الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خامساً: الروح الحربية وفلسفة القوة

فارس تركي محمود

2020 / 12 / 9
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


مما لا شك فيه أن الجماعات البشرية البدائية تتسم كلها بخضوعها لفلسفة القوة بكل أشكالها كالقوة البدنية ، وقوة العدد والعدة ، وقوة المال وما يمتلكه الشخص ، والقوة الاعتبارية كالمركز الاجتماعي والوجاهة والحسب والنسب ، والقوة الروحية والدينية كقوة وسطوة الكهان والسدنة ومن يمتهنون العمل في حقل المقدسات . إن الإنسان في المجتمعات البدائية يعيش مع فلسفة القوة منذ نعومة أظفاره بل منذ يوم ولادته ، فالمولود إن لم يكن قوياً ومتمتعاً بصحة جيدة تضاءلت إمكانية نجاته وبقائه وتراجعت حظوظه وفرصه ، فالضعيف لا مكان له ، والقوة هي القانون ، وسوف تبقى هذه المعادلة - أي معادلة المزيد من القوة يساوي المزيد من الربح والمنفعة والعكس صحيح - ملازمة للإنسان في المجتمع البدائي في كل مرحلة من مراحل حياته في صباه وشبابه وكهولته وهرمه وعلى كافة المستويات بدءً بالعائلة والعلاقات الأسرية ألبسيطة والعلاقات بين الجيران وصولاً إلى العلاقات بين أفراد المجتمع ، وبينهم وبين من يحكمهم أو يتولى أمرهم ، وبينهم وبين القوى الروحية التي يؤمنون بها ويخافون منها ويرتجون ثوابها ويخشون عقابها ، وأخيراً بين المجتمع ككل وما يجاوره من مجتمعات أخرى . إن خضوع المجتمع البدائي لفلسفة القوة ليس أمراً اختيارياً بل هو ضرورة لا بد منها وحاجة لا غنى عنها ، فبدونها لا يمكن لحالة الاجتماع البشري أن تستمر ، وغيابها سيؤدي إلى إضعاف المجتمع البدائي وتفتته ومن ثم انهياره لأن الردع والترهيب وعلى كافة المستويات يعد من أهم ضمانات بقاء واستمرار هذا المجتمع ، والردع لا يمكن أن يكون مقنعاً بدون استخدام القوة أو التهديد باستخدامها فالإنسان إذا أمِن العقاب أساء التصرف كما يقال .
كذلك تتسم المجتمعات البدائية بالميل للقتال والتصارع وبسيطرة الروح الحربية والسلوك العدائي عليها وذلك بسبب حاجتها الماسة لمثل هذا السلوك في بيئة قاسية معادية لا تحكمها إلا قوانين القوة وفلسفة البقاء للأقوى فالحرب والصراع والتدافع لم تكن حالات استثنائية أو حالات عابرة بل هي شأن يومي ، والاشتباك ألخشن والعنيف الدائم والمستمر مع الحياة بكل تفاصيلها ومع الآخرين لم يكن مصادفات تحدث هنا وهناك بل هو أسلوب حياة وطريقة عيش ، والاستعداد الدائم للحرب كان من مستلزمات البقاء .
وقد أشار إلى ذلك ألعلامة ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أحوال البدو وقارن بينها وبين أحوال الحضر حيث يقول : " إن أهل البدو أقرب للشجاعة من أهل الحضر والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة ، وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم ، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد ، فهم غارون آمنون ، قد ألقوا السلاح ، وتوالت على ذلك منهم الأجيال ، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم ، حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة . أهل البدو لتفردهم عن المجتمع ، وتوحشهم في الضواحي ، وبعدهم عن الحامية ، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم ، لا يكلونها إلى سواهم ، ولا يثقون فيها بغيرهم . فهم دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق ، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب ، ويتوجسون للنبآت والهيعات ، ويتفردون في القفر والبيداء ، مدلين ببأسهم ، واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ . وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئاً من أمر أنفسهم . وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل . وسبب ذلك ما شرحناه . وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه . فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة . . . " .
إن حاجة المجتمع إلى فلسفة القوة والروح الحربية ستزداد وتتضاعف عندما يسعى إلى تأسيس الدولة القديمة فبدون القوة لا يمكن توحيد أفراد المجتمع ودفعهم باتجاه الهدف المنشود ، وبدون القوة لا يمكن للقوة السياسية الحاكمة للدولة أن تضبط تفاعلات المجتمع وتصرفاته ، وبدون القوة والروح الحربية لا يمكن للدولة أن تحافظ على بقائها وتضمن استمرارها وهي محاطة بالأخطار والتهديدات من كل حدبٍ وصوب ، ولا يمكنها كذلك أن تتوسع وتمد نفوذها إلى مناطق وأراضي ومجتمعات أخرى لأن تلك المجتمعات ستحاول بالتأكيد أن تقاوم هذا التمدد والتوسع ولن يحسم الأمر إلا من خلال استخدام القوة والحروب والصدامات المسلحة . هذا فضلا عن أن أعداء الدولة ومعارضيها ومناوئيها في الداخل والخارج سيزداد احتياجهم لفلسفة القوة وللروح الحربية والسلوك العدائي ، وهكذا ستجد الدولة القديمة نفسها - وبدون أن تقصد ذلك أو تعيه حتى - مضطرة إلى تعزيز فلسفة القوة والروح الحربية وتجذيرها أكثر وأكثر في المجتمع البدائي الذي أورثها هذه السمة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توسع الاحتجاجات الجامعية في أنحاء العالم


.. إجراءات اتخذتها جامعات غربية بعد حرب إسرائيل على غزة




.. استشهاد فلسطينيين أحدهما طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزلا شر


.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع




.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر