الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الروّاف

عامر سليم

2020 / 12 / 9
الادب والفن


و أخيراً وجد علوان نفسه روّافاً في دُكان ريافه , كان علوان متعلماً وحاصل على شهادة جامعية , ولكن سحر الدكان الصغير و دقة المهنة قادته الى هذه التجربة التي احبها بشدة لأنها تتلائم مع اهتماماته وطبيعة شخصيته .
كان هذا الدكان وقفاً بلا مالكٍ معروف , فهناك من يقول انه يعود الى ارمني في زمن الدولة العثمانية عاش ومات بلا ولد ولا تلد , وهناك من يقول انه ليهودي بغدادي هُجر بعد ان ترك الذي امامه والذي خلفه , وهكذا كثرت الاقاويل والروايات عن هذا الدكان الذي لايعرف مالكه الحقيقي لا من قبل ولا من بعد , كيف لا وهو يفتقد اصلاً لأي مستند رسمي او غير رسمي يعود ويشير الى اصله وفصله وملكيته!
تعاقب الزمن على الدكان بحكوماته ,وهو باق ينجو من الهدم المرة تلو الأخرى بحجة التطوير ,والذي انقذه من هذا المصير, هو صغر حجم الدكان الذي لاتتجاوز مساحته الخمس مترات مربعه , اضافةً الى موقعه ضمن منطقة أثرية قديمة , حاولت كل الحكومات الحفاظ عليه كتراث , أضافة الى شغف الناس بالمنطقة ودعواتهم المستمرة بالأبقاء عليه.
شهد الدكان تقلبات الزمن بين الأهتمام والأهمال , يزدهر ويرمم وينتعش في عصر ما , ويهمل ويترك مهجوراً و مرتعاً للقوراض والحشرات في عصر آخر .
شهد علوان تقلبات الزمن هذه , وشاءت الأقدار ان يكون هو من يعمل في الدكان والذي عاد اليه بعض رونقه القديم في عصر الأنفتاح الجديد .
كان علوان جالساً يمارس مهنته بفرح على سجادة صغيرة في الركن الايسر من الدكان يروّف قمصلة عسكرية مفروشة على ركبته المرفوعة, قمصلة تعود للعهد الجمهوري الاول , وبجانبه راديو صغير يغرد مقام القبانجي الشهير :
جربتهم ما وفوا بالغانمات معاي
و معاي خانوا على عهد تخبره معاي
جفل حين سمع صوت جهوري يلعلع يعرفه جيداً :
- الله يساعدك أبو علي ,..... اي والله جربتهم وماوفوا
- هلا وكل الهلا بحجي جاويد , هاي وين اشو ماكو؟
- بهاي الدنيا يعني وين نصير ؟
قال كلمته الأخيرة وهو يجلس على حافة الركن الآخر من الدكان بدون استئذان ويمد يده الى علوان بكيس ورقي كبير قائلاً :
- جبتلك شغل!
- يا شغل متشوفني مشغول , مية شغلة ورايه , وكلها عايفهه عالنص؟
- بس هاي شغله جبيره تخص السيد !
- يا سيد؟
- يعني هو اكو غيره؟ سيدنا غير!
فتح علوان الكيس ومد يديه ليخرج جبّة رجل دين , تفحّصها مندهشاً ومتقززاً :
- هاي شنو , جبّه وجّماله وسخه وبيها بقع دم يابسه ؟ يمعود شنو هاي الشغله ارحمني يرحم موتاك؟
- علوان هاي الجبّه لازم ترجع جديده ونظيفه , انت تعرف احنا ويه السيد دهن ودبس وبيناتنا عشره وميانه, فلا تفشلنا , محد غيرك يدبرها .
- اي بس يا حجي جاويد الجبه وسخه وكلها بقع دم , يعني حتى لونها رايح , اي شلون يعني ادبرهه خلي الله بعيونك.
- علوان , يعني شنو شلون ؟ قابل اعلمك شغلك , اغسلها زين وبعدين اختار الأبر والخيوط على راحتك , يا اخي المحل مليان قواطي الأبر والخيوط , تكول مكتبه عامره وكلها روسيه والمانيه وأنكليزيه قديمه ابو النعلجه (قال الكلمات الأخيرة بأبتسامة عريضة) .
- يعني يا حجي اشّايفني غسّاله لو روّاف ؟, اي شلون تقبلها ؟ , وبعدين هاي الجبّه عتيكه يعني بالغسل راح تنملخ , اي متكلي شراح اروّف منها؟.
- علوان الجماعه ايريدوها منك والناس اكلت وجهنه , ارجوك طلع الجبّه نظيفه وصالحه وسويها اخت الجديده .
ادرك علوان ان الموضوع لاجدال فيه وانه تورّط فقال مستسلماً :
- زين يابه زين , راح اعوف كل الشغلات, واتفرغ لجبّة السيد, وأمرنا لله الواحد القهار!
- اي هذا الحجي يا بعد روحي , ( ثم همس ) تره بيني وبينك ورطه وتورّطنا ولازم انداري امورنا . ثم ختم حديثه وهو يهم بالرحيل :
- أمرّ عليك بعد أسبوع , اريدك فاض الشغّله.
غادر الحاج جاويد المحل وهو يمشي الهوينا وكرشه يتقدمه . لم يكن جاويد حاجاً ولم يحج يوماً , بل ان الرجل لم يصلي ركعة واحدة في حياته , و لكنه أختار لقب الحاج مجاملة لموسم التديّن الذي اجتاح المحلة, كان انساناً مسالما مع الجميع , الكل سواسيه لديه الحرامي والشّقي والقاتل والأفندي والمخلص , كان يؤكد دائما كلنا ابناء هذه المحلة وعلينا ان نتعايش بسلام و بلا فضايح !. ويردد عادةً مثّله المفضل (مركتنه على زياكنا) , والأهم كان هذا الرجل مخلصاً للدكان وللذي يعمل فيه كائناً من كان ويكون!.
...........
بعد أسبوع ,كانت الحادثة قد وقعت قبل ساعة من وصول الحاج , فشهد مغادرة آخر شخص يطمئن على علوان , اندهش وهو يرى جبهة علوان مُزرّقة ببقعة كبيرة ,والدكان مقلوب رأساً على عقب , علب الخيوط متراكمه على بعضها بلا أغطية , وبكرات الخيوط الملونة في كل مكان واختلط بعضها مع البعض ومع العلب وقطع الملابس المتناثرة, هتف الحاج جاويد وهو يلف سبحته ذات الحبات الكبيره بحركه لولبية حول معصمه ويلبسها كسِوار :
- علوان , شنو القصه ؟ شنو صار زلزال ؟ خير , سلامات
أجاب علوان وهو يلملم العلب والخيوط ويحاول ان يعيد كل شئ الى مكانه :
- جبة السيد الملعون , ليش أكو غيرها؟
رد الحاج جاويد مستفسراً :
- كلنالك صلحها مو تتعارك وياهه؟
- وهل يصلح العطار ما أفسده الدّهر؟ اذا الجبه وسخه والدم مايروح منها ,شلون يصلّحها الغسل والريافه؟ وداعتك دورت بكل القواطي العتيكه المعروفه وغير المعروفه , جربت كل الأبر الخشنه والناعمه , وبحوشت بكل الخيوط الملونه روسيه على المانيه على انكليزيه , اريد شي يرهم ويصلّح هاي الجبه اللعينه مالكيت .
- زين كُصّتك ليشت اتزوركت ؟ المحل شّكلبه ؟
- من الرفوف العاليه , الله يلعن أبو الرفوف واللي سوّاها , ما شفت الا الرفوف بقواطيها وخيوطها توكع عليّه , تكول هجمة ذيب جوعان صايرله شهر مماكل!
قهقه الحاج جاويد بصوت عالي قائلاً :
- يمعود همزين قواطي ولا كتب ,جان هسه موتّك مثل موتت الجاحظ الله يرحمه!
- ظلّ أضحك حجي ظلّ , بعد الله شيسوي بيك وبينا؟
ثم اقترب الحاج منه مواسياً وهو يُربتْ على كتف علوان قائلاً:
- على كل حال , أجتْ سلامات ولاتدير بال و أنسى الموضوع كله, وريّح بالك.
رد علوان مستفسراً بعيون مفتوحه وكأن عقرباً لدغه :
- والجبّه؟
- يا جبّه؟ , ها ... الجبّه , اي مو الجماعه كالولي كل عقلك السيد يلبس جبه مروّفه , هذا يوميه يبدل جبّه وما يلبسها الا مره وحده؟
- يا ملعون الوالدين , واني صار لي اسبوع مشلوع كلبي غسل وريافّه , وانته ساكت , شأدعي عليك ؟
- طوّل بالك علوان , وأخذ الامور ببساطه حبينا نخدم السيد وانصاره ومحبيه , تعرف كلهم كادحين ؟
- كادحين والسيد يوميه يبدّل جبّه؟
- اي ... هيه هاي الدنيا ,ليش انعقّد الامور ؟ صرنا مثل بلّاعين الموس , ورطه و أتوّرطنا ( ثم ختم حديثه على عجل )
- أودعناكم , ورايه مية شغله , عود اشوفك بعدين
قالها وهو يهم بالمغادره ويعيد السبحه بين اصابعه و, ويحاول جاهداً ان يشد زر سترته ليقفلها على كرشه العريض .
ظل علوان محبوس الأنفاس وعينيه لاتبارحان جثة الحاج التي كانت تبتعد بهدوء وتتمايل في سيرها وكأنها بطه سمينة حتى أختفت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حتى المثقف وأجير البلاط يخون إنسانيته من أجل السيد
صباح شقير ( 2020 / 12 / 9 - 18:18 )
تحياتي للفاضل الأستاذ عامر سليم

وقفت عند شخصية الحاج جاويد المتزلف لسيده بالع الموس عالحدين والملدوغ عالجنبين لينال رضى(أبو الجبة والعمامة مصيبتنا الكبرى في الحياة)
جاويد لا يعرف من الدين إلا لقب الحاج يبذل ماء وجهه لرجل دين (يكدح)كل يوم في تبديل جبة
مسالم الكل عنده سواسية الحرامي والبلطجي والأفندي والمخلص
سيدي, نحط مركتنا على زياكنا وزيتنا على طحيننا فيرجع الخير خيرين وأضعافا علينا
نعيش بلا شوشرة بسلام ولطف ونجهد في تجميل القبائح وتلميع صورة صاحب الأمر حتى يبقى المطبل والمزمر في مركب السيد الماسك بالدفة

الشرط لنداري الأمور هو الإخلاص للسيد أي سيد كائنا من يكون, وللجبة أي جبة حتى لو كانت مقرفة ورثة بالية أكثر من معطف غوغول

النسخ الآدمية الشبيهة بهذا المتملق لا تقتصر على خدام رجال الدين
حتى المثقفين حولنا وأُجَراء البلاط يخونون إنسانيتهم من أجل السيد

وعلوان؟ المواطن البسيط المستسلم لما يؤمر به
مهما جهد وكافح سيخرج صفر اليدين لا قيمة لعمله أو وقته أو حياته
قدره أن يعيش محبوس الأنفاس يرقب البطات السمان ويختم يومه بركعتين مرددا برضى
الأمر لله من قبل ومن بعد

هكذا قرأت المقال
احترامي


2 - الأستاذ شقير المحترم
عامر سليم ( 2020 / 12 / 10 - 04:50 )
كل الشكر والتقدير للمرور والأهتمام والتعليق.
تقول : ( هكذا قرأت المقال ) وأقول : وما أجملها من قراءة , وخصوصاً ان حوار القصه مكتوب باللهجه البغداديه !.... عفيه عليك!
ياعزيزي الكريم:
خياط غوغول لم يجامل صاحب المعطف الفقير , قال له الحقيقه بلا مجامله , هذا القديم لم يعد صالحاً لابد من الجديد مهما كلفك الأمر, ان تكون او لا تكون , هذا هو كل الموضوع!
علوان يعي هذه الحقيقه ولكنه أسير ولائه المقدس , وليس قناعاته فالرجل مثقف وجامعي ويعرف ما يدور حوله جيداً , ومع ذلك جامل صاحب الجبة الغني والقاتل!
تقديس الولاء لعنه , ومن يصاب بها يستهلك نفسه ومهاراته وجهده وبحثه المتواصل في اصلاح وتسويق ما لايمكن اصلاحه وتسويقه , وتكون مأسات صاحبها اكبر حين يعي ذلك بوضوح , كيف يمكن ان تصلح وتغسل جبه ملطخه بدماء الضحايا؟ الرجل تجنب ان يعرف مصدر الدم ولم يسأل عنه!
هكذا قرأت وفهمت ازمة و حيرة علوان .
محبتي وشكري وتقديري لكم مرة اخرى


3 - قصة رائعة
قاسم علي فنجان ( 2020 / 12 / 10 - 09:59 )
الاستاذ عامر سليم المحترم
جزيل الشكر على هذه القصة الرائعة صحيح جبة السيد لن تنظف مهما ريفت بالخيوط الحمراء
كنت قد قرأت مسرحية للكاتب الامريكي كليفورد اوديتس -في انتظار اليسار- يقول فيها
-المزيج من الاحمر والاصفر يصنع لونا قذرا-
وعلوان يحاول عبثا ان يرقع هذه الجبة بخيوط حمراء علها تنتج شيئا جديدا مع انها تهرأت وهو يدرك ذلك. مسكين علوان

تحياتي مرة اخرى وتمنياتي القلبية بالصحة والسلامة


4 - العزيز قاسم علي فنجان المحترم
عامر سليم ( 2020 / 12 / 10 - 11:12 )

شكراً لكلماتك الجميله المشجعه , ويسعدني ان القصه اعجبتك و أثارت عندك شجون و شجون , ليس عندي ما أقوله سوى ان اردد معك .... مسكين علوان .
اكرر شكري واحترامي لزيارتكم وتعليقكم وأهتمامكم وتمنياتي لكم بالصحه والعافيه

اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح