الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيض الذكريات / قصة قصيرة

سميرة غانمي

2020 / 12 / 3
الادب والفن


فيــــض الذكريات

ولجت غرفتها و عدلت عن تشغيل الفانوس الكهربائي . أشعلت شمعة نشرت نورها على استحياء و نامت على وسادة الذكريات تتحسسها و تضع كلتا يديها تحت وجنتيها ، فإذا بعبرات حارّة تطفر من عينيها المتورّمين . تتالت أمامها صور من حياتها الماضية و تمنت لو تعود تلك الطفلة الصغيرة التي أوكلت لها والدتها مهمة رعي الشويهات أيام العطل و مرافقتها إلى الحقل في فصل الحصاد . كانت تشعر أنها طفلة شقية غير أنها كانت تستشعر سعادة خفية لأنها كانت سندا لوالدتها التي تشعّبت مهامها في ظل غياب الأب الذي دأب على السفر بعيدا للعمل و توفير ما أمكنه لإعالة العائلة الممتدة.
تنهض باكرا على صوت والدتها و هي تردد :" هيا انهضي لقد انقضى اليوم و آن النهار ألا تسمعين ثغاء الأغنام الجائعة ؟". يا لحظّي العاثر لقد بليت بالشقاء و العناء و بطفلة عنيدة وكسولة . تمدها بكسرة من خبزالقمح، فتُشيح بوجهها ناحية أخرى و ترفض أن تفطر ليس تعبيرا عن سخطها ورفضها للمهمة التي سئمتها و التي امتهنها أغلب فتيان المنطقة ، لكنها ملت النظر فيما تحضره أمها من أكل رتيب لا تجديد فيه.و لم يكن البخل ولا العجز من صفات الأم ، لكن ذلك ما يعيشه أغلب سكان القرى و الأرياف في ذلك الزمن،هم يكافحون في سبيل تعليم أبنائهم و تحسين واقعهم و يغالبون غوائل الدهر مغالبة حتى أن أغلبهم لا يعرفون السّهر و لا السمر بل يخلدون إلى النوم باكرا بعد مهمات متفرقة بين خدمة الأرض و تعليف المواشي . و إذا سهرت المرأة هناك في تلك الربوع المنسية فإنها تقضي قسطا من الليل في نسج زربية أو برنس أو غطاء صوفي.المرأة هناك أنثى المظهر رجالية الطبع . هكذا طبعتها الظروف و الأرض و الفصول .
تفتح باب الزريبة ،فتركض الشويهات خارجا كمن أًطلق من سجن بعد سنوات و تمضي وراءهم تهشّ بعصاها و تركض وراء الخرفان الشقية التي تحيد أحيانا بعيدا عن القطيع و تشفق على النعجة النجدية ذات الألية الكبيرة المثقلة بحملها، و تحاول أن يكون المسير على قدر خطاها البطيئة إلى أن تصل إلى أرض شحيحة من الخيرات إلا من شجيرات زيتون غرستها الوالدة بيديها بعد أن اتخذت للعائلة أرضا ...لم ترث هي أو الزوج شبرا لذلك عزمت منذ البداية أن يكون لها فضاء تتحرك فيه وتستغله بالقدر الذي تتيحه لها الظروف القاسية ، شجيرات الزيتون تلك، تنغص عليها متعة البقاء جالسة لمدة دقائق معدودات ، فمهمة الراعي لن تكون يسيرة ، أعناق الأغنام نحوها مشرئية دائما ، فهي تغافلها لتحرم الأغصان الفتية حق النماء و إذا تفطنت الأم لما نال شجيراتها من اعتداء فان المسكينة مضطرة لسماع سيل الشتائم صاغرة دامعة العينين .
و إذا خلدت إلى النوم فإن أحلاما تراودها أو هي أحاديث النفس و تفاصيل النوم ، لا تبرحها فترى الخروف المرقّط يسير على حافة تلك البئر الرومانية العميقة التي كانت تتوسط ارض جدتها و خال والدتها. فقد كانت تحبس أنفاسها و حركاتها و نظراتها منتظرة حدوث الكارثة، ترتجف أوصالها كلما تراءى لها المشهد و من حولها يرقب اضطراب سحنتها و تشيج روحها و عناء طفولتها و عذابات سنواتها الأولى .هي تشعر أن الله يخصها بكثير من اللطف و الحب و التقدير لذلك القلب الطافح بالرحمة و الإيثار.
عادت ذات يوم و أخبرت أمها أن كبشا كان يمر مع قطيعه كان لاطف شاتها الصغيرة البكر و كانت هي لا تمانع و أنه كان ينط فوقها . يومها ضحكت الأم كما لم تضحك من قبل و أخبرتها أنها ستتدبر الأمر غدا . حل اليوم الموعود و ساعة التنفيذ ، جلبت الأم من عند جيرانها كبشا أقرن عظيم الجثة مهيب الطلعة صحبة العم محمود وأدخلاه الزريبة و هناك كانت الصغيرة ترقب من بعيد مشهدا صادما و غريبا. سألت أمها محاولة أن تجد جوابا شافيا فنهرتها في البداية قائلة :" ما تزالين صغيرة ،أنت لن تفهمي هذه الأمور ، المهم أن شاتك المدللة ستحمل قريبا و ستصبح أما و سأشتري لك بثمن وليدها ثيابا جديدة و محفظة . قرأت فيما بعد عن التلقيح و الحمل و الشبق و التناسل و الإباضة و فهمت ما غمض عليها حينها و أشكل و أشفقت على تلك الطفلة التي حملتها الظروف على اكتشاف خبايا كثيرة تلقائيا و بشكل صادم أحيانا أخرى ، طفلة ترعى على حافة الطريق ترابية ، موطوءة بانتظام ، تبتعد عنها كلما تراءى لها احدهم من بعيد فتنظر وجلة خجولة و تهرع إلى شويهاتها كلما ابتعد ...
أفاقت فزعة و قد لفت الظلمة المكان و ما درت هي في حلم أم في واقع تكتنفه حقيقة غصّت في حلقها كلما تذكرت تلك الأيام. سمعت صوت أمها و قد قدمت صحبة والدها الذي عاد يتفقد أحوالهم و يمكث معهم يومين أو ثلاثة على مدار السنة أو السنين ...بحثت معهم عن الشويهات في جنح الظلام فعثروا عليها ترعى في سكينة داخل حقل الجيران الذي غص بسنابل القمح فأخرجوها كما يُخرج السارق ذليلا. يومها عادت صغيرة جدا، ألقت بها أمها فوق ظهرها في حركة عنيفة ممزوجة بالتعب و الوجع و ربما الندم. كيف لها أن تتحمل شقاء ابنتها الصغيرة لسنوات و هي تودع لعب الصغار لتغيب على ناظريها ساعات طويلة كل يوم على بعد كيلومترين تقريبا؟ ليلتها لم تتناول الأم عشاءها ، فقد اعتراها حزن و باحت تقاسيم وجهها بألم دفين و نطقت بكلمات السخط و التذمر و الوجع . لكنها ما نسيت أن تنفرد بابنتها ووضعتها في قصعة حديدية كبيرة لتغسل جسدها الأسمر النحيل الذي كان يفترش التراب و يتنفسه منذ قليل . كانت تدعكه بيديها الخشنتين و تصفعه كلما علا صياح الطفلة أو كثرت حركاتها ، تلبسها ثيابها على عجل و تمضي لتكمل مهمات لا تنتهي و تعود إلى شعرها تتحسسه و تحكي لها حكاية "أم السيسي" أو "الغولة و السبع بنات".
و تنام الطفلة لتجد نفسها في كل مرة تمضي إلى عالم الخيال و الخرافات و التفكير في المصير و النهاية و تًسائل نفسها : كيف يخلقنا الله ثم يميتنا؟ أسئلة وجودية تقص مضجعها كيف جاءت؟ و من أين أتت؟ وإلى أين المصير ؟ إن المشهد الذي كاد أن لا يبرحها آنذاك هو تيهها في السماء المظلمة ، تطير إليها، أو هي تُسحبُ إليها سحبا غامضا لا تفقه بعده طريق العودة و لا نقطة الوصول؟
هي لا تفهم أين تختفي الشمس لتتركها إلى الظلمة الحالكة ؟ لم تفهم لم غاب وجه خالها إلى الأبد في بداية حياته؟ و لم تفهم لم جاء إخوتها تباعا ينازعونها عرشها البائس فيزيدونه بؤسا ؟
فهمت بعد ذلك أن أغلب الإجابات كانت خرافية و عشوائية فأصلحت فيما بعد ما أفسدوه في ذهنها عن قصد أو عن غير قصد.
عادت إلى لحظتها الراهنة عندما اختفى نور الشمعة و راحت تطوي التفاصيل القديمة لتحل محلها ذكريات قريبة .. إنها ترى وجه طفلتها البكر و قد لفّتها صفرة جرّاء عطب الكبد ودبيب الموت الذي تصارعه منذ أشهر . تنظر إليها فزعة يكاد قلبها يقفز من بين ضلوعها وتُلصق شفتيها بفم طفلتها تضخ فيها الروح .محاولة أن تعيد لها أنفاسها ، لكن هيهات إنها لا تسمع إلا رجعا للصدى يدوي في جوف حبيبتها التي أطبقت أجفانها الصغيرات إلى الأبد و تغيب حلوة المبسم رغم محاولات الأم التي كانت تبحث مع الأطباء و في الطبيعة و في الكتاب المقدس عن دواء يقهر علة الجسد الصغير. وبينما كانت تقبل الجبين البارد قبلة الختام و الوجع الصارخ كان أحدهم يتخبط في أحشائها كمن يريد أن يخرج سريعا إلى النور ليجدد غياهب الأيام و ظلمة الليل العتيم. في ذلك اليوم احتشد الناس لكنها لم تر الوجوه و لم تع كلمات التعزية . كل ما أدركته أنها لم تقبل تلك الجملة التي تؤكد حقيقة النهاية و المصير المحتوم "رحمها الله"، أدركت أن الأرض ممر قصير يأخذنا إلى الردى و المنون و شعرت بعد مفارقة تلك الروح و انتفاء صفة الحياة عن الثغر و العينين الكحيلتين و اليدين الناعمتين و بقية أعضاء الجسد ، أن العالم خرب و البهجة كذبة كبيرة و أن الإنسان في قبضة المنايا تطوح به في يمّ النسيان و الفناء متى شاءت . هي لا تبالغ في إظهار آلامها بل الحزن استجابة طبيعية لتلك الخسارة الفادحة .كانت أولى خطواتها إلى حياة جديدة هي القبول بحدوث خطب و نهاية و تكيفها بشكل ايجابي مع الفقد و الرحيل ، لكنها شعرت و هي تدلل صغيرها الجديد بأنها تخون ذكرى الجميلة الأولى و تشعر لوهلة أنها عالقة بين الماضي و الحاضر و سرعان ما تدرك أن الحزن أفضل من الضحك و الفرح ، فله الفضل في صقلها و صنعها كشخص يتجدد باستمرار بقدر ما لديه و ما عليه وعيا لذيذا مجلوا بسكينة و هدوء .
.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل