الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثالث

دلور ميقري

2020 / 12 / 6
الادب والفن


1
الأيام السابقة لانطلاق المحمل الشريف، إتسمت بالهدوء وباستمرار الطقس الربيعيّ الجميل في آنٍ معاً. وكان الباشا قبل دخوله إلى المدينة ( وذلك في موكب أقل هيبةٍ من موكبه الأول )، قد سرّحَ الجيوشَ المحتشدة لنصرته على الإنكشاريين. إذ عمد هؤلاء الأخيرين، المتحصنون في القلعة، إلى التخلّي عن المتسلّم السابق تنفيذاً للإتفاق المعقود بوساطة الأعيان وبضمانة حضرة شيخ الإسلام. المتسلّم، أخذ جماعته وإتجه معهم إلى ناحية جبل لبنان ولم يعُد يظهر لهم أثر. لكنهم في طريقهم، عمدوا إلى نهب وسلب بعض قرى برّ الشام كي يشفوا غليلهم. الباشا بدَوره، وكان كما علمنا يتحرّق للانتقام من خصمه، فإنه إكتفى بالتنفيس عن غضبه بعدد من المحكومين بالإعدام، الذين قطعت رؤوسهم في حضرته. كذلك أمرَ بكبس دار المتسلّم، لمصادرة كل ما تحتويه؛ وكان من الموجودات أرزاقُ الخلق، المنتشلة عقبَ طوفان نهر بردى. لكن لم يُدعَ أحد من المتضررين لأخذ شيء من تلك الأشياء المُصادَرة، ما فاقمَ من النقمة على الباشا بين العموم.
يتعيّنُ القول، أنني دُعيت لمرافقة المحمل الشريف لأداء مناسك الحج. حضرةُ شيخ الإسلام، هوَ مَن طلبَ مني ذلك بعدما علم أنني لم أكمل آخر الفرائض برغم أن سنّي قاربت الثلاثين. أعربَ كذلك عن استعداده لتكفل مصاريف الحج لصديقنا برو، لولا أنّ هذا أبدى زهده بالأمر. برو، ألحّ عليّ في المقابل أن أتراجع عن مرافقتي للمحمل الشريف. تذكّرت عندئذٍ ما جرى على لسانه، بشأن مصير شيخ الإسلام، وأنه متواشجٌ مع نبوءةٍ محتملة عن مخاطر طريق الحج. فلما طلبتُ منه إجلاء العتمة عن الموضوع، فإنه أجابني بنبرته الساخرة: " ألن تمدّني، كوسيلة للاستخارة، بخصلةٍ من شَعرك؟! ". هكذا كان صديقي؛ من الصعب أن تُدرك ما لو كان جاداً أم هازلاً حتى في أحرج الأوقات. كذلك كان أمره، لما سألته غبَّ عودته من لقاء السلطانة، عما تم الحديث بينهما. كان قد آبَ يومئذٍ من ناحية الحرملك بخطىً متعثرة، كما لو أُسقيَ خمراً، شاردَ الفكر متبلبلاً. إكتفى إذاك بالقول، مومئاً إلى ناحية الأزهار المغروسة على نسق واحد على جانبيّ الممشى: " إنها تفوقُ فتنةَ ورود الربيع؛ بشرةٌ نقية وناصعة كالحرير، عينان لؤلؤتان، شعرٌ بلون الكستناء، وجيدُ غزال ". أدهشني أيضاً، احتفاظه بعدُ بصرّة الحرير، المحتوية خصلة من شَعر السلطانة، وذلك عندما أنهى كلامه بإخراجها وشمّها وتقبيلها. " النبي كيكي "، ربما شعرَ بالحب لأول مرة في حياته. لكنه شعورٌ ثقيل الوطأة، ولا غرو، قمينٌ بأن يسحق صاحبه سحقاً لو وصل خبره لأولي الأمر.

لقد وقعتُ بنفسي في التجربة، ولو أن قصتي لم تلفّها عتمةُ الغموض والألغاز. كان ذلك قبل وفاة والدي ببضعة أعوام، وكنتُ أرافقه إلى المدرسة الشامية الكبرى. كنتُ عائداً في أحد الأيام من دروسي، تاركاً أبي يواصل نقاش أحد المسائل مع تلاميذه، لما رأيتني أتوه عن طريقي المعتاد. في آخر دربٍ ضيّق، تفطّنتُ إلى أنه يُفضي إلى الطريق الصحيح، كان ثمة منزل بصدر المكان، يتشكّل تحته قنطرة معتمة. قبيل وصولي إلى القنطرة ببضع خطوات، إذا بفتاة تظهرُ في مشربية تلك الحجرة، وما لبثت أن أنحنت قليلاً كي ينهمر شعرها إلى جانب وجهها. لم تكن، بالطبع، بفتنة السلطانة؛ وكان وصف صديقي لها صحيحاً لأنه مسندودٌ من روايات أخرى ـ لكنها كانت جميلة حقاً. في تلك الليلة، جفاني الوسنُ إلى ساعة متأخرة بسبب هيمنة صورة الفتاة. لما تكرر ظهور الفتاة في اليوم التالي وبنفس توقيت عودتي من المدرسة، لم أعدم الجرأة للإشارة لها بوضع الإصبع على عيني ومن ثم على فمي؛ أي أنني أريد مشاهدتها عن قرب والتحدث معها. بيد أنها مخاطرة كبرى، يصعب على فتاة مسلمة القيام بها دونَ أن تحسب حساباً للفضيحة والعار وربما القتل. بدلاً عن المخاطرة، فكّرتُ، لِمَ لا أطلبُ يدَ الفتاة من أهلها.
" أبتاه، كنتَ في الفترة الأخيرة تلحّ عليّ بإكمال نصف ديني، أليسَ كذلك؟ "، ابتدأتُ بمخاطبة الوالد عقبَ عودتنا من الدروس. كان إذاك في حجرته يقرأ، فوضع الكتاب جانباً وقد بدت على ملامحه أمارات الاهتمام. عند ذلك، قصصتُ عليه خبرَ الفتاة مع قليل من الكذب. إذ إدعيتُ أن صديقاً يعرفُ أهلها، وهوَ مَن أعلمني بأن لديهم ابنة بعُمر مناسب للزواج. بيد أن علاماتٍ، ارتسمت بدَورها على سحنتي، ربما تسنى للوالد قراءتها. قال لي بنبرة دعابة: " يبدو أن صديقك وصفَ لك أيضاً جمالها، وأن شفتيها بلون القرمز وشعرها كالعقيق وبشرتها ماسيّة؟ ". كان رجلاً منفتحاً وليسَ متزمتاً، ما جعلني أجيبُ مع شيءٍ من الحَرَج: " في الحقيقة، لم أرَ سوى وجهها وكانت إذاك وراء نافذة حجرتها ". بقيَ قلبي يرتعشُ، لحين أن انتهى أبي من التفكير. وعدني أن يسأل عن أسرتها، وذلك لما وصفت له بدقة موقع منزلهم. قصة عشقي، انتهت بشكل سعيد. لكن وا أسفاه، لم أهنأ بحياة مديدة مع الفتاة: توفيت متأثرةً بآلام الوضع، وما لبث طفلها أن لحقها بعد أيام قليلة. منذئذٍ زهدتُ بسيرة الزواج، وبقيت ذكرى امرأتي غصّة في القلب.

2
كنتُ ما أفتأ أدرّب قلبي على البرود، لما أشتعل قلبُ ربيب الأحاجي بأوار العشق. لقد كان هذا أيضاً أحد وجوه تناقضات شخصيته، المنتمية لعصر آخر. لكنه لم يكن متطلّباً في موضوع معشوقته، ولا كان بمقدوره أن يكون كذلك على أيّ حال. كان في الأيام المعقّبة تعرّفه على معبودته ( وأعني الأيام السابقة لرحلة الحج )، يكتفي بفتح الصرّة الصغيرة وإخراج خصلة الشَعر لشمها وتقبيلها. دأبَ عندئذٍ على التأكيد، أن عطر السلطانة يستفحل مع مرور الوقت بدلاً عن الاضمحلال والتلاشي. الجانبُ الملغز في شخصيته نفسها، رأيتُ أنه يضمحل ويتلاشى منذ حظوته بلقاء سلطانة قلبه. ولكن يبدو لي أيضاً، أن الملاحظة الأخيرة فيها بعض المساهلة: لعله كان بصدد إغناء هذه المرحلة من حياته بتجربة جديدة كل الجدّة، هوَ مَن تجاوز سنّ الشباب وبات على أبواب الكهولة.
هوَ ذا الصديقُ الآخر، الملفوف باللون الأزرق، يُطالعني بملامحه الحيية والحذرة. حالما جلسَ، قال لي باسيل متنهداً: " الشكر لله أنني رأيتك بخير، عقبَ إنزياح الجائحة عن حاضرتنا ". كان يقصد بالطبع خطر إستباحة الشام، الذي أمكن تفاديه أخيراً. وأنا في أوج الفتوّة وحماستها، لم أقدر على كبح جماح نفسي، فرحتُ مُتباهياً أقصّ على مسمع صديقي ما جرى في الأيام المنصرمة ودَوري في إنهاء فتنة المتسلّم دونَ إراقة دماء. بيد أنني لم أستطع وقف لساني عن الثرثرة، لما سألني عن صديقنا العملاق. أخبرته عند ذلك بأمر السلطانة، طالباً منه أن يتكتّم عليه. كان من النوع الحافظ للسرّ، علاوة على أنه عدّني دوماً بمثابة المنقذ لحياته. ثم أختتمتُ حديثي بخبر قرب سفري إلى الحجاز، لتأدية مناسك الحج. سألني إذاك عن مخاطر الطريق، ثم استدرك بالقول: " أعلمُ أنّ الأعرابَ لا يجسرون على مهاجمة المحمل الشريف، بينما نُمنع نحن من الحج إلى كنيسة القيامة في فلسطين بسبب كثرة قطّاع الطرق "
" بلى، الطريق إلى الحجاز أكثر أماناً لأن الأعرابَ يطيعون كبيرهم. بينما قطّاع الطرق يعملون كعصابات منفردة، فلا يُمكن هزيمتها أو رشوتها "، علّقتُ على كلامه. كعادته، راحَ من ثم يقصّ عليّ أخبار طائفته. قال أن البطريرك تم نفيه ثانيةً إلى جبل لبنان من قبل الوالي الجديد، الذي يريد أن يظهر أمام أهالي الشام كعدوّ لدود للكفّار. نطق الكلمة الأخيرة بمرارة. لكنه استعارَ نبرةً ساخرة، لما تحوّل إلى موضوع آخر: " وحاكم جبل لبنان، الأمير بشير، كان ابنه يتحكّم عند الخوارنة. فلما عجزوا عن شفاء الابن وتَنيّحَ [ أي توفيَ ـ ملاحظة المحقق ]، فإن الأميرَ من شدة حزنه وسخطه أراد أن يتحوّل إلى مذهب الدروز. لحُسن الحظ أن البطريرك كان بضيافته في تلك الفترة، وهوَ مَن أقنعه بالعدول عن التصنّع بديانته وخسارة آخرته ". أراد باسيل أن يدعني، قائلاً أنّ عليّ التجهّز لرحلة الحج. فنهضت أيضاً من مكاني، مقترحاً عليه قضاء السهرة لدى صديقنا العملاق: " وربما تكون المرة الأخيرة، نلتقي فيها معاً قبل سفري ". خرجنا إذاً، وكان الوقتُ يميل إلى الغروب. شئنا ترك مسافة بيننا، كيلا نُحدج بنظرات ساخطة ومستنكرة لو رأى الفضوليون رجلاً مسلماً يسير برفقة شاب عليه اللون الأزرق.

لما فتحَ برو البابَ، كان يحمل شمعة مشتعلة بيده. سرَّ بقدومنا، وقال أنه كان ضجراً. هذه أيضاً من تحولات الحب، كون الرجل عاشَ أغلب أعوام عُمره وحيداً وكان برماً بصحبة الناس. قلت له، معلّقاً على كلامه بنبرة مداعبة: " الجميع يعتقدونَ أنّ النبي كيكي يقضي الوقتَ بالتبتل، بينما هوَ في حقيقة الحال يُمارس طقوسَ العشق في خياله ". لما صارَ بحذوي، فيما يضع الشمعة على طاولة متهالكة، انتبهتُ إلى رائحة الخمر تفوح منه. كانت هيَ المرة الأولى أيضاً، يُقارف ذلك المنكر. رداً على ملاحظتي، قال باستهتار: " هنا في الأرض فردوسٌ وهناك في السماء فردوسٌ ". فهمتُ ولا شك قصده، فقلتُ: " في الفردوس السماويّ يُكافأ المؤمن بنهر من الخمر، لكن بشرط أن يكون في حياته بعيداً عن مقارفة المنكر "
" كيفَ تكون الخمرُ حراماً في الدنيا وحلالاً في الآخرة؟ "
" عجباً من سؤالك، وأنتَ المسلمُ الصالح "
" لكنك لم تُجب على سؤالي "
" لقد حُرّمت أولاً كونها تحولُ دونَ المؤمن وصلاته، ثم حُرّمت نهائياً لأنها تذهب بعقله "
" ها أنا ذا أتحدث إليك مخموراً، وأقارعك الحجّة بالحجّة. أليسَ صحيحاً؟ "
" مجرد سؤالك، المشكك بالحرام والحلال، دليلٌ على فقدانك الوعي "
" شخصٌ يخشى من الأسئلة، يجعل الآخرين يشكّون بقوة إيمانه وحجّته "
" إذاً أكتفي بهذا القدر من المجادلة، كيلا أحمّلك المزيدَ من الذنوب "، قلتُ له بزعل. مع ذلك، كنتُ أعرف أنه في حالة من الوجد جعلته لا يقاوم إغراء الخمر. جواباً، رفع إصبعه إلى ناحية الأعلى: " علينا أن نتمتع بالدنيا، كأننا نعيش أبداً. ذنوبنا، في الوسع أن تمحى برحلة حج؛ فلِمَ نحرم أنفسنا من المتع؟ بل ثمة حديث شريف، يؤكد أنه مهما فعل الإنسان من الموبقات فإنه يدخل الجنّة لمجرد إشهاره الشهادة قبيل وفاته. ليرحمنا الله برحمته، إذاً ". كنتُ معتاداً على أحاديثه، المذكّرة بشطح وتجديف أصحابنا أهل الخرقة الصوفية. لكن استيائي الانَ، مردّه وجود الشاب النصرانيّ في أثناء الجدل. مع أنني لطالما أكبرتُ في الشاب الذوق والأدب، بحيث أنه لم يأتني مرةً وفمه ملوّثٌ بالشراب الملعون.

3
في صباح اليوم التالي، بكّرتُ كالعادة في الذهاب إلى دروسي عقبَ تناول فطور خفيف. كون المدرسة الشامية تقع في حي سوق ساروجة، الذي أقيم فيه، كنت أقطعُ بمتعة المسافة إليها مشياً. لقد سقط القليل من المطر أثناء الليل، مخلّفاً بعضَ البرك هنا وهناك على الدرب. لكن الشمسَ بكّرت في البزوغ، لتشيع الدفء في أوصالي. وهيَ ذي المنارة، الأيوبية الطراز ككل ما في المدرسة، تطالعني عن قرب بسموّها وضخامتها. المنارة، الخالية في المقابل من العناصر الزخرفية، يعلوها شرفة خشبية مربّعة، مغطاة بمظلة من ذات المادة، ذروتها على شكل البصلة ورأسها متوّج بالهلال. عليّ كان أن أودّع طلبة العلم، بما أنني أتجهّز للمغادرة مع المحمل الشريف إلى أرض الحجاز الطاهرة. كنتُ أعطي الدروسَ في جانب من الرواق، المفتوح على الأقواس المرتزة على الأعمدة الحجرية ذات التيجان الجميلة. على ذلك، قضينا الوقت في الأحاديث المتنوعة، المتفرعة عن موضوع الحج.
غبَّ الفراغ من صلاة الظهر، فاجأني حضرة شيخ الإسلام بحضوره إلى المدرسة. كان برفقته رجلٌ متين البنية، قاتم البشرة وبملامح حادة. قدّمه إليّ الشيخ بصوت خفيض، بالقول: " هذا السيّد حكيم، طواشي السلطانة، أراد مشاهدة أعظم مدارس الشام طرّاً ". عجبتُ من اهتمامه بمرافقة الخصي، وهوَ ذو المنصب الرفيع والقدر الجليل. آنذاك، لم أكن على معرفة بأهمية هذا النوع من الخدم في قصور تخت الخلافة، الذين كانوا أحياناً اليد القادرة على خلع سلطانٍ وتنصيب آخر بمحلّه. لكنني أظهرتُ الود للضيف، ورافقته بدّوري كي يُعاين أقسام المكان. مشينا في ظل عقود الرواق، لنخرج إلى صحن المدرسة الواسع والمستطيل الشكل، المحاط بجدران عريضة، تنغرس في حديقته أشجار النارنج والأترج. وما لبثنا أن صرنا بمواجهة القبة العظمى، الثاوي تحتها ضريحُ مؤسسة المدرسة؛ وهيَ ستّ الشام، الشقيقة الصغرى للسلطان صلاح الدين. صرحُ القبّة من الداخل، كان حافلاً بتزيينات النقوش والزخارف، المُستعمل فيها الحجر والجص والمرمر والخشب، حُفر في جدرانه النوافذ والكوى، الجالبة لنور النهار. بعد خروجنا من الصرح، سألني الطواشيّ عن أوقاف المدرسة، فأخبرته أنها غنية للغاية وربما لم يطرأ عليها تغيير منذ عهد مؤسستها. ثم أضفتُ بنبرة احتفاء: " لا بد أن تخت السلطنة تحوي العديد من أمثال هذه المدارس، أليسَ كذلك؟ "
" طلبة العلم لديهم معاهد خاصّة، يتلقون فيها دروساً بشتى الاختصاصات والتي تؤهلهم مستقبلاً للعمل في وظائف الدولة. أما المساجد، فإنها لا تعدو عن كونها دوراً للعبادة "، أجابَ الطواشي. تدخل الشيخ، ليصحح معلومات الرجل: " لا تنسَ التكايا والزوايا، وهيَ التي يتخرج منها الفقهاء والوعاظ ومنهم مَن يرتقي لوظيفة المفتي والقاضي ". سألتُ الشيخَ عندئذٍ عن فرق الصوفية، وما لو خصصت لها أمكنة معينة. أجاب بشيء من الامتعاض: " بالطبع اهتم السلاطين بالصوفيين، وبالأخص جماعة الولي بكداش، الذين يتبع نِحْلتهم قسمٌ كبير من عسكر الانكشارية. لكن أكثر العامّة في الأستانة والأناضول يتبعون عنعنات الطريقتين اليسوية والقادرية، لأنهما الأقرب إلى المذاهب السنّية "
" قرأتُ مخطوط رحلة ابن جبير الأندلسي، وفيها يذكر أن صلاح الدين، شقيق ست الشام صاحبة هذه المدرسة، بلغ به العناية بالصوفيين أنهم أسكنهم في دور شبيهة بالقصور "
" نعم، لا بد أن الصوفيين في زمنه كانوا أقل غلواً في ممارسة شعائرهم مما هم عليه الآن. مع ذلك، ظهرَ في ذلك العصر بعضُ كبار الصوفيين، كالسهروردي، الذي سبّبَ شطحه في أمور العقيدة بصدور الحكم بقتله "
" سيّدنا الشيخ، أيّ غلو تقصد بشأن صوفيي عصرنا؟ "
" الكثير منهم، وصلوا بغلوّهم حد شرب الحشيش والميل للطرب والموسيقى. يبررون مسلكهم، بزعم أن تلك وسائل للاتصال بالخالق. بل إن بعضهم يُعاشر الغواني والغلمان، مُدّعين أن الله وعد المؤمنين بهم في فردوسه. معاذ الله من كل ما يأفكون "، رد الشيخُ بازدراء. كنا عندئذٍ قد خرجنا إلى صحن المدرسة، الذي يتوسطه بركة كبيرة تستعمل للوضوء. قلتُ مغيّراً مجرى الحديث: " أتعشمُ، يا سيّدي، أن تقبلوا دعوتي للغداء في منزلي المتواضع ". حرك رأسه باتجاهي، بحيث سقطت لحيته المهيبة على جانب من كتفي، وقال: " بل كان في ذهني، أصلاً، دعوتك على الغداء في القصر ". سكتَ قليلاً، ثم أردف مبتسماً: " وبطريقنا نجلبُ صديقك، الولي الكرديّ، كون السلطانة مهتمة بلقائه مجدداً "
" أعتقد أنه الآنَ في طريقه للسوق، ليصيب شيئاً من الطعام، لكنني أعرفُ أين أجده "
" أعجبُ من عمله كعتال في السوق، بينما كان في وسعه العيش كالأعيان لو شاء؟ "، تساءل الشيخُ وكنا الآنَ قد أضحينا خارج المدرسة. جواباً، ذكرتُ له سجايا مَن يدعوه العامّة ب " النبي كيكي "؛ ومنها تعففه عن أخذ الهبات والهدايا، إلى إصراره على تحصيل لقمة عيشه بالكد طوال النهار. تمتم الشيخُ وهوَ يهز رأسه: " هذه هيَ أخلاق الولي الصوفيّ، الحقيقيّ ".

4
فطنتُ لسبب دعوة الغداء، وأنها متواشجة مع رغبة شيخ الإسلام بمعرفة معلومات جديدة عما سبقَ ودعاه " كنز النبوّة "، الذي قال أن السلطان بنفسه يهتم بالبحث عنه. سأخيّب أمله، وذلك لما أنفردتُ معه عقبَ تناولنا الطعام. وكان برو قد ذهب مع ذلك الخصي إلى جناح السلطانة، الكائن في الحرملك. قلتُ للشيخ، لما سألني ما لو نم إليّ خبرٌ جديد يخصّ الكنز: " في حقيقة الحال، أنني غفلت عن مفاتحة صديقي بالأمر في غمرة مشاغلي بالتحضير لرحلة الحج ". كنا إذاك نجلسُ في جناح مخصصٍ لإقامة الشيخ بقسم السلاملك، وكان يملك مدخلاً من ناحية الحديقة. استدركتُ بالقول، لما عاينت ما لاح من أمارات الضيق على سحنة المضيف: " موعدنا معه هنا، بعدما ينتهي من لقاء السلطانة، وفي الوسع بحث المسألة معه "
" طلبتُ منك تحرّي المسألة معه، لأنني لحظتُ تحفّظه مع أصحاب المناصب "، رد عليّ بنبرة تأنيب. قلت بسرعة، وأنا أضع فنجان القهوة على الطاولة: " نعم، هذا ما سأفعله حالما أجتمعُ معه اليوم ". بعد هنيهة من الصمت، تشجعتُ على سؤال الرجل: " هل ما زال لتلك الأشياء، التي أسميتها كنز النبوّة، من فاعلية في يومنا؟ ".
رد الشيخ بنبرة متحفّظة: " لا أعتقد ذلك، كونها أدواتٍ بُذلت لتكون معجزة لكل نبيّ في عصره. فلا يُمكن الآنَ، على سبيل المثال، إمتحان عصا سيّدنا موسى لأجل شق البحر أو لتغدو حيّةً ".
عدتُ للتساؤل: " وإذاً، ماذا يرى مولانا السلطان من نفع تلك الأدوات؟ ". تنحنحَ المضيفُ، ثم ثبت عيناه بعينيّ: " مجرد وجود كنز النبوة في تخت السلطنة، يعطي القوة والبركة للدولة وهيَ في صراعها مع الكفّار، الذين استغلوا ضعف بعض السلاطين السابقين لقضم الكثير من ممتلكاتنا. كذلك يعوّل مولانا على تغيير العقيدة العسكرية برمتها، بعدما ثبت عجز النظام القديم القائم على الإنكشارية. إن آغاواتهم باتوا منذ بداية القرن المنصرم لا هم لهم سوى النهب والسلب، كذلك يتدخلون بشكل مستمر بشئون الدولة ليخلعوا هذا السلطان أو ليستبدلوا ذاك الصدر الأعظم. هذا حالهم أيضاً في الولاية الشامية، المعدّة الأغنى بالنسبة لخزينة الدولة، ولولا تمردهم لما سمح السلاطين للولاة باستحواذ فرق المرتزقة؛ كالدالاتية واللاوند والسكبان وغيرها ". بينما كان يتكلم، ظهرَ طواشي السلطانة عند عتبة القاعة. خاطبَ الشيخَ بالقول، وعلى طرف فمه ابتسامة: " النبي كيكي، غادر القصرَ منذ قليل. أخبرته أنك تود التحدث معه، لكنه أعتذرَ بأنه يشعر بالارهاق ويود الراحة في مسكنه ". قمتُ أستأذن بدَوري، مؤكّداً للمضيف أنني سأمر على صديقي مساءً. قال الشيخ بشيء من الحرَج والتردد: " حسنٌ، ومن الممكن ألا نلتقي سوى بعد أيام ثلاثة عندما ينطلق المحمل الشريف ".

مساءً، مرّ علي باسيل، لكنني أظهرتُ أنني متعبٌ كيلا يبقى مطولاً. كنتُ أود الذهاب لوحدي إلى مسكن برو، ولم أرَ من المناسب أن يسمع صديقنا النصرانيّ مسألةَ الكنز. مباشرةً عقبَ مغادرته منزلي، تهيأتُ أيضاً للتحرك. وإذا برو يظهرُ بمجرد فتحي البابَ، وكان شاردَ الذهن تماماً. سألته، ما لو التقى باسيل في طريقه. فغمغم بالنفي، وما لبثَ أن دخل إلى حجرة الجلوس وهمد فيما كان يتنهد بصوتٍ مسموع. قال بعد قليل من الصمت: " جئتك لأنني لم أطق البقاء لوحدي مع أفكاري، المتلاطمة برأسي كما تفعل الأمواج بصخور الشاطئ "
" لديك إستعارات جميلة، وبقيَ أن تبدأ بكتابة قصائد الغزل "، علّقتُ مبتسماً. رمقني بنظرة سريعة، ثم عاد وأطرق برأسه وبقيَ ساكتاً. تابعتُ معابثته، فسألته عن الصرّة الصغيرة، ولِمَ لم تفده في لحظات الوحدة والقنوط. طفقَ محتفظاً بالصمت، ما جعل فضولي يشتعل لمعرفة ما جرى بينه وبين السلطانة. عند سماعه اسمها، أرتعشَ مثل ذبالة ضوء القنديل. لكنه فاجأني بالقول: " أذعنتُ لطلبها، وسأرافقها في رحلة الحج "
" مهلاً، مهلاً! هل ستكون في معيّتها بصفة الطواشيّ أم ماذا؟ "، تساءلتُ بين الجد والهزل. أوضح بالقول، وكان ما يني شاردَ الفكر: " أعني، سأكون برفقة قافلة الحج ". سُعدت كثيراً بالخبر، كوني سأحظى برفقة معتبرة في خلال الرحلة الطويلة، الملأى بالمخاطر والكثيرة المشاق. عدتُ أسأله، ما لو تعهّدت السلطانة أمرَ تكاليف رحلته. أجاب باقتضاب: " بالطبع ". خاطرٌ ومضَ في ذهني، وكان على خلفية المحادثة الأخيرة مع شيخ الإسلام: " هل فاتحتك بمسألة كنز النبوّة؟ "
" أيّ كنز، هذا؟ "
" لا بأس، يبدو أن ذلك لم يحصل "، أجبتُ بسهوم. أمام نظراته، المستفسرة، ابتدأت بتفصيل ما جرى بيني وبين الشيخ عند انفرادي معه بالقصر في مناسبتين. ثم أختتمتُ بالقول: " والشيخ يعوّل على قدراتك الخفية، لمعرفة مكان وجود الكنز ". نهضَ من مكانه، فتناول كوز الماء وراحَ يعبّ منه حتى بلل صدره شبه العاري. آبَ إلى مجلسه، وما عتمَ أن قال بنبرته الساخرة المألوفة: " لو كان الكنز موجوداً حقاً، فإنّ خيرَ مكانٍ يُحفظ فيه هوَ فعلاً المسجد الأمويّ "
" لم تأتِ بجديد، يا صاحبي "، كان ردي ساخراً أيضاً كوني تكلمتُ عن ذلك الاحتمال نقلاً عن لسان الشيخ. هزّ رأسه موافقاً، وما لبث أن قال بلهجة جدية: " قبة الخزنة في المسجد، يُحفظ فيها الوثائق والمخطوطات. وبما أن الكنز لم يوجد هناك، فبالوسع الحفر تحتها مباشرةً؛ ثمة، أين مركز أعمدة القبة، الثمانية ".

5
أفقتُ في اليوم التالي، وكانت أشعة الشمس تغمر الحجرة. استفاقتي المتأخرة، إنما لكوني سأنقطع عن الدروس لحين عودتي من رحلة الحج. في أثناء تناول الفطور، الذي شاركني فيه خادمي، كان ذهني مشغولاً بمسألة كنز النبوّة، وكيفية لقاء شيخ الإسلام في هذا الشأن. كنتُ مضطرباً أيضاً لقرب وقت إنطلاق الرحلة، أسأل الخادم بين فينة وأخرى عما لو نسى شيئاً يُمكن أن يضاف لصرّة السفر. ولأنني متعطلٌ اليومَ، قررتُ أداءَ صلاة الظهر في مسجد الورد، المجاور. إلى ذلك الحين، رحتُ أتجول في حديقة المنزل وكانت مزدهية بحلّة الربيع، يتطاير عبرَ سديمها الطيورُ والفراشات والنحل والزنابير، وكل منها يُضيف لحنه الخاص في هذا الطقس الربيعيّ البديع. لكنّ أصواتاً أخرى، صادرة من الخارج، ما لبثت أن طغت على ألحان الطبيعة.
" ثمة معركة في حي العمارة، يتواجه فيها الأورطات مع الوجاقات "، جاءني خادمي لاهثاً بالخبر. كان قد ذهب إلى السوق، كي يجلب ما يلزم للغداء، فعاد من منتصف الطريق بيدين خاويتين. تساءلتُ، وأنا أصيخُ السمعَ بقلق: " أصوات إطلاق البارود قريبة، ولا يُمكن أن تكون آتية من ذلك الحي؟ "
" ربما اشتعل البلدُ كله في الأثناء "
" ألم تحصل على معلوماتٍ ما، عن أصل العراك؟ "
" بالطبع حصلتُ، يا سيّدي "، رد الخادمُ بتباهٍ كمألوف عادته عندما ينقل إليّ الأخبار. غيرَ أنه أستدرك بنبرة أخرى، تعبّر عن الخوف: " أرى أن نسير إلى المدرسة الشامية، فلعل قوات اللاوند تجتاح الحي إنتقاماً لما جرى في العمارة ". هدّأت مخاوفه، بتذكيره أنني أعرف آمرَ تلك القوات. ثم عدتُ أستفهم منه عما يعرفه من معلومات، تخصّ النزاع. راحَ عندئذٍ يقصّ ما سمعه، بعدما إتخذ مجلسه قبالتي في حجرة الجلوس: " المشكلة بدأت مساء الأمس، عندما احتفلت كبيرةُ الغانيات بشفاء عشيقها، وهوَ من آغاوات اللاوند، باستعراض مكشوف في الدرب إشترك فيه عدد من نساء طائفتها مع الرقص والغناء وأشياء أخرى غير لائقة. اليوم صباحاً، ألقيَ القبض على الآغا وعشيقته. القاضي، حكم على المرأة بالموت بطريقة تجعلها عبرةً لرفيقاتها. لقد ألقوا بها من أعلى منارة المسجد الأمويّ؛ وأعني المنارة، المربّعة الشكل. ما جعل رفاق الآغا السجين يتحركون، فداهموا أولاً منزل القاضي. لكن الرجل هربَ إلى القلعة، طالباً الحماية على العادة المعروفة. وبالرغم من إطلاق سراح ذلك الآغا، فإن المعارك نشبت بين الأورطات والوجاقات، فتبادلوا الهجومَ على مقرات بعضهم البعض "
" لم نكد ننتهي من مشكلة المتسلّم، لتأتي الآنَ مشكلة القاضي "، علّقتُ بكرَب. بقينا على حال من التوجّس في الساعات التالية، بحيث أننا سلونا أمرَ طعام الغداء. مع حلول العصر خفتت أصوات إطلاق البارود، ما جعلني أوجّه الخادم لشراء طعام حاضر من السوق. بيد أنه عاد مرةً أخرى خاليَ الوفاض، كون السوق بقيَ مغلقاً بسبب المعارك. هكذا اكتفينا بما لدينا من خبز اليوم السابق، فتناولناه مع الزيتون والجبن. بحلول الليل، عم الهدوء تماماً في الأجواء. غير أنني بقيتُ كالأسير بين جدران المنزل، متضايقاً من الصمت والوحدة أكثر مما شعرتُ به نهاراً مع الهواجس والقلق. تمنيتُ عند ذلك لو أنّ أحد الأصدقاء يحضر إليّ؛ مع علمي بصعوبة هذا الأمر، بالنظر للأوضاع المضطربة.

يومان آخران، أمضيته كالمحاصر في المنزل، وكانت الحركة في الخارج على نفس المنوال. لكنني كنتُ أستمدّ الأخبارَ من خادمي، وكان يتصرفُ في كل مرةٍ كما لو أنه مشاركٌ في المعارك. في اليوم الثالث، كان النزاعُ قد حلّ بين الأورطات والوجاقات، ثم حان وقتُ إنطلاق المحمل الشريف. عقبَ صلاة الظهر، حضر صديقي برو وما لبثنا أن خرجنا والخادم بأثرنا يحمل صرري، اللازمة لرحلة الحج. هذا الأخير، كان قد استأجرَ جملاً من صاحبه كي أسافر على متنه. لما سألتُ في خلال الطريق رفيقَ الرحلة، عما أعدّه هوَ الآخر، أجابني باقتضاب: " قيل لي، حَسْب، أن أنضم للقافلة ".
المحمل الشريف، كان سينطلقُ من أمام قصر الوالي، الذي سيسير على رأسه بصفته أيضاً أمير الحج. ثمة، وعلى طول الدرب، أقيمت الزيناتُ وتجمّع الكثيرُ من أهالي المدينة على وقع طبول الموكب. كان خادمي قد ألحق الصررَ بظهر الجمل، المخصص لسفري، ويقفُ منتظراً أوامر أخرى. كنتُ ما أفتأ قلقاً بخصوص رفيق الرحلة، بينما هوَ غير عابئ بأيّ هم. كان يتفرجُ على مكان الحفل، الحافل بالزينة والسرادقات المقامة لإطعام المساكين. بينما نحنُ كذلك، إذا بطواشي السلطانة يظهرَ على حين فجأة. غبَّ إلقائه السلام، توجّه لرفيقي بالقول: " أنتَ ستلحق بركبنا، مثلما سبقَ واتفقنا ".
قبل أن يمضي مع الطواشي، قلتُ له بزعل: " كنتُ مهموماً لأجلك، بينما أنت تسخر بي بملازمتك الصمتَ ". ثم أضفتُ: " على أيّ حال، سنتلاقى كثيراً في خلال توقف القافلة بمحطات السفر ".

* الكتاب الثاني من رواية " الأولى والاخرة "، المنشورة في الموقع عام 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف


.. الإسكندرانية ييجو هنا?? فرقة فلكلوريتا غنوا لعروسة البحر??




.. عيني اه يا عيني علي اه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي


.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو




.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد