الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثالثا: المنهج الوعظي الخطابي

فارس تركي محمود

2020 / 12 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


شكّل الوعظ عبر آلاف السنين واحداً من أهم الركائز التي استندت إليها المجتمعات البشرية في بقائها وتماسكها وضبط تفاعلاتها الحياتية وصيانة وتجديد منظومتها الأخلاقية ، وكم من الممالك والدول قامت وازدهرت وسادت وكان الوعظ عاملاً مهماً وحاسماً في قيامها واستمرارها ، وكم من خطيبٍ مفوه تمكن من حشد المئات والآلاف خلف قيادته ليغير بهم مسار التاريخ والأحداث ولم تكن عدته في ذلك سوى قدرته على الإقناع واستخدام أساليب الترغيب والترهيب ، وتوظيف الثنائيات الأخلاقية كالخير والشر والحق والباطل والنور والظلام ، وتفعيل افكار الانتقاء والاصطفاء كالأمة الافضل والعرق الانقى والجماعة الارقى والمنهج الأصح والفكر الأصلح . . . . الخ .
وقد تعددت أنواع الوعظ فمنه الوعظ الديني والوعظ القومي والوعظ الوطني والوعظ العرقي والوعظ المذهبي وغيرها ، وعلى الرغم من تعدد أنواعه فالوعظ في النهاية لا يهدف إلا إلى تحقيق معادلة ( إفعل ولا تفعل) ودفع الناس إلى الالتزام بها مثل : أحبوا ، تعاونوا ، إخلصوا ، أصدقوا ، إعملوا ، تنظفوا ، إجتهدوا ، جاهدوا ، ناضلوا ، لا تسرقوا ، لا تخونوا ، لا تغشوا ، لا تكذبوا ، لا تكرهوا ، لا تتفرقوا وهكذا دواليك إفعل إفعل إفعل . . . لا تفعل لا تفعل لا تفعل . . . الخ .
كان الوعظ في سالف الإيام يلاقي نجاحاً هائلاً ويحقق نتائج ذات أهمية كبيرة ، وكان يعد واحداً من أهم الآليات والوسائل المطلوبة – إن لم يكن اهمها على الاطلاق - في إحداث أي تغيير اجتماعي أو سياسي والسبب في ذلك يعود إلى التطابق شبه الكامل بين طبيعة الوعظ أو طبيعة العملية الوعظية وبين الطبيعة البدائية للعقلية البشرية التي كانت تتلقى الوعظ في الإيام الخوالي ، فالوعظ في النهاية ليس حوار بين عقلاء أو تبادل وتلاقح معرفي بل هو خطاب مرسل حماسي تحريضي تهييجي مانوي لا منطقي – في أغلب الاحيان – يستند على مسلمات مسلَّم بها مسبقا من قبل المخاطِب والمخاطَب بغض النظر عن كون هذه المسلمات تنطبق أو تتطابق مع العقل والمنطق ، يستهدف المشاعر والعواطف ويشتمل على الصراخ والتهديد والوعد والوعيد وهو أقرب إلى حالة من الهوس والاهتياج غير المنضبط بأية ضوابط عقلية .
هذه المواصفات التي اتصف وما زال يتصف بها الوعظ كانت تتسق وتتناغم تماما مع الطريقة البدائية في التفكير ومع عقلية ما قبل الحداثة والتي ظلت سائدة ومسيطرة لقرون طويلة على انماط التفكير والسلوك للجنس البشري الذي لم يبدأ بمغادرتها لصالح عقلية اكثر نضوجا إلا مع إطلالة عصر التنوير والنهضة ، والسبب في هذا التناغم والانسجام يعود إلى أن الوعظ ظهر أساسا نتيجة لحاجة المجتمعات البدائية إليه باعتباره أحد الوسائل الأساسية لبقاء واستمرار حالة التجمع والاجتماع البشري وذلك لدوره المهم في معالجة الاختلالات التي لا بد وأن تنشأ كنتيجة حتمية لهذا الاجتماع ، وذلك من خلال ضبط سلوكيات الفرد والجماعة ، وكبح ولجم غرائزهم وشهواتهم ونوازعهم البدائية ، والسيطرة على الحشود والعوام ، وضمان الولاء والطاعة لسادة الجماعة وزعمائها ، والالتزام بالقيم والمعتقدات والمبادئ والعادات والتقاليد التي توافق عليها المجتمع ، والتقليل من حدة وشراسة التنازع والتخاصم والتنافس بين أفراد المجتمع ، بالإضافة إلى دور الوعظ في الحفاظ على تماسك المجتمع وخلق وتعزيز المشاعر القومية ، وتكوين وتشكيل ذاكرة مشتركة ومزاج شعبي عام وذوق وشعور واحساس مشترك تجاه مختلف القضايا والأحداث والرؤى والافكار ، والاحتفاء بفكرة الانتماء للقبيلة أو للجماعة والافتخار بها ، وتأكيد وغرس مقولة أنها أفضل وأرقى من باقي الجماعات وأنها تتمتع بمزايا وصفات لا تتوافر لغيرها ، والأهم من ذلك والأخطر أن الوعظ - الذي بدأ كضرورة انبثقت من حاجة الإنسان للعيش في جماعات - سيؤدي بمرور الوقت إلى تدعيم العقلية الخطابية الوعظية ، وإلى زيادة سيطرتها واستحواذها على المجتمع البدائي مما سيجعل هذا المجتمع متعطش أكثر وأكثر إلى المزيد من الوعظ ، ويستمر الأمر على هذا المنوال حتى يصبح المنهج الخطابي الوعظي منهجا للحياة ولطريقة التفكير وللتعامل مع كل التفاصيل والمفردات والقضايا من أدناها الى أعلاها ، أي يصبح سمة ملازمة للمجتمعات البدائية مما سيسهل لهذه المجتمعات مهمة إنتاج الدولة القديمة .
لقد كان للمنهج الخطابي الوعظي دور بارز ومهم في إنشاء وتأسيس الدولة القديمة لأن الخطوة الاولى اللازمة لإنشائها تتمثل بعملية التحشيد الشعبي أي حشد الجماهير خلف هدف إنشاء الدولة وإقناعها بتبنيه من خلال استخدام المنهج الخطابي الذي تفهمه تلك الجماهير جيداً وتتفاعل معه ويؤثر بها بدرجة كبيرة ، فيصبح الشخص الأقدر على الخطابة والأكثر إتقانا للوعظ ولفن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، والشخص الذي يعرف كيف يستثير مشاعر العامة ويستحثهم ويداعب مخيلتهم هو الأقرب للنجاح في قيادتهم باتجاه تأسيس الدولة ودفعها الى المسار الذي يراه ويفضله ، لذلك أُعتُبرت القدرة على مخاطبة الجماهير وإتقان فن الوعظ إحدى صفات القادة والزعماء عبر التاريخ فمن صفات مؤسسي الدول والقادة العظام أنهم خطباء مفوَّهون .
وحتى بعد تأسيس الدولة تستمر الحاجة إلى المنهج الخطابي الوعظي في تزايد بل تصبح أكثر إلحاحاً ، لأن المجتمع أو المجتمعات التي ستحكمها الدولة الناشئة هي بالتأكيد أكبر عدداً وأكثر تعقيداً من المجتمع البدائي ألذي أنتجها مما يضاعف من أهمية دور الوعظ في ضبط تفاعلات تلك المجتمعات ، وصبغها بلون واحد ، والتقليل قدر الامكان من الاختلافات والتباينات التي ستظهر حتماً نتيجة لاتساع رقعة الدولة ، والحفاظ على تناغمها وانسجامها ، واحتواء مشاكلها وتناقضاتها المتزايدة والمتعاظمة كمَّاً ونوعاً .
يضاف إلى ذلك أنه في ظل الدولة القديمة ستظهر للمنهج الخطابي مهمة إضافية تتمثل بضمان الولاء والطاعة العمياء للسلطة السياسية الحاكمة للدولة ، ومحاولة إضفاء هالة من التبجيل والقداسة على شخص السلطان وعلى سيرته وعلى كل ما يقول ويفعل ، وغرس هذه القداسة في النفوس لتتحول بمرور الايام إلى حقيقة لا يجرؤ أحد على التشكيك بها ، وحفظ بنيان الدولة وتدعيمها وتعزيز قوتها وتهيئة النفوس والعقول للتضحية من أجلها والذود عن حياضها والعمل على تعزيز سطوتها وزيادة نفوذها .
ومن الطبيعي أن تحقيق مثل هذه الأهداف لا يمكن أن يتم بدون حضور ومساهمة الكهنة ورجال الدين مساهمة فعَّالة ، فللدين سطوة وتأثير على النفوس لا تتوافر لغيره ، لذلك كان هناك دائما ارتباطات وثيقة وعلاقات متينة بين الحكام ورجال الدين في الدولة القديمة ، فرجال الدين هم من أهم الأدوات التي يستخدمها الحكام في السيطرة على المجتمع وإحكام القبضة عليه بينما يحصل رجال الدين في مقابل ذلك على النفوذ والامتيازات المادية والمعنوية ، وهذا كله سيدفع رجال الدين إلى شحذ قدراتهم الوعظية ورفع ملكاتهم الخطابية ليكونوا بمستوى المهمة الملقاة على عاتقهم وبالشكل الذي يلبي طموحات ومتطلبات السلطان . وستكون المحصلة النهائية مزيد من التمكين والسيطرة للمنهج الخطابي الوعظي على العقول والنفوس .
وبالمقابل فإن قيام وظهور الدولة القديمة في أي زمانٍ ومكان سيتبعه بلا شك ظهور أعداء لها ومناهضين ومعارضين للسلطان سواء في الداخل أو الخارج ، وهؤلاء الاعداء والمناهضين هم أيضاً لن يجدوا سلاحا أمضى من الخطب الوعظية من أجل تحقيق هدفهم المتمثل بالوصول إلى السلطة أو القضاء على الدولة من خلال مهاجمة السلطة القائمة والتشكيك بشرعيتها وتشويه صورتها ونزع رداء القدسية عنها وتحريض الناس ضدها ، وضرب وحدة المجتمع وتماسكه من خلال إثارة الضغائن بين الأفراد والجماعات والتركيز على الاختلافات والخلافات الموجودة وإبرازها وتضخيمها ، واستغلال مظاهر الظلم والقمع وعدم المساواة التي لا بد وأن تحدث في ظل الدولة القديمة ، ومثلما كان للدين ورجاله دور وعظي وخطابي مهم في بناء الدولة وتدعيم قوتها كذلك ستكون له الأهمية ذاتها في محاولات معارضيها وأعدائها الهادفة لهدمها وتقويضها .
يضاف إلى ذلك أن الحاجة إلى الوعظ ستزداد بين أفراد المجتمع والعوام في ظل الدولة القديمة وذلك بسبب تغير الظروف والأحوال ، حيث أن الانتقال من المجتمع البدائي البسيط إلى مجتمع تحكمه الدولة سيوجِد ولا شك تغييرات كبيرة ليس أقلها التفاوت الطبقي الحاد والاختلاف الكبير في المستوى المعاشي ، وتقسيم المجتمع الى طبقات متعددة من سادة وزعماء وتجار واثرياء وحرفيين وفقراء ومحرومين وظالمين ومظلومين ، وظهور مستويات غير معهودة سابقا من الظلم والقهر والقمع والاستبداد والتحاسد والتباغض والتناحر والتصارع بين فئات المجتمع المختلفة ، مما سيرفع من نسبة الطلب على الخطاب الوعظي ويزيد من سيطرته واستحواذه . فالفقير والمظلوم والمحروم سيجد فيه البلسم الشافي لحياته التعيسة وسيكون معيناً له على تحمل أعبائها ومشاقها ومتنفساً له للتخفيف من غيظه وسخطه ، وسيحتاجه للتعبير عن أحلامه وطموحاته في تغيير الحال نحو الأحسن والأفضل بالنسبة له طبعاً ، أما الشخص الثري والمرفه وصاحب المركز المرموق فأنه سيوظف المنهج الخطابي لإبقاء الوضع على حاله وللبقاء في مركزه وزيادة ثروته وتدعيم سلطته والدفاع عن ذلك كله ومهاجمة كل من يحاول النيل منه . والقاعدة ذاتها تنطبق على كل افراد المجتمع وطبقاته فالكل محتاج للمنهج الوعظي الخطابي بشكل او بآخر ، والكل واعظ والكل موعوظ والكل متبني للمنهج الخطابي الوعظي اللاعقلاني والبعيد عن التحليل والتجريب . إذاً فإن المجتمع البدائي هو مجتمع متبني أساساً للمنهج الخطابي الوعظي بسبب بدائيته وبسبب حاجته الملحة لهذا المنهج وإدراكه أنه يحقق الربح ويجنب الخسارة ، وعندما يقوم هذا المجتمع بإنتاج الدولة ستزداد حاجته للوعظ والخطابة ، وتتعاظم هذه الحاجة ويزداد ربحها أكثر وأكثر بعد تأسيس وقيام الدولة وهكذا دواليك حتى يتحول المنهج الخطابي الوعظي إلى صفة اصيلة للدولة القديمة وللمجتمع الذي أنتجها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحركة الطلابية العالمية تتضامن مع فلسطين … الأبعاد و التداع


.. كيف تتطور أعين العناكب؟ | المستقبل الآن




.. تحدي الثقة بين محمود ماهر وجلال عمارة ?? | Trust Me


.. اليوم العالمي لحرية الصحافة: الصحافيون في غزة على خط النار




.. التقرير السنوي لحرية الصحافة: منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريق