الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منعرجات الطريق الثالث

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 12 / 7
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


ملخص من إعداد فريق دار الأكاديمية لمحاضرة قدمها مصعب قاسم عزاوي في منتدى دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

يثور في الأوساط الثقافية الغربية طوفان من التساؤلات بصدد مفهوم أو مصطلح الطريق الثالث أو طريق الوسط، بعضها يتعلق بمحتوى المفهوم ذاته، وأسباب ظهوره على سطح الحياة النظرية بهذه الكثافة، وتساؤلات أخرى تتعلق بجدوى هذا المفهوم وقدرته على طرح حلول لإشكاليات تعاني منها النظم الاشتراكية المتهاوية والنظم الليبرالية المستأسدة على حد سواء.

معظم الدارسين والمنظّرين الذين تناولوا هذا المفهوم بالتحليل ركّزوا على جانبه الاقتصادي متناسين - ربما بحسن نية - أن النظم السياسية سواء الشمولية أو الديمقراطية الليبرالية هي المتسبب الأول في هذا الارتباك الفكري على مستويات التنظيم السياسي والاقتصادي الاجتماعي، نتيجة تطبيق كل منها الحد الأقصى والسقف الأعلى للسياسات، فالاشتراكية العلمية بشكلها السوفييتي أسرفت في الإعلان المتسرع عن إدراك أهدافها بشكل لم يتخيل احتمال تحققه بذاك الشكل الخاطف كارل ماركس نفسه، والرأسمالية غالت في رأسماليتها إلى درجة الوحشية البربرية المعولمة، وضاع طريق الوسط على أرض الواقع، بل وعلى مستوى النظرية في أحيان كثيرة.

الطريق الثالث كما ظهرت فكرته لأول مرة عام 1936 على يد الكاتب الأمريكي Marquis Childs في كتابه Sweden: The Middle Way الصادر في العام 1936 والذي ترجمة عنوانه إلى اللغة العربية ( السويد: الطريق المتوسط). والطريق الثالث برأي الكاتب الأخير طريق وسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، وهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي.

وتنبع جاذبية هذا المفهوم من كونه لا يتبنّى السقف الأعلى أو الحد الأقصى لكل نظرية، أي أنه جسر بين الأيديولوجيات. وعلى الرغم من أن الاشتراكية الثورية لم تحظَ بأي قبول داخل الولايات المتحدة فإن القيم والمثل الاشتراكية - خاصة قيمة العدل الاجتماعي - تغلغلت بشكل قوي في توجهات الديمقراطيين الليبراليين واليساريين على حد سواء، كما لا يخفى على معظم المفكرين حقيقة إصابة المجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي بخسائر من جرّاء تطبيق الأفكار الليبرالية المحضة خاصة بشكلها المستجد الوحشي المعولم في حقبة ما بعد رونالد ريغان. وبغضّ النظر عن النتائج المؤسفة من جرّاء تطبيق قيم الاشتراكية القائمة بالفعل في ظل النظم المركزية الشيوعية، فإنها تظل لها جاذبيتها في وجدان الأغلبية من المستضعفين في عموم أرجاء الأرضين.

وهناك عدد من العوامل والظروف الدولية والمحلية ساعدت على طرح هذا المفهوم مجددًا، أبرزها:
1. سقوط القطبية الثنائية بتهاوي الاتحاد السوفييتي وسيادة الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمي، متجاوزة الأطراف الأخرى، ليس فقط الدول النامية ولكن بعض الدول الأوروبية كذلك.
2. الوعي بخطورة سياسات منظمة التجارة العالمية على الدول النامية والدول الصناعية الناهضة خاصة الآسيوية، وسعي بعض الدول الأوروبية لتفادي كارثة دولية تتمثل في صراع قد ينشب بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وذلك بمحاولة إيجاد حوار بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة لعلاج المشاكل التي تواجه الجميع في عالم واحد.
3. ظاهرة الدمج بين الشركات العملاقة العابرة للقارات على حساب كل الفاعلين في الأسواق المحلية، والشعور بالحاجة إلى دولة قوية ومجتمع قوي في آن واحد تستطيع مواجهة تعملق تلك الشركات العابرة للقارات، أي صيغة جديدة لعلاقة شراكة وليس تنافس بين الدولة وقوى المجتمع.
4. انحسار دور مجموعة عدم الانحياز وتضاؤل الفكرة ذاتها، وانكماش مجموعة الـ 77 بحيث اقتصرت مؤخرًا على 15 دولة من ثلاث قارات (آسيا – أفريقيا – أمريكا اللاتينية)، وإخفاق تلك الدول في عرض مطالبها في جولات مفاوضات منظمة التجارة العالمية، و التي أفضت إلى غبن منقطع النظير بحق الكثير من الدول النامية؛ إذ لم تجد من يمثلها التمثيل الذي يحقق مطالبها في مواجهة الدول المتقدمة؛ لذلك فقد تولّدت لدى هذه الدول النامية تحديداً الحاجة لتبني مبدأ يتجاوز سلبيات التخطيط المركزي ومساوئ الرأسمالية، وأثرهما على الطبقات الفقيرة في مجتمعاتها.

وهناك عدة مظاهر لصعود الطريق الثالث كخيار بين الحركات الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا المتمسكة بشكل معلن بمفهوم العدالة الاجتماعية الذي كانت تعبّر عنه الشيوعية، ورافضة لحدوث تحولات اجتماعية تهمش الطبقات الفقيرة، خاصة من اللاجئين والمهاجرين من الدول النامية.

كذلك نلحظ تغلغل المفهوم في أدبيات وخطاب الأحزاب المسيحية الديمقراطية اليمينية في أوربا، وخاصة في ألمانيا وفي إيطاليا ؛ لوجود اهتمام لدى هذه الأحزاب الدينية هناك للتقليل من حدة آثار الرأسمالية المتوحشة في بلدانها لتفادي مخاطر حدوث ثورات شعبية فيها قد ينتج عنها تآكل قدرات سيطرة تلك الأحزاب على مفاصل الحل والعقد في مجتمعاتها؛ لذلك نجد أيضاً أن معظم أحزاب اليمين ويمين الوسط في أوربا أساساً قد تبنت تصورًا لدولة الرفاهة الحديثة دون التضحية بالزواج المقدس مع مبادئ الرأسمالية واقتصاد السوق الحر.

ويجد المتأمل للساحة الأوروبية أن الكثير من الأحزاب السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم المركزي أو المحلي في غير موضع أوربي حالياً هي أحزاب يسارية ترفع مبدأ الاشتراكية الديمقراطية وضرورة التغيير المستمر بشكل سلمي، بدءاً من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، مرورًا بالحزب الاشتراكي في فرنسا، ثم حزب العمال في إنجلترا وهي يسارية جديدة تتخلى عن الجمودية الأيديولوجية، وتطور رؤاها بما يتفق مع تصورها للطريق الثالث، و خاصة في ميدان مفاعيل دولة الرفاه و حقوق الفئات المستضعفة من الأطفال و النساء بالإضافة إلى موضوع الكارثة البيئية الكونية المحدقة بكوكب الأرض.

ومع قوة المجتمع المدني في هذه الدول واتساع هامش الحريات بشكل نسبي مقارنة بالنظم الاستبدادية في العالم المفقر، أوصل الناخبون غير الموالين لأي أيدلوجية هذه الأحزاب التي يطلق عليها "الوسط الجديد" والتي تعتنق الفكر الاشتراكي الديمقراطي إلى مقاعد مجالس النواب بأغلبية لافتة في غير موضع أوربي، فبالنسبة لرجل الشارع فإن هذا الطريق هو الذي يحتمل أن يدرك مبدأ ا المساواة في الفرص وفي الدخل، والذي يمثل ضالة أولئك الناخبين.

ويسعى مفهوم الطريق الثالث بشكل عياني مشخص لتحقيق غايات أساسية:
1. وضع اقتصاد بعض الدول على المسار الصحيح، من حيث تغليب الصالح الاقتصادي الوطني بعيداً عن الارتباط بأيدلوجية بعينها، أي تحرير الاقتصاد من الأيديولوجيا (وهو ما رآه المعارضون تحريراً في ظل السيادة الرأسمالية الوحشية بما يعني الوقوع الحتمي في براثنها).
2. تمكين بعض الدول الآخذة في النمو من الفرص التي يتيحها هذا الأسلوب، كأسلوب بديل في ظل الأحادية الموجودة والرأسمالية المعولمة الطاغية، ومفاعيلها السلبية على المجتمعات التي تبنتها بشكلها الفج غير المرشد بأدوات دولة الرفاه.

3. تعظيم درجة تخصيص الموارد وخاصة الناجمة عن الخصخصة لصالح خدمة المجتمع ، وأيضاً تعظيم زيادة قاعدة التملك للطبقات العاملة ومحدودة الدخل في الوحدات التي تتم خصخصتها (وهو ما يثور الخلاف بشأن إمكانية تحققه في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي يديرها البنك وصندوق النقد الدولي).
4. - تبني المبادئ التي تنادي بأن دور الدولة يجب أن يوجّه أساساً لخدمة الأهداف الاجتماعية جنباً إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية، أي وضع الدول أمام مسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، ودون حصر دورها في الشأن الاقتصادي والتخلي عن كل ما هو اجتماعي بما يتفق مع مبادئ اقتصاد السوق الحر بوصفته الرأسمالية الوحشية المعولمة.

ويمكن القول بأن الدول الأوروبية في المقام الأول - وعلى رأسها الدول الاسكندنافية وألمانيا وإنجلترا وفرنسا - تحاول إيجاد الحلول اللازمة للتقدم على هذا الطريق، وفيما يراه بعض المراقبين محاولة من الأنظمة الرأسمالية لتطوير نفسها وسدّ فجوات التطبيق وثغراته.

والطريق الثالث عند هذه الدول يُعَدّ مقياساً يتم به قياس مدى نجاحها في المواءمة بين متطلبات الاقتصاد، وحرية التنافس، والحريات الفردية، ومتطلبات الرفاهية الاجتماعية من خدمات تعليم وصحة وتأمين اجتماعي وإعانة للمسنين والمتبطلين.

ومما لا شك فيه أن هذه الدول وجدت نفسها في مأزق حقيقي، فهي ما زالت عاجزة عن الحفاظ على معدل إنتاج ملائم، وفي الوقت نفسه خلق فرص عمل جديدة، وأيضاً تدبير نفقات تمويل الخدمات الاجتماعية، خاصة الذين لا يشاركون في سوق العمل، مما شكل عبئاً كبيراً على كاهلها، وتبرز هذه الأزمة في دول مثل فرنسا وألمانيا، خاصة في ضوء انزياح الميزان الديمغرافي لصالح من هم فوق 65 سنة، والمهاجرين الذين لا يجدون فرصة عمل مناسبة ويدخلون في جلجلة البطالة.

ولا يزال مفهوم الطريق الثالث في حاجة إلى مهلة زمنية حتى يتم تفعليه وحتى يمكن تطبيق مبادئه قد يقدر له النجاح لخدمة مصالح الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل ليس فقط في دول العالم المتقدم، بل أيضاً في دول العالم النامي؛ فالوسط الجديد يحتاج إلى الدولة، ولكن أي شكل من أشكال الدولة؟

هناك من يراها الدولة التي تتبنى النهج الاشتراكي الديمقراطي، وتؤمن بالمنافسة العالمية، بالتوازي مع إيمانها بالابتكار، والحد من سطوة جهازها البيروقراطي، وأهمية اللجوء إلى حلول مبتكرة تستلهمها من قوى المجتمع المختلفة للتوفيق بين الحاجات المتصارعة.

ولا يمكن القول بأي حال من الأحوال بأن هذه الأمنيات سوف تتحقق بمعزل عن مشاركة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية، فالأحزاب السياسية الناهضة في السياق الآنف الذكر لا بد أن تعكس مصالح الطبقة الوسطى، وأن تطور قدرات بحيث تجتذب الأجيال الشابة.
كما على الدولة القيام بوضع سياسات عامة تطرح حلولاً جديدة، من قبيل تحرير سياسة العمل لتسمح بالعمل الجزئي أو الموسمي أو العمل المنزلي، ومشاركة صاحب العمل في أعباء الضمانات الاجتماعية، وأن تزيد من مسؤوليتها في مجال إعادة التدريب والتعليم.

والمأزق الذي تعيشه الدول النامية منذ نصف قرن هو عدم قدرتها على استلهام نموذج سياسي اقتصادي يلائم ظروفها وطبيعتها، مع ثبوت فشل تبنّيها لسياسات اشتراكية ماركسية أو ليبرالية ديمقراطية؛ لغياب العوامل والمكونات اللازمة لترسيخ أي من هاتين النظريتين.

ولقد بدأت غالبية الدول النامية تخطو خطواتها الأولى نحو الانفتاح على الأسواق العالمية وتحرير اقتصادها وخصخصة مشاريعها، خاصة عقب انهيار النظام الاشتراكي وفقدانها الحماس للأفكار والقيم الاشتراكية، وفي الوقت الذي تحاول فيه أن تلعب دوراً في الاقتصاد العالمي، وأن تشارك في فعالياته نجدها تحاول جاهدة الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتوفير الخدمات الاجتماعية في حدودها الدنيا، أي الحفاظ على دولة الرفاهة مع عدم التخلف عن ركب الاقتصاد العالمي. فمن الناحية النظرية يبدو هذا الطريق مجديًا لهذه الدول، محققا لآمالها وطموحاتها بدون الالتزام بالانحياز لأي فكر وأيدولوجية ما. أما من الناحية الواقعية فإن هذه الفكرة قد يصعب تحقيقها في ظل التكلس الاستبدادي في غير موضع من أرجاء العالم النامي، و هو ما يعيق جذرياً متطلبات مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز الاستقرار الاجتماعي كأرضية لا بد منها للنمو الاقتصادي، و يكبح اشتراطات التفعيل الأكبر المطلوب لدور الأحزاب السياسية، و جهود إحياء الطبقة الوسطى بحيث تعبّر الأحزاب عن احتياجاتها وفكرها، بشكل يحافظ على توازن مرهف يتجنب إنهاك موازنة الدولة أو جرّها للعب الدور الرئيسي المركزي والحاكم في الاقتصاد الوطني مرة أخرى، وفي الوقت ذاته دون دفعها إلى مزيد من الاقتراض بحيث تصبح مثقلة بالديون ومطالبة بسداد فوائدها المرتفعة عن طريق الاستقطاع مرة أخرى من نفقات دولة الرفاهة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رولكس من الذهب.. ساعة جمال عبد الناصر في مزاد


.. Socialism 2024 rally




.. الشرطة الألمانية تعتدي على متظاهرين مناصرين لغزة


.. مواطنون غاضبون يرشقون بالطين والحجارة ملك إسبانيا فيليب السا




.. زيادة ضريبية غير مسبوقة في موازنة حزب العمال تثير قلق البريط