الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنين

هيثم بن محمد شطورو

2020 / 12 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


يبدو انك حين تقول أنثى بشرية، فانك تتجه مباشرة إلى الشعر. الغريب في اللغة العربية هو الجمع في لفظ واحد بين اللغة المقفاة الإيقاعية الموسيقية وبين شعر المرأة.
يبدو أن كليهما يبعث نفس إحساس المتعة، ويبدو أن من أراد حجب شعر المرأة قد أراد في نفس الوقت وئد الشعر والقصائد.
فإن صادفتك شعرة طويلة رقيقة على طاولة في مقهى، فذاك يعني أن أنثى كانت جالسة هناك أو مرت من هناك وتركت أثرها، بل ربما لايزال شذى عطرها ينتـشر في المكان، وأي مكان تدب فيه خطوات أنثى فهو شاعري، والشاعري موسيقي، والموسيقي كائن عائش فنيا، وذاك ما يجعله ذو خيلاء وذو ذاتية طافحة وشاعرية تناقض همجيته المتأصلة. لذلك صدق نزار قباني حين قال أن الحضارة أنثى. فمكان لا امرأة فيه لا حضارة فيه. هنا يبدو أن حجب المرأة دعوة للهمجية والتوحش.
مقهى "التنين"، ذو القاعة المستطيلية الشاسعة، يكتظ بالحضارة. يكتظ بالأنوثة، بل فيه حتى بعض المحجبات اللاتي بعضهن تترشفن قهوتهن بالسجائر. تسأل بعضهن عن سبب ارتدائهن للحجاب فتقول أنها عادة كان أصلها أوامر الأب أو الأخ أو الزوج...
يكتظ المقهى بالأنوثة، حتى انك لا تكاد ترفع بصرك عن أرجوحة مائلة إلى الأسفل بخطوطها التنينية الرائعة الفاتنة حتى تـنـقـذف أمامك ومضة من السحر الإلهي الخلاب في تعبيرات مختلفة للوجه الجميل والشعر المشكل الجميل والحضور المغري لملكوت السماء العذبة اللذيذة في الأرض، عبر تماوجات خطوط الجسد الأنثوي الثائر المغمور برغبة طافحة في إبراز جماله في لباسه وحركاته وابتساماته ونظراته وإيماءاته المختلفة. كأن التنين أنثى. تلك القوة الناعمة بصدد الزحف الثوري...
شعر المرأة أصبح ثورة. الزعيم السياسي الذي يرفع ذاك اللحاف الأبيض عن رأس امرأة أمام كاميرات التلفزيون في خمسينات القرن العشرين، يرفعه عن جميع نساء الوطن المفدى، ويعلن انبلاج صبح الحرية. هو في الحقيقة ليس بطالب حكم أو سلطة بقدر ما يطلب ثورة. الثورة الاجتماعية والثقافية.
قد تكون الايديولوجية الموصوفة سياسيا بإرادة بناء مجتمع ودولة معاصرة للخروج من التخلف والظلمات، ولكن من المؤكد أن شبكة الأفكار التي تتداعى تتمحور حول فكرة الحرية..
تتداعى الحرية عبر تشعبات دقيقة بحيث يتعذر الإحاطة بها وتجميع كل التداعيات من الأفكار لأنك لا تصل إلى إدراكها جميعا. وإذا كنت مختصا في العلوم الإنسانية وتحديدا في علم الاجتماع، فان الاختصاص في ذاته يكبلك بمناهجه التي درستها وفرضت على نفسك أن لا تفكر إلا بواسطتها مما يجعلك قاصرا عن إدراك تشعبات الحرية الناتجة عن رفع الزعيم بورقيبة غطاء الرأس عن المرأة.
عادة ما لا تفكر السلطة إلا في السيطرة على المجتمع لاستنزاف خيرات البلد وسرقتها والتي من المفترض أن تكون ملكا للجميع. تتأتى هذه السيطرة عن طريق المحافظة على جميع عوامل خضوعه وعلى حجب فكرة الحرية. تحكم السلطة مجتمعا امتهن نفسه واستبطن الخضوع. إرادة الخضوع تتأتى من وعي مشبع بالزجر والممنوع والمحرم واحتـقار الذات..
الزعيم الذي رفع عن المرأة حجابها وعمل على تحريرها هو في النهاية اشتغل على ضرب بنية السلطة الاستبدادية. هل كان بورقيبة واعيا بذلك؟
حين كان طالبا في باريس تـشبع بجمالية كتابات "جان جاك روسو"، وتـشبع بفكرة الحرية من خلاله. بعد ذلك، هل نسى "روسو" وهو يتخبط في الحكم الذي جسده كسلطة استبدادية حسب مقولة المستبد المستـنير؟ هل أدرك فيما بعد أن المجتمع الحر الحقيقي تلزمه عشرات وعشرات السنين؟ هل استبد بالسلطة مخافة نكوص المجتمع إلى البربرية والتوحش من جديد؟
في كل الأحوال، لا يمكن الحكم على إنسان إلا وفق الازدواجية. كانت توجد ازدواجية صارخة وتناقضا بين بناء دولة الثقافة والتعليم والصحة بأكثر ما يكون من الجودة وبين دولة البوليس. ازدواجية بين الزعيم المحرر والحاكم المستبد. فهل كانت تلك هي المعادلة الضرورية المنسجمة مع متطلبات المرحلة التاريخية؟
ألم يسبق كل تقدم تاريخي مستبد مستنير؟ ألم يكن لويس السادس عشر مستنيرا ومؤمنا بالحرية وشغوفا بقراءة كتابات "جان جاك روسو"، وزج بفرنسا في الحرب الأمريكية ضد بريطانيا تحت فكرة وشعار أحقية الأمريكيين في الحرية؟ ألم تكن تلك الحرب بتكلفتها الباهظة ماليا على فرنسا أكبر عامل في تـفـقير الفرنسيين ومجاعتهم وبالتالي في الثورة الفرنسية، ثورة الحرية والمساواة والأخوة، التي أطاحت بعرش لويس السادس عشر نفسه؟
يبدو أن الحديث العام يدور حول اعتبار السلطة في ذاتها هي المطلب النهائي. إنها مجرد عادة في التفكير أكثر من كونها حقيقة. الحقيقة أن السلطة تكون المطلب النهائي بالنسبة للغرائزي.
الحيواني الثديي يعيش بالسلطة عموما. كل قطيع له قائد. القيادة صفات تجدها فطرية تجعل البقية تنتخبه تلقائيا، لكن لا نعدم وجود صراع على السلطة حتى عند الحيوانات. وانه لمثير للدهشة، أن ترى قطعانا هائلة من الخيول تهرول في البرية الممتدة على شكل شبه كتائب عسكرية، وكل كتيبة فيها قائد وكل كتيبة تسير في انسجام وفق مسيرة عامة للخيول المنتـظمة. لا نعدم أبدا وجود تواصل بينهم. القائد تجده يجسد رغبة طافحة لديه في القيادة وتلك الرغبة في النهاية ما هي إلا برمجة كلية طبيعية على ما يبدو. تلك البرمجة للمجموعات والأفراد هي التي تجعل الحيوان يعيشها بلا منازعات كبرى على السلطة أو القيادة لأنه يعيش طبيعته بلا تشويش أو انحراف من الوعي. التنازع والتـقاتل على السلطة عند الإنسان هو نتيجة الوعي. الوعي المركب الذي تكونه عدة عوامل وهو يجعل كثيرين هم بطبيعتهم غير مبرمجين للسلطة ولا يصلحون لها ويفتقرون إلى موهبة السلطة والسياسة والقيادة، لكنهم يحملون أنفسهم على الكذب على أنفسهم وبالتالي الكذب على الآخرين وينازعون على السلطة من هو أهل لها بطبيعته. نفترض هنا أن المؤهل بطبعه للسلطة هو الذي يقـتـنصها بالضرورة، ولكن يبقى هذا مجرد افتراض.
انظر كيف يمكننا الشروع في تـفكيك فكرة السلطة. نمضي أكثر فنقول أن رغبة السلطة متأصلة عند الأغلبية من البشر بمقدار عادي ضعيف مقارنة بالقادة والزعماء، وكل يمارسها بمقدار معين في النطاق الممكن الذي يخوله له المجتمع والثـقافة. لعل ابرز مظاهر السلطة مشاعة هي سلطة الآباء على الأبناء. من الممكن تـفكيك هذا النوع من السلطة وإبراز مدى تهافته وعبثيته وتـناقضه مع إمكانية خلق جيل حر فاعل وقوي ومنسجم مع نفسه...
من هنا، وعلى أساس اعتبار وجود زعامات سياسية حقيقية هي بطبعها مؤهلة للسلطة والقيادة، أو أن برمجتها جعلت منها تمتلك مواهب السلطة وتعبيرات القيادة في جميع حركاتها بما أن السلطة هنا مكون شعوري عميق يسري في جميع خلايا تـفكيرها وجسدها. هذه الزعامات السلطوية بطبعها، لا تنظر إلى السلطة السياسية كمطلب خارجي في ذاته، بل تعيش السلطة في داخلها ومشاعرها ووجدانها، بحيث تكون السلطة حالة ذاتية داخلية بحتة. تلك الحالة التي تجعل هذا الزعيم مشبع بمشاعر أحقيته للسلطة وأهليته لها بل فرادته وكأن السلطة هي التي خلقت له وليس هو الذي خلق لها، وبالتالي يمضي بكل تركيز في طريق ذاته السلطوية.
ذلك الامتلاء بفكرة القيادة تجعله يتحسس نوعا من الألوهية. تلك الروحية تجعله يرتـقي إلى مستوى الأفكار، وبالتالي تـنطبع السلطة عنده بفكرة عظيمة. جوهر الفكرة مهما كانت هي ان يرى نفسه الكل وليس المعبر عن الكل فقط. تلك الفكرة العظيمة تغدو هي هو العظيم، بحيث يكون فكرته. من هنا، تكون السلطة بأتم معنى الكلمة هي فكرته تلك التي هي هو. من هنا، فهذه الزعامة لا تكون السلطة خارج نفسه يهرول إليها وبالتالي لا تكون مطلبا غرائزيا في إشباع الشهوات، وإنما تكون فكرة وارتـفاعا عن الموجود وثورة، لانها عشق للكل بما هو الكل هو. هنا، تكون السلطة ثورة بما أنها فكرة وليست شهوة.
هكذا يمكننا فهم الزعيم بورقيبة والقول انه زعيم وليس مجرد رئيس دولة. كما يمكننا فهم الزعيم العراقي "صدام حسين" الذي ضحى في النهاية بالسلطة السياسية لأنه مشبع بفكرته في السلطة وتـنعدم السلطة لديه إذا انحرفت عن فكرته التي هي هو، فالأمة العربية الخالدة ذات الرسالة الخالدة هي في نفس الوقت خلوده الأنوي بما هو مطلب إنساني ملح لا يكون إلا بالأفكار العظيمة والتضحية بالغرائزي في سبيلها.. فالفكرة العظيمة هي في نفس الوقت ذاتيته العظيمة وفق ما ليس يفكر فيه فقط، وإنما وفق ما يتحسسه بكل جسده وما يتماوج في جميع وجداناته..
وبالتالي، فالزعيم بورقيبة، حين حرر المرأة، فانه كان يقوم بوعي تام ليس بضرب البنية الاجتماعية والثـقافية للاستبداد السياسي فقط، وإنما كان يؤسس لبنية جديدة في العمق تكون قاعدة صلبة لمجتمع حر ناهض تـقـدمي. لقد كان واعيا بذلك تمام الوعي، وهو الرجل المشهود بذكائه وثـقافته الواسعة. كان يقول أن مرحلة النضال للتحرر من الاستعمار كانت الجهاد الأصغر، وان مرحلة البناء والعمل الشاق لمجتمع ودولة معاصرة هو الجهاد الأكبر.. الدولة المعاصرة، الحديثة، الحداثة بما تعنيه من حضارة والحضارة أنثى. الحضارة بما هي أوربا اليوم واستـنهاض تـراثـنا العربي الإسلامي التنويري، لذلك، كان بورقيبة عنوانا بارزا لتحرير المرأة، لكنه كان كذلك يعني دراسة الفلسفة في الثانوية ودراسة المنزع العقلي في الإسلام أي المعتـزلة واستـنهاض التوحيدي والمعري والجاحظ وغيرهم في المناهج الدراسية الثانوية..
هكذا كانت السلطة فكرة وفكرة عظيمة وكان الزعيم بالتالي عظيما وقد طبعت عظمته الشعب بشكل عام.. انه السلطة المشروع الحضاري الكبير، فهل يوجد في عالمنا العربي اليوم مشروعا سلطويا عظيما؟ الأوغاد والأقـزام المتـنطعون على مخدع السلطة لا يقومون باستـنـزاف طاقات الشعوب في العبثية فقط، بل يقومون بحجب فكرة مشروعية السلطة الحقيقية..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث