الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطفولة المعدمة في سماء من خشب لزين العزيز

عامر موسى الشيخ
شاعر وكاتب

(Amer Mousa Alsheik)

2020 / 12 / 5
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


(1)
استهلال
تمثل مرحلة الطفولة لحياة الإنسان رحلة الاكتشافات الأولى للوجود الشاسع ، ولحظة التحسس الوجداني البريء للحياة ، وكنز الدهشة الجمالي ، والأحلام المستمرة ، واليد القوية الممسكة بالحياة .. مع التقدم العمري ، تتحول تلك العناصر إلى صور موضوعة في خزانة الذكريات ، يستلها في لحظات التذكر ، أو يستخدمها للمقارنة الحجاجية مع الواقع المعيش اليومي ، لتتحول إلى مقياس تقويمي ، بين الأزمنة ، متناسي البراءة الأولى ، ليحملها على واقع هو سيء في الأصل ، كان يتصوره جميل .. ولعل هذا التوصيف يمثل توصيفا تقريبيا لمراحل حياة الفرد العراقي . وفي الحديث عن الأدب العراقي نجد أن التصورات أعلاه انعكست في أغلب التجارب الإبداعية ، لاسيما الشعرية منها ، إذ نجد أن الطفولة ومفرداتها تمثل مظهرا من مظاهر أغلب التجارب الشعرية ، وأحد الأطر التي تجلت فيها الصور الشعرية .
(2)
سماء من خشب الطفولة

وفي تجربة الشاعر العراقي زين العزيز ، نجد أن هذا الأمر ماثل بصورة جلية وواضحة في ديوانه الأخير " سماء من خشب " والصادر عن دار تأويل ، السويد ، (2019) ، والذي ضم خمسة وثلاثون نصا شعريا . فنجد أن الديوان ومنذ عتبته الأولى يوحي بأن ثيمة الطفولة تهيمن على أجواء الديوان ، ولكن أي طفولة تلك التي يعشيها الطفل العراقي في العصر الراهن ، أو الطفولة التي عاشاها الشاعر ، في زمن مضى ، وهي طفولة موزعة بين حصار جائر ، واجتياح لبلاده تحول إلى إحتلال ، ومن ثم يشبُ هذا الطفل في حروب أهلية طائفية ، ثم اجتياح جديد ، ثم هجرة ، وتمزق وتشريد ، ببساطة مرّة نقول : أن هذه التوصيفات تمثل السيرة الحقيقية لأربعة أجيال عراقية ، تعايشت مع هذه المفردات ، وتتنفس معها رائحة البارود وسحب الدخان .
يضم ديوان زين العزيز ، تلك الصور ، التي كتبت بلغة بريئة ، تمثل روح الطفل الكبير بداخله ، كتبت ذاتها في عالم غير بريء ، بل متهم بكل الجرائم التي تعرض لها الطفل العراقي ، إن كان زين ، أو أقرانه في هذه البلاد ، ليقدم لنا الديوان صور متعددة عن هذه الطفولة المرتبكة .
(3)
الصورة الأولى العتبة

من العتبة الأولى العنوان ، ينتخب الشاعر عنوانا من عنوانات إحدى النصوص ، ليضعها في عنوانا كليا كبيرا وهو " سماء من خشب " ومن حيث هذا العنوان يتم الاتفاق مع المتلقي ، بأن الدهشة التي تتملكه هنا ، تشبه دهشة الطفولة ، فالسماء ليست من خشب !! ولكن وحده الطفل يتصور ذلك !! اذ يشكل عالمه من محيطه ، فالعالم لدى الطفل هو ما يعرفه فقط ، ألعابه و أقلامه وأوراقه هي التي تشكل عناصر الحياة ، ولأن الخشب قرين جيد بألعاب الأطفال ، تصور الطفل بأن السماء من خشب ولا غير ، وهذه الصياغة الذكية تبعث على الانتباه والتحضر والتهيؤ للسؤال : ماذا تحت هذه السماء المفترضة ؟.
لم يترك الأمر هكذا ، بل تم وضع العنوان بصورة عمودية ،لتمثل علو" السماء" التي أتت بلون أبيض ، تعكس بياض الطفل وأحلامه ، ليعقبها بلون أصفر يميل للخردلي اصطبغ به الحرف " من " ليمثل لون الحيرة وعدم الاستقرار ،و المرتكز على سواد مطلق وهو لون لفظة " الخشب " هذا التلوين الثلاثي ، يمثل تلك الطفولة الضائعة ، والأحلام غير المحققة التي تسربت مع تسرب العمر ، ويؤكد هذا التصور المفردة الثانية من مفردات الغلاف وهي الصورة التي أتت مجاورة للعنوان ومتوازية معه عموديا ، وهي صورة الشاعر نفسه " زين " رُسمت على شريحة من الخشب وغطت صورة الشاعر خطوط الخشبة التي تمثل عمر الشجرة المأخوذة منها وبالتالي تمثل عمره ، وأتى ضمن إطار عام للصورة على هيئة فأس ، بنظرة من عين الشاعر إلى العنوان ، لتتحقق الصورة الكلية ، بأن الذات الشاعرة ، ذات باكية على طفولة ضائعة كانت تحلم بأن لها سماءً من خشب مثلما كان يحلم ، لكن فأس السنوات قلعت كل شيء.
وفي الانتقال إلى المستوى الثاني من العتبة النصية نجد أن الإهداء لم يخرج عن اطار الطفولة ، إذ عمد الشاعر على كتابته ببراءة واضحة ، لم ينهك العبارات بتلوينات الاستعارات الثقيلة ، وهذا مبرر جدا ، لأن العمل مهدى إلى روح شقيقة الصغيرة التي فقدها وهي طفلة يقول :
" إلى قطر الندى
حزني الأول .. طفولة بكائي
أختي الصغيرة
لروحك الرحمة " .
إذن هي قطر الندى ، فإذا لم يكن هذا تصريح باسمها ، فهي ذلك القطر الذي يحبه الأطفال وهو يزين الزهور والأوراق في الحدائق في الصباحات الشتوية ، في صور من أجمل صور الطبيعة ، ليصرح بعدها بأن هذه القطرة قد رحلت عنه وعن هذا العالم ، لتشكل المعين الأول لمجمل أحزانه التي سوف تتراكم مع تقدم الحياة ، إلا أنه يصر على انها تمثل كل بكاء الطفولة ، وهذا يعكس صورة أخرى من صور بؤس الطفولة في العراق ، بأن اول بكاء لدى العراقي هو البكاء على فقد الأحبة ، ثم يصرح بأنها الأخت راجيا لها الرحمة .
إذن فأن العتبتين العنوان + الإهداء يمثلان مفاتيح شفرات العمل ، الذي يضمر الحزن والطفولة والضائعة أتت على هيئة نصوص شعرية .
(4)
الصورة الثانية متن مثقل بالضياع

بالانتقال إلى نصوص متن الديوان ، نجد أن حبل الطفولة ممتد ومرتب إلى النص الأول " بائع الفشار " وهو ما يمثل علامة مهمة من علامات تعلق الأطفال بهذا البائع الذي يزين تقاطعات الشوارع والأسواق ، ومدن الألعاب ، وعادة ما يكون هذا البائع صديقا لكل طفل يمرق منه ، وصورته لا تفارق مخيلة الطفل ، يعود بنا زين إلى ذلك البائع ، ويترك خبرات حياته التي خبرها وهو شاعر ، يترك كل شيء ويعود إلى اللحظة الأولى التي وقف أمام هذا البائع ويطلق البوح البريء :
" كنّا ثلاثة إخوة ،
تعلّمنا أن نحبّ كل شيء
من دون أن نلمسه ،
مثلا :
حبة الذّرة المفرقعة " ص (7)
هذه العودة التي أوقفنا عندها النص ، تمثل صورة كلية لنموذج عائلي ، ويعكس تربية أخلاقية ، مستمدة من المحبة الصافية النابعة من البيت العراقي ، محبة تتيح إعلان العواطف ولكن من دون عبث أو مس ، محبة عذرية بريئة ، ومن ثم يفتح لنا أفق تعدد هذه الأشياء المحببة وينهيه بنهاية صادمة حين يمثل لها بـ " حبة ذرة المفرقعة " وهذا ما يؤكد بساطة الأحلام النابع من الحرمان الحقيقي ، فهو والأخوة يحبون هذا الشيء البسيط جدا ولكنهم غير قادرين على مس هذا المحبوب ، بسبب الحرمان والفقر الذي وقف حائلا أمام تحقيق أي حلم ، وإن كان حبة من الذرة المفرقعة .
ويستمر في النص مستكملا التصور السابق والخاص بالتربية التي تُعلم ، وهذه المرّة ، تضاف له مرتبة ثانية من التعلم وهي : عدم السؤال :

" تعلمنا
ألا نسأل الجوع متى يرحل ؛
طالما نرى ضوء المطبخ خافتا " .
ينتقل مستوى النص هنا ، إلى منطقة تمثل فنتازيا الواقع العراقي ، فالجوع ضيف دائم يسكن الأمعاء والبيوت ، وليس من حق أحد سؤاله عن الرحيل ، وعدم الرحيل هذا مقرونا بالضوء الخافت ، والذي يمثل ما تفعله الأمهات من توهيم قصدي للصغار ، فالضوء في المطبخ يبعث بأمل بأن الجائع سيأكل ، ولطالما الضوء موجود ، فإن الأم فيه تعمل على إعداد ما يسد الرمق ، ولكن الأم لا تعود للأطفال بالأكل ، وهم بدورهم سيغفون من شدة الجوع والانتظار على أمل الضوء الخافت ، يمثل هذا المقطع ، صورة مثلى لما كان يعانيه أطفال العراق .
ومن ثم ، يستمر بنقل صور بؤس الطفولة العراقية ، ليفتح لها تواريخا متعددة ، ويسميها بالسنوات العجاف :
" سنوات عجاف سحقتنا
ولم تترك لنا سوى وجوه شاحبة " . ص ( 8)
لم يجد بدا من توصيف الزمن العراقي ، سوى استعارة لفظ " العجاف " من قصة يوسف النبي ومن ثم يوسع المعنى ليمنح السنوات سرافات مهمتها السحق على الإنسان ومحو أحلامه تماما ، وامتصاص أمانيه وجسده على حد سواء ، ليبقى بوجه شاحب ، لتكتمل صورة الحرمان تماما .
ثم يختم النص بفكرة العبث العام ، العبث بالإنسان والطفل العراقي معا ، الذي تحول إلى وقود لحروب السلاطين ، حتى كاد أن يكون نفاية من نفايات حروب العالم ، لينتهي كل شيء لديه ، فما ببالك بالطفولة :
" نحن الثلاثة
مثل أكياس مرمية
في مكان
كان يقف فيه بائع الفشار " .
تكتمل عناصر الضياع الحتمي والعمدي هنا ، بهذه النهاية المأسوية ، إذ أن الأطفال لم يحصلوا على الذرة ، وبقوا هكذا ، حتى أختفى البائع ، وهم تحولوا إلى شيء فائض عن حاجة العالم ، وهذا ما تفعله السياسيات العبثية التي حكمت هذه البلاد .

(5)
الصورة الثالثة الذات المسحوقة رمزا للطفولة المعدمة

ثمة محاولة ناجحة مكنت الشاعر من جعل ذاته – طفولته- محورا مركزيا يمثل جيلا عاش المحنة الانسانية ، لتكون الذات هنا هي الناطقة باسم الأقران ، وليس عن نفسه فحسب ، وهذا ما رمز له الشاعر بنصوص حملت ذكرى الأرقام – أرقام المواليد - وطبيعة التعامل معها بشكل عام ، ومرّة أخرى يعود في لتحديد سنة مواليده التي تمثل جيلا عراقيا بالكامل ، ففي نص " مصابون بعمى الأرقام " يكشف لنا عن جردٍ من المآسي التي عاشها العراقيون ، وهم يعدون أيامهم بوصفها السوء بعينه :
" أرقامنا الأربعة حظنا السيء ،
نلفظها تأريخ حرب ،
ونكتبها
على أنها أعياد ميلاد ،
أربعة أرقام لا أكثر
ملتصقة باسمائنا كالحشرات " ص ( 22)
يعلن هنا النص عن رفض مطلق لحياة العراقيين المحاطة بالسوء والمقرونة بتاريخ الحروب الضاغط على أعمار الناس ، وهنا يقدم النص دعوة للمتلقي العراقي على وجه الخصوص ليستذكر مواليده المكونة من أربعة أرقام وفقا لنظام التقويم السنوي ، وفي لحظة استذكار هذا الرقم ، حتما ستكون هنالك حربا قد اقترنت بمواليد العراقيين للعقود الأربعة الماضية ، إذ تحول هذا المقطع ، إلى شبه ( روزنامة ) عراقية تختصر مواليد العراقيين والحروب الخاسرة التي زُوجوا فيها عنوة ، وفي النهاية تسحق الذات الانسانية التي كرمتها الشرائع ، لتبقى منها فقط الأسماء دبقة بالدم ملتصقة بها أرقام المواليد مثل حشرات تعتاش على جثث العراقيين .
وفي نص آخر يخصص الشاعر هذه الفكرة للحديث عن نفسه وأقارنه ومن هو في عمره ، ليعود بنا إلى لحظة تاريخ مولده هو ، ومولد من هو بعمره ويحدد ذلك في صدر النص عبر صياغة العنوان بطريقة رقمية " 1985" وفي هذا النص ، يصرح الشاعر عن نفسه وفكره وذاته ببراءة مطلقة ، براءة طفل ولد في هذا التاريخ ، ورغم تطعيم الصورة بالخبرات المكتسبة إلا أن براءة الطفل بقت مهيمنة :
" أنا بائس ،
كما تعلم يا الله
أفتح يدي للريح
ولا أرى أحد يحضن قلبي " ص (29)
ومن غير وساطة أو حَدّ ما ، يصرح النص بالبؤس علنا إلى المطلق اللامتناهي ، ولكنه تصريح ضمن دائرة الإيمان القلبي الفطري ، ويحاول جلب صورة يد الطفل المفتوحة للحياة والتي تحاول مسك كل شيء ، نعم ، انها يد الطفل التي تنتظر المسك والأخذ بها دائما إلى الأحضان ، لكن الصورة العراقية هنا مقلوبة تماما عن المنطق السليم ، إذ أن اليد تبقى مفتوحة والا من ممسك بها ولا صدرا يحضن ، الأمر الذي يشي بمستقبل مجهول وضائع .

(6)
خاتمة
تمثل هذه المجموعة بالنسبة للشاعر زين العزيز ، مرحلة من النضوج الشعري ، ومن ثم فإن قراءة هذه المجموعة تتطلب قراءة المكان الذي كتبت بها أغلب نصوص هذه المجموعة ، فهي مجموعة شعرية عراقية ، كتبت بأرض غير عراقية ، إذ أنها تمثل المرحلة الجديدة من حياة الشاعر الذي غادر بلاده ، ليستقر في دولة أوربية ، تفصله عن بلاده مكانيا ، إلا أن روحه الشاعرة بقت معلقة بمكانه الأصلي ، لذلك أتت هذه المجموعة محملة بصورة الماضي ، التي استحضرت معها صور الطفولة ، فكان ديوان " سماء من خشب " ديوان غربي أوربي بلغة ألبسها الشاعر ثوب الشعرية العراقية بكل تصوراتها وانفعالاتها وآلامها التي حملتها النصوص .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال