الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


درب غلف

عبدالله مهتدي

2020 / 12 / 3
الادب والفن


خبر سار هذه الليلة...
سأحتفل بذكرى غالية ،أنا الآن أسعد مخلوق في الكون ، عثرت عليه صدفة ، في حقيبة مليئةبالذكريات ، مسحت عنه غبار الماضي ،كاني ألمع صلعة أبي ، عانقته كأي شخص أكن له الكثير من الود ، وبكثير من الأدب والفلسفة سمرته على لوحة ، وعلقته كعمل كولاج فاخر من الزمن الغابر الظاهر، كدت أبكي وأنا أتمعن في بهائه ، كلما تحركت النوستالجيا بداخلي وقفت أمامه وأديت له التحية :
- بونجورنو مون كاماراد
ثم أخذت نفسا عميقا وأنا أشمه ....ياه ...أللحداء كل هذا السحر ؟؟؟
لن أكون ناكر جميل ، فهذا الحداء قطعة أثرية بكل ما في الكلمة من معنى ، بل أكثر من ذلك ، مناضل طبقي ، بلغة الرفاق، ناضلنا معا أيام الزلطة ، قطعنا دروبا كثيرة ،كان مشاء بارعا لا ينازعه في ذلك سوى سقراط ، كبير المشائين الذي علمهم السحر، لا يأبه لمسامير الميدة ، ولا لمسامير الكيف ، حتى المزرار لا يثنيه عن المهمة الالهية التي خلقها الرب له ، أن يحمل الأقدام إلى حيث يشاء دون أن يهزها الماء ،أو يضربها الضوء...لن أنسى حين شمل قدماي بكل العطف والحنان بعد سنوات من القحط ، لم يتبرم من رائحة "جيمس السوداء" ، خنينيزة بلغة الشارع التي لم ينفع معها شيء ،بالله عليكم.... من لم يلبس في صغره "جيمس السوداء" ليس بشخص قح ، أي بلدي ، حرش ، ولد الزنقة ، ولد مالة والكالة ، ولد زدينيفري وحابة وقاش قاش، ولد الضس، أتعرفون ..كدت أفقد عقلي وأنا أحلم بأني نسيته مع قدماي في حديقة عامة ، طاح لي الديجانكتور واسودت الحياة في عيني، و في ركن المتغيبين أعلنت خبر الفقدان وأنا أرمي غيابه بالكثير من الورد :
- حداء بمقاس 52 ، أسود مائل إلى السواد ،على مشارف السنوات التسع ، لكن بصحة جيدة ، مع ثقب في المؤخرة ، يعني الطالون ، وغير صالح للإستعمال لذوي القلوب الضعيفة وللذين لا يحافظون على الوضوء...
أنا إنسان عاطفي إلى حد التهور ، وذو قلب رطب ، ولا يهمني إن شبهتم حدائي برأس تمساح أو بوصلة خبز كبيرة ، أو حتى بصاروخ كروز....
أما حكايتي مع طاقم الاسنان فحكاية غريبة نوعا ما ، وتستحق القراءة ،
كنت أعتقد اني بمجرد تركيبه على فمي ، سأضع حدا لمشاكلي مع الطحن والعلف ، فالإنسان في النهاية هو طاقم أسنان، آلة الطحن الرهيبة، لكن هيهات...كانت فضيحتي بجلاجل كما يقول المصريون ، حين اكتشفت أني لم أركب طاقم أسنان ، بل فما آخر ، فما بكامل عدته ، الطحن والعلف والشتم وتخراج كلام العيب ، هكذا صرت أقف طويلا أمام المرآة ، أتأمل هذا الكائن الغريب الذي سكن رأسي ، أحال وجهي إلى مكعب ثلاثي الأبعاد ، لم أعد أعرفني إلا بمشقة الأنفس، كلماتي صارت تخرج مثل بقبقة غريق في بالوعة مياه عادمة ، كان لساني يتدلى عن آخره ،وأنا أضحك أو أتظاهر بالبكاء ، وكان فمي يمضغ الكلمات عوض أن ينطقها كما اعتاد ...
أتذكر يوم اشتريته بالكثير من الحنق ، كنت قد أصبحت أدردا بفعل لكمة أحدهم ، جعلتني أرى النجوم في السماء ، وأحسب أسناني على الأرض، أصبح فمي مثل كرة مفشوشة ، ومع نقص فضيع في العلف أصبت بمرض شائع ، بوهيوف ، يسمونه أيضا الهيمري، عيناي دخلت في رأسي ، ومصاريني لصقت على بعضها ،أصبحت خفيفا على وزن الريشة، ولأني إنسان مزلوط ، فكرت في درب غلف ، هناك يمكن أن تشتري أي شيء ، أصابع مستعملة نسيها صاحبها معلقة في دولاب أصبح خارج الخدمة ، وجه فقد ماءه ، لكن يمكن استعماله في حملة انتخابات مليئة بالبؤس ، جبهة مقزدرة ليس لها شيء تخجل منه ، عين ميكة لا زالت صالحة للتبركيك ، ربما كانت لمقدم حي من الأحياء واضطر لبيعها من أجل سداد دين ، أدن مليئة بالأخبار ، قد يكون صاحبها قد أحيل على التقاعد بسبب نقص في السمع ، أو خلط في التقارير ، رأس بدمه وشحمه، رجل فقدها صاحبها في مظاهرة ، يد تجيد اللطم والتصرفيق ، باعها رجل قمع من أجل قارورة نبيذ يدفئ بها برد الندم ، وحتى طاقم أسنان ، لم يعد على مقاس أحدهم...
نقدت بائع أطقم الأسنان في درب غلف ، كان يبدو لي من خلال فكيه الغير متناسقين ، أنه هو الآخر قد ركب طاقم أسنان مستعمل ، كتمت ضحكتي وأنا أفكر بأني سأصير مثله بفكين عريضين ، عرجت على صانع مفاتيح ، أطرى على فمي الجديد وهو يركبه ، حتى كاد يقول عنه ما لم يقله أبو نواس في الخمر ، في الطريق كنت أسمع أصواتا صادرة من فمي ، طبعا لم أكن أنا الذي يتكلم ، صرت أطوي الخطو كي أصل الشقة ، هناك تسمرت أمام المرآة أنصت للأصوات المنبعثة من فمي ، كانت شيئا من اللغة الصينية، أو هكذا هيئ لي، حتى شهيتي في الأكل انقلبت رأسا على عقب ،صرت أحس برغبة جامحة في أكل بوبريص أو ما شابه ذلك من الزواحف والحشرات.....
كان يلزمني سنوات عديدة لأروض هذا الفم الجديد ، بل لقد فكرت مرارا عديدة في رميه ، إلى أن عدلت عن الفكرة بعدما سمعته في نشرات الأخبار ، عن انتشار تجارة الأفواه المستعملة ، وعن حكايات أشخاص مع أفواههم تشبه حكايتي.. أنا الآن لا أحدثكم عن طاقم أسنان ، بل عن فم بكامل عدته ، وعن عملية غش مثقنة تعرضت لها في درب غلف ، كلفتني الشيء الكثير ، الإصابة بأمراض القولون وبومزوي ، ثم الحلاقم وضيق في الرؤية ، كنت مع كل ذلك مضطرا للعودة إلى نفس السوق مرات عديدة ، من أجل شيفرة فمي الجديد ، دون أن أنسى عملية المغربة التي خضعت لها بعد أن اضطررت لتغيير لا كارط مير في رأسي ، حتى أستطيع أن أرسم ضحكة على وجهي بعينين ضيقتين...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب


.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز




.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم