الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ها نحن نعود معاً كما حلمنا يا صديقي ..

مروان صباح

2020 / 12 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


/ عادةً وهذا ليس غربياً ، هناك علاقة وثقة بين الحلاقين والفنانون والأدباء بصفة عامة ، لكن جميعها لا تتجاوز الثرثرة والإدعاء ، فالحلاق كما هو معروف ، لا يكف عن تقديم الفتاوي والمبالغة لاحترافيته بالحلاقة ، أما المثقف يكيل عليه بالمجاملات طالما رأسه واقع تحت رحمته ، فكيف إذا كان الرأس الذي بين يديه مبدعاً ، وايضاً كما لكل قاعدة استثناء ، فإن الاستثناء هنا حاضر مع اوخيو ارياس 1905-2008م الشهير بحلاق بيكاسو ، الرسام الإسباني ، صحيح أن ارياس كان مغموراً كباقي الحلاقيين ، لكن موقفه جعله من المشاهير ، وهو لا سواه ، كان قد ترك مقاعد الدراسة في عمر باكر بحكم الحرب الأيديولوجية التى يطلق عليها بالأهلية ( الإسبانية ) لكي يلتحق في مدرسة البؤساء في صالون عمه فيكتور هيجو والتى مكنته من مهنة الحلاقة وايضاً وضعته على طريق القراءة ، وبالتالي المواظبة على المطالعة شكلت لديه وعي يساري / وبات من دعاة النظام الجمهوري ، الذي دفعه إلى ساحات القتال ، وكما أغلبية الجمهوريون التى لاحقتهم قوات الجنرال فرانكو وزجت الكثير منهم بالسجون ، وأعدمت آخرين وفي مقدمتهم الشاعر الإسباني لوركا الذي بعده عجت الحياة بكثير من الشعراء لكنها أصبحت أقل شعراً ، وهو لا سواه كان لوركا قد تنبأ ليس بموته فقط بل في إختفاء جثمانه ، ففي واحدة من القصائد النادرة والتى لم يصنعها في التاريخ الشعري سوى الشاعر مالك بن الريب التميمي التى لسعته الأفعى أثناء سفره ، قال لوركا الغرناطي ( وعرفت أنني قُتلتُ / وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس / فتحوا البراميل والخزائن / وسرقوا ثلاثة جثث / ونزعوا أسنانها الذهبية / ولكنهم لم يجدوني قط ، ألم يعثروا عليّ / نعم لم يعثروا عليّ )، وبالفعل قُتل في موقع يُطلق عليه حتى الآن ( بعين الدمعة ) ، ومازالت العين تدمع على قتله ، وبالرغم من جملة اتهامات أراد النظام الفاشي إلصاقها به ، إلا أن الرجل كان أكبر من أن يكون منتمي لجهة معينه ، بل أكد أكثر من مرة أنه شاعر الفلاحيين ، وبهذا الافتراءات التى حاول النظام الديكتاتور تشويهه ومع منع نشر شعره طيلة حكم فرانكو ، كانتا دالتان هامتين على قتله وإخفاء جثته بهدف تجريده من الصفة القومية التى كان يتمتع بها كشاعر للإسبان كافة ، وبالتالي ، الحرب الأيديولوجية وسيطرة نظام فرانكو دفعتا الأغلبية من الجمهوريين الفرار إلى أوروبا .

عند أُكتشفت الطاقة ، كانت ولادة جديدة للبشرية ، منحَّ الوعي الذي اكتسبه الحلاق ارياس من القراءة مكان خاص في قلب بيكاسو ، رفيقه في المنفى ، وخلال هذه السنوات تمكن من الاحتفاظ لأكثر من ستين ( 60 ) لوحة موقعة جميعها باسم الرسام ، لأن الأول كان يرفض تقاضي أجره عن الحلاقة ، ومن بين تلك اللوحات توجد أغلاها ، لزوجة بيكاسو الفرنسية جاكلين الذي رسم وجهها في 160 لوحة ، صحيح أنها كانت تصغره ب53 عاماً وأقدمت بعد رحيله بسنوات على الانتحار ، لكنها تحولت إلى إمرأة ثرية وكئيبة معاً ، وبالرغم ايضاً من تناطح المتاحف العالمية على شراء اللوحات بعد موت بيكاسو ، لكن ارياس رفض جميع العروض وأصر الذهاب بهم إلى قريته ، بالفعل بعد وفاة الديكتاتور دخل الحلاق إسبانيا وهو يردد ( ها نحن نعود ، لقد مات الديكتاتور وعاشت إسبانيا ، ها نحن نعود معاً كما حلمنا يا صديقي ) وتحولت القرية بفضل لوحات الرسام الشهير إلى موقع جاذب للعالم بأسره وساهمت في خلق نشاط سياحي على مدار السنة .

هناك فارق واهٍ بين اللعاب السائل والكرامة المحفوظة ، وبالتالي ما صنعه ارياس يستدعي وقفة عميقة وطويلة معاً ، لأن هذا الفعل حتى عائلات المشاهير لم يصنعوه من قبل ، بل خصيصاً عائلة بيكاسو دخلوا بإشتباك علني مع بعضهم البعض على الميراث ، وهذا يعود بالطبع للبنيوية التربوية التى تجرعها من القراءة ، لقد شهدت المنطقة العربية تحديداً شيء يشابه لذلك ، كانت قبل نزول القران تُعتبر منطقة يقطنها البدو الرحل ، يعبدون الأصنام كما هو مدون في التاريخ وايضاً بقيا أصنام شاخصة ، لكن مع إنتشار القرآن في أرض توارث أهلها الكثير من التراث والعلم والفلسفة ، السريانية والبيزنطية والساسانية واليونانية ، اكتسبوا من القرآن القيم الأخلاقية والروحية الراقية ، فأصبحوا بقدرته يدعون إلى طهارة القلب والنفس وسلامة الحياة من ماديتها ، وبالتالي هذه الخصوصية أتاحت لعلماء الإسلامين أمثال الكندي / ابن بكر الرازي / أبو عليّ مسكوية / ابن حزم / والغزالي / ابن تيمية / ابن القيم الجوزي / تقديم العلاج المعرفي السلوكي كدواء لأي عليل نفسي أو النفس الغير المنضبطة أو المتقلقلة أو المنفلتة لحد المرض الظاهر ، معتمدون بذلك على أن أفكار الفرد ومعتقداته السلبية أو المتعثرة أو الفاسدة ، تؤثر على سلوكه ، وبالتالي العلاج الأهم والفاعل هو معالجة السلوك اولاً قبل إمداده بالدواء أو الأعشاب الطبيعية ، وهذا يُطلق عليه اليوم بعلم النفس ، بل ابن سينا العالم الشهير ، أستبق الجميع عندما أشار مبكراً لمسألة النسيان ودوره في التشويش على قاعدة بيانات الإنسان ، وهذا الإقلاق / الاختلال / الإرباك /العبثية ، تحدث بسببها انشغالات بأنشطة متعددة وضاغطة ، وليس ابداً بسبب تقدم العمر ، إذن من يُطلق عليهم بالتكوينين الفرودويون ، الذين طالبوا في القرن الماضي القريب بربط علم النفس بالتربية الاجتماعية ، لم يكن طلبهم قادم من فراغ أو شيء حديث ، لأن أصل الحكاية تكمن في بنيوية الفرد الذي تربى عليها ، فهو في المحصلة يتربى على الخطاب ، إن كان خطاب السيد المتمثل بخطيب المساجد أو الكنائس أو المعابد أو السياسي ، أو الخطب الهستيرية ، فعلى سبيل المثال ، الجميع في هذا المقال عادوا إلى الأماكن ، لكنهم لم يعود إلى الذات ، فعندما مات الديكتاتور ، عاد إلى المكان الغريب ، لكن إلى الذات ، الموقع الذي سيرجع إليه كل فرد ، تماماً عكس عودة الحلاق إلى القرية ، فهو عاد إلى المكان وليس للذات ، لأن الذات في نهاية المطاف ليست بقعة بل هي محصول بنية مركبة ، ربما ، قد تكون للذات في فرنسا أكثر من إسبانيا ، لأن لولا المنفى ، لم يكن لارياس الفرصة مصادقة بيكاسو وبالتالي الذات قبل معرفته ليست كما بعدها .

لقد رصدنا لهذا التاريخ الإسباني طقوس خاصة ، تختلف عن تلك التى تسمح لنا أن تحتفظها أبصارنا ، وقد أباح التاريخ لنا ايضاً تقليص المسافة بين جغرافيتين بعيدتين ، قريبتين بالعذابات ، وهنا نجد تباين عميق بين الأطراف من خلال الخطوات التى أخذوها ، فقد قررا بيكاسو الرسام وارياس الحلاق الفِرار من الديكتاتور لإدراكهما لأمراضه النفسية المركبة ، لكن الشاعر لوركا عجز في فهم تلك المرحلة الانتقالية وخطورتها ، فقد حاول البحث عن الذات المستقلة أثناء تغير النظام القائم بنظام إتكالي بالكامل على الآخر ، تماماً ، نظام لا يعترف بالاكتفاء بالذات بقدر أنه ينظر إلى المجتمع بالقاصر وغير قابل للنضوج الذاتي ، بل تناسي أو تجاهل لوركا نظرية الأنا الأعلى والأنا الهو التى تسيطر على الديكتاتور ، وهما سببان لأمراضه النفسية ، بهما يتم القتل والنفي والسجن والتعذيب والتشهير والاغتيال السياسي والمعنوي وإفشال كل ناجح أو على طريق النجاح وتسقط جميع القيم الأخلاقية ، التى دفعت الكثير للجوء إلى المنفى أو وضعتهم أمام فوهات البنادق ، وذلك لا يشطب أهمية وعلامة أخرى تجلت كذلك ، لقد أتعبَّ الديكتاتور فرانكو الإسبانيون في حياته ومماته ، أتعبَّ الأجيال السابقة والحاضرة والقادمة ، أتعبهم عندما قتل شاعر إسبانيا / كوني / مجدد ، وأتعبهم بعد مماته ، أتعبهم عندما رفضوا التوقف عن البحث عن جثمانه ، بل هناك من أستغرب كيف لإسبانيا لم تُقدِم على حفر غرناطة بأيدي أبنائها لكي يعثروا على رفاته ، ولعل من الجدير في الخاتمة الإشارة إليه ، أعداد قليلة يعلمون أن عودتهم لم تكن أكثر من العودة إلى المكان ، أما الذات مازالت في المنفى والحنين لم يعد حنين مقتصر على المكان الأول .

بل السؤال الجوهري ، وعلى الرغم من تكريم غرناطة للشاعر لوركا ، وإعادة الاعتبار له واندثار قاتله ونظامه ، المصحوب باللعنات الأبدية، إذن ، ماذا نسمي هذا الشعور الذي يظل يلح على الإسبان بضرورة ايجاد رفاته ، وهذا الشعور حقاً لا يقتصر على الإسبان ، بل على البشرية جمعاء ، لأن باختصار ، قد مسهم بشعره ومقتله وشجاعته التى تمثلت بصلابته وثباته أمام الموت ، ذاك الموت الذي كان يعرف أنه يحمله. والسلام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية الفرنسية.. مفاجآت الجولة الثانية!


.. غداة الانتخابات التشريعية.. رئيس الوزراء الفرنسي أتال يقدم ا




.. رغم إصراره.. اجتماع لكبار الديمقراطيين لبحث مستقبل بايدن


.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - أبو عبيدة: عززنا القدرات الدفاعية




.. رئيس الوزراء الفرنسي أتال يعلن تقديم استقالته لرئيس الجمهوري