضيق ذرعاً بالديكتاتور ويتمنى دائماً زواله غير مدرك أن زوال ديكتاتور في المجتمعات البدائية والدولة القديمة لا يعني إلا ظهور ديكتاتور جديد لأن المجتمع الذي أنتج الديكتاتور الأول سينتج الثاني والثالث والرابع . . . الخ ، فالديكتاتور في المجتمع البدائي حاجة لا غنى عنها . وكم كان حكيماً من قال : " سلطان غشوم خير من فتنة تدوم " وكأنه أدرك بالفطرة السليمة أنه ليس هناك خيار ثالث فإما الديكتاتور وإما الفوضى والاضطراب وهو صحيح تماماً بالنسبة للمجتمع البدائي ودولته القديمة .
هذا فضلا عن أن الدولة القديمة لا يمكن أن تكون إلا دولة دكتاتورية ومستبدة أو بالأحرى أنه لم يكن يوجد في الفترة التي ظهرت بها هذه الدولة ما هو عكس ذلك ، ولم يكن الناس يتخيلون أصلاً وجود لدولة ليست كذلك ، فالدولة لم تكن تعني إلا الاستبداد والتسلط والطغيان ، ولا غرابة في ذلك إذا كانت الدول أصلاً في الأزمنة السابقة لا تقام إلا عن طريق استخدام القوة ولا تحفظ إلا بالقمع والاستبداد ، ولم تكن البشرية تعرف طريقاً آخر أو وسيلة مغايرة .
إذاً فإن الديكتاتورية ظهرت كواحدة من النتائج المترتبة على ميل الإنسان البدائي للعيش في جماعات ، وتجذرت وغرست بقوة في الطبيعة البشرية والسلوك البشري لأن المجتمع البدائي والعلاقات البينية داخل هذا المجتمع كانت ولا زالت تقوم أساساً على فلسفة القوة والقمع والتسلط وتدار من خلالها كما سنوضح لاحقاً . يضاف إلى ذلك أن العقل الجمعي المسيطر على المجتمعات البدائية يعد من الممهدات لظهور وتعزيز الديكتاتورية والعكس صحيح أي أن إتسام المجتمعات البدائية بالديكتاتورية يقوي ويدعم سيطرة وحضور العقل الجمعي ، فصفات المجتمع البدائي - وكما ذكرنا سابقاً - يعزز ويؤازر بعضها بعضاً ويؤدي بعضها الى بعض .
إن للديكتاتورية دور مهم وبارز في تمكين المجتمع البدائي من إنتاج الدولة القديمة لأنها - وبمؤازرة العقل الجمعي - تسهل مهمة القائد الطموح في السيطرة على المجتمع وتوجيهه كيفما يشاء وجعله ينصاع لما يراه ويؤمن به هذا القائد ، وتمكنه من الاعتماد على هذا المجتمع واتخاذه أساساً لتأسيس الدولة التي تبدأ صغيرة ثم تتوسع بالتدريج حتى تتحول إلى دولة كبيرة أو إمبراطورية ، ومن الطبيعي أن ترث هذه الدولة القديمة صفات المجتمع الذي أنتجها ومنها الديكتاتورية . بل إن هذه الصفة ستتغول أكثر وتزداد هيمنتها على المجتمع في ظل الدولة القديمة لأن تأسيس هذه الدولة سيظهر الحاجة الى ديكتاتورية أشد قمعاً وأكثر تسلطاً من تلك التي كانت سائدة في المجتمع البدائي الذي أسهم في انشاء تلك الدولة ، فكلما اتسعت مساحة الدولة القديمة وازداد عدد أفراد المجتمع البدائي الذي تحكمه كلما برزت الحاجة لممارسة مزيد من القوة والتسلط والقهر من أجل فرض السيطرة والانضباط والحفاظ على تماسك الدولة والمجتمع وحمايتهما من التفكك حتى تصل الأمور في بعض الاحيان إلى أن يعتبر الحاكم نفسه إلهاً أو شخصا مقدسا أو من سلالة مقدسة وهذا يعد قمة الديكتاتورية والتسلط فليس بعده شيء . وربما هذا يفسر لنا لماذا ادعى الاشخاص الذين حكموا امبراطوريات واسعة أنهم آلهة أو مقدسون أو تم تأليههم من قبل رعيتهم كالفراعنة وحكام سومر وبابل واشور ، لأن تأليه الحكام يعطيهم سلطة مطلقة لا تحدها حدود ويصل بهم الى أعلى درجات الدكتاتورية ، أي إلى أعلى درجات السيطرة على المجتمع ، أي الى اعلى مستوى من مستويات الربح وأدنى مستوى من مستويات الخسارة .
إن هذا التعزيز والتدعيم لصفة الديكتاتورية والذي كان مطلباً لا غنى عنه من أجل بقاء وتوسع الدولة القديمة سيؤدي إلى ترسيخ فكرة الديكتاتورية أكثر وأكثر في المجتمع البدائي حتى تكتسب هذه الفكرة قدسية ذاتية ، وتتحول بمرور الوقت من آلية ووسيلة تساعد على استمرار الدولة وتقويتها إلى غاية بحد ذاتها بل إلى حاجة أساسية من حاجات الإنسان البدائي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توسع الاحتجاجات الجامعية في أنحاء العالم


.. إجراءات اتخذتها جامعات غربية بعد حرب إسرائيل على غزة




.. استشهاد فلسطينيين أحدهما طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزلا شر


.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع




.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر