الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَوسِم آخِتْ. قراءة في ديوان - مخطوط أكتو- للشاعر سعيد هادف.

وديع بكيطة
كاتب وباحث

(Bekkita Ouadie)

2020 / 12 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


إن الذي تأبط شِعراً تأبط عشق البراري
أسأل دائما وأنا أتعامل مع أي نص شعري روائي أو مسرحي...الخ عما يريد أن يقول هذا الكاتب أو ذاك، وما إن أنتهي منه حتى أفكر في آلياته التي استعملها، وما أن أفرغ منه حتى يكون قد قال لي كل شيء، لكن ليس كل النصوص هكذا، فهنالك نصوص تؤرق وتعاند وتبقى مفتوحة لكل التأويلات، الأمر الذي ينطبق تماما على هذا النص الشعري "مخطوط أكتو " للشاعر والمفكر الجزائري المغاربي سعيد هادف .

يضعنا عنوان هذا الديوان " مخطوط أكتو " للشاعر سعيد هادف ضمن متاهة، وللخروج من هذه الحيرة المعرفية، نطرح التساؤلات التالية: ما دلالة هذه الكلمات "مخطوط أكتو" ؟ وما معنى معنها؟ أهي تكثيف شعري لما ورد ضمن الأسطر الشعرية ؟ وما هي الرؤية الشعرية التي يتبناها شاعرنا؟
تستدعي كل تجربة شعرية تفكيك بنيتها من أجل فهم واستيعاب استعاراتها، فالاستعارة في البنية الشعرية هي بيت القصيد، فاللفظ في القصيدة يوازيه معنى، وهذا المعنى هو إما متداول أو له جدة، بينما المرجع قد يكون حاضرا وقد يغيب، وهو في التجارب الشعرية الرائدة يُبنى مثلُه مِثل المعنى، وقد اعتبر أرسطو أن للشعر قيمة إيجابية: " إنه لشيء مهم حقاً أن نستعمل بشكل كاف الأشكال الشعرية، إلا أن الأهم بكثير هو معرفة صنع الاستعارات (1459 أ)؛ "فالألفاظ العادية تفيد فقط ما نعرفه من قبل، والاستعارات هي التي تمككنا من إنتاج شيء جديد (كتاب البلاغة، 1410 ب) ؛ فمهمة الكتابة الإبداعية إذن هي الخَلق، خلق استعارات جديدة نحيا بها، ووحدهم الخلاقون ـ المعلم والمُبدع والموهوب ـ كما يقول نيتشه ينذرون بمن سيسود .
تدل كلمة " مخطوط " على كتاب أو نصّ مكتوب باليد لمّ يُطبع بعد، وتوحي لدى أغلبنا بكل ما هو تراثي من الكتب، والكلمة هي على وزن " مفعول " من خطَ، وقع عليها حكم الفعل؛ في حين تدل الكلمة الثانية " أكتو" على الشهر العاشر من السنة الميلادية ، وهي اختصار لكلمة أكتوبر، الذي يقابله حسب التقويم العربي السرياني القديم تشرين الأول، وقد اعتمد تصنيف هذا الشهر في اللاتينية "أُكْتُو octo"" أي ثمانية بالعربية، إذ كان الرومان القدماء يعدّون شهور السنة ابتداء من شهر مارس قبل إضافة شهري يناير وفبراير للتقويم الغريغوري؛ وكلمة "أكتو" مشتقة حسب رأيي من كلمة " آخِت أي (الفيضان) " من القبطية القديمة التي تعتبر أصل القاموس اليوناني واللاتيني و"آخت"، هو اسم الموسم الأول من مواسم السنة القبطية الثلاث ، وقد انتقل اللفظ من القبطية إلى اللاتينية عبر التعديلات الصوتية التالية، حيث أُبدلت الخاء كافا وتمت إضافة الصائت حرف الواو؛ وانطلاقا من هذا الحفر فإن كلمة " أكتو" لها دلالات كثيرة، انطلاقا من هذا السياق الذي وردت فيه، فهي تدل تارة على العدد عشرة وتارة على العدد ثمانية و تارة على الفيضان وتارة على الاكتمال ، وبين هذه الدلالات المتعددة لهذه الكلمة نَسقٌ ناظم وبِنية مع الكلمة الأولى "مخطوط"، وهو ما سيتضح بعد تحليلنا لهذه الوحدة الصوتية التي يتشكل منها هذا التكثيف الشعري، الذي هو العنوان.
يتكون هذا التكثيف من سبع حروف " م ـ خـ ـ ط ـ وـ ط / أ ـ ك ـ ت ـ و" اثنان منها تكررت، حيث نجد خمس حروف صامتة وحرفين صائتين هما الواو والألف، فأصل العنوان هو الخمس الأحرف وهي تتمدد لتعطينا السبع أحرف، وعندما تتضاعف تصبح تسع أحرف؛ وهذه التحولات توحي بالنظام الذي تتبعه اللغة، فمن جذر معين نشتق العديد من الكلمات المتباينة والمترادفة والمتقابلة والمتضادة، أي أن فعل الكتابة في هذه الجملة الشعرية، وفي الديوان بشكل عام، هو فيض يعيد ترتيب الفضاء الشعري حسب أعدادٍ مفردة تنحو نحوَ أعداد زوجية، وهو الأمر الذي نجده بين كلمة " مخطوط" ذات الخمس أحرف" وبين كلمة " أكتو " ذات الأربع أحرف، فمن المفرد ننتقل نحو المتعدد، والمتعدد في صيغته النهائية هو الحياة نفسُها، التي تحوي أقطاب الجدلِ الكوني بين العناصر الطبيعية والإنسانية.
يعد حرف الميم الذي هو أول حروف هذا العنوان، من الحروف المجهورة المتوسطة، وهو الحرفُ الرابعُ والعشرون من حروف الهجاء، ومخرجُه من بين الشفتين ، بينما يُعد حرف خاء من الحروف المستعلية، احتكاكي ومهموس، يتصعّد في الحنك الأعلى إلى جانب الحرف طاء، ويزيد عليه هذا الأخير، بكونه انفجاري مع حفاظه على الصوت المهموس، بينما حرف الواو ـ السَّابع والعشرون من حروف الهجاء ـ هو صوتٌ طبقي مع استدارة الشفتين، مجهور ومُرقَّق ، متوسط بين الشِّدَّة والرَّخاوة ، أي أن الكلمة الأولى لها أصوات أغلبها مهموسة، والصوت المجهور المتوسط الذي تنطلق منه الكلمة، هو إعلان عن الوجود بأسلوب هادئ، يستمر في تأسيس هدوءه عبر الهمس، الذي تعرفه الكلمة الثانية أيضا، ويُحافظ الصوت في الكلمتين معا على صفة الاحتكاك تارة وصفة الانفجار تارة أخرى، هذه الصفات هي كمياء الشعر، الذي يُبني على ايقاعٍ موسيقى، فالبنية الجامعة لكل أشعار هذه الذوات الإنسانية المختلفة عنا لغة وثقافة هي الموسيقى.
تنسجم دلالات ومعاني هذا العنوان مع بنيته الصوتية، فالمخطوط في هذه الحالة يرمز إلى كينونة هذا الإنسان المغاربي المقدِس للتاريخ، الحكيم، الهادئ، والهامس بالمعرفة الإنسانية والمثقل بجحيم السُنون، الأمر الذي جعله يوحي بمعناه عبر رموز، فالعدد عشرة لا يمكن أن ينسجم إلا مع صوت هادئ ولينٍ، وهو رمز للكمال الإلهي؛ والعدد ثمانية (أكتو) لا يمكن إلا ينسجم مع صفة الانفجارية وصفة الاحتكاك الذي تتخلل صمت هذا الفضاء الكوني، وهو رمز للخلق ولبداية الحياة البشرية والحيوانية ، كما تؤكد الآية الكريمة ذلك : » خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ «؛ ويتساوق هذا المعنى كذلك مع معنى (آخِت) أي الفيضان، فهو أول المواسِم التي تنطلق خلالها أعمال الزراعة بوادي النيل، فهو رمز للبداية ولانبجاس الحياة من جديد؛ فالعنوان يحمل ذاكرة البحر الأبيض المتوسط، عمقه الحضاري والتاريخي، يقول الشاعر مؤكدا هذه التكثيف الشعري:
فاء: فاس متن الغواية ...
راء: هل سأسمي الرباط رنينا تؤرخ
لامرأة من حنين؟ ! ...
أي اصطلاح يليق بفتنة هذا الزمان
وابن رشد بقرطبة الآن يحاصره السهو
والسفهاء ...
...بغداد...
تيهرت...
قرطبة...
بغداد لم تقتطع هامشا للعبور إلى الأندلس
والخطى انسحبت إلى أفق مُلتبس...(الهزيع الأخير...)
فللمخطوط قدسيته التاريخية ولأكتو زمنٌ بَدئِي، فالمخطوط كلمة، وأكتو زمنها، وانطلاقا من هاته الوجهة، فنحن أمام بناءِ تكثيفٍ شعري مُقدس، يقول على نسقِ كل النصوص المقدسة " وفي البدء كانت الكلمة"، قبل أن تنطلق رحلة الحياة، التي يمثلها في هذا المتن الشعري شاعرنا سعيد هادف، لأن " من طبيعة الشعر والفن أنهما ينطلقان عند نقطة حيرة الفيلسوف والباحث الأكاديمي، ثم ينشط العلم ليشرح مكتشفاتهما " .
ينفتح هذا التكثيف الشعري (العنوان) على ثلاث عناوين، هي عناوين المجموعات الشعرية المكونة للديوان مرفقةٌ بالسنوات التي كتبت فيها: " مرثية لمدائن النفط ( 1990 ـ 1984) "، " العاطل عن الخطوة (1993 ـ 1990)"، " البلاد التي..."؛ ولنتأمل جيدا في هذه الكلمات المستعملة في هذا السياق، فالرثاء له دلالةُ موت سابق، أي غياب الحياة وحضور للعدم في فضاء عام مؤشره النفط، والسنوات هي مؤشر زمني على زمن الكتابة؛ في حين أن العنوان الثاني " العاطل عن الخطوة" يكشف عن ذات منفعلة لا هي فاعلة، عاجزة عن الخطو، بينما العنوان الثالث "البلاد التي..." هو تحديد ملتبس، مثل الالتباس الذي أحدثه العنوان الأول، فعن أي مدائنِ نفطٍ يتحدث الشاعر؟ وعن أي ذات؟ وأي بلد يقصد ضمن هذه المدائن؟ .
تمدنا هذه العناوين الثلاث، بالموضوع المشتغل عليه ضمن هذا الديوان، ألا وهو عنصر التراب، وهذه تيماته " مدائن النفط"، "الخطو"، " البلاد"، وكما نعلم فلهذه الكلمات دلالة مباشرة على التراب، الذي هو رمز للوطن، وبين العنوان الرئيس والعناوين الفرعية نجد ارتباطا ذو مستويين، مستوا يخص الدلالة، ومستوا آخر يخص المعنى، فالدلالة تكشف عن علاقة بين الكلمة والزمن وبين الوطن المجهول، وهي علاقة ائتلاف، بحيث أن الكلمة الصادقة أي الحقيقة، هو ما يحتاجه هذا الوطن، المُعبر عنه من داخل الأسطر الشعرية، بكلمة "وهران" أي الجزائر، بينما تبقى المدن الأخرى المذكورة مجرد محطات لهذا التسكع الشعري، حيث يمارس الشاعر صعلكته وجنونه، أي حريته؛ بينما معنى المعنى يكشف عن صراع عنصرين متقابلين هما، الريح والتراب، فالريح رمز للحقيقة للصدق وللحكمة وللسمو، الأمر الذي يؤكده الإهداء " إلى الوفاء، ذلك الخُلق النادر، في زمن الخيانات العربية، تبا للجبن والخسّة والغدر"، في حين أن التراب رمز للوطن وللهوية، وهذا التقابل هو أُسُ هذه التجربة الشعرية المائزة، وهذا ما نلاحظه في الأسطر الشعرية التالية:
خلفكَ أنقاض ونقع
أمامك شارع أفقمُ الخطوة...
جسدي يشبه الريح
قيل: أنا خالق المسافات...
ثمة غيبْ: هو المكان
خضبي حيرتي بأنفاسك !
علني ألمس، أو أتجلى... !
فالمجموعة الشعرية " مرثية لمدائن النفط"، لا تخرج عن سياق الهيمنة الكلية لعنصر التراب، لكن ومع بداية المجموعة الثانية "العاطل عن الخطوة" وصولا إلى آخر قصيدة من مجموعة "البلاد التي..." ينافس عنصر الريح هذه الهيمنة، مع ظهور محتشم لعنصري النار والماء، العنصر الأكثر أنوثة واتساقا من النار، العنصر الأثبت الذي يترامز مع قوى إنسانية أكثر خفاء، وبساطة وتبسيطاً ، ، فإذا كانت التربة / الوطن الموضوع المفضل للشاعر سعيد هادف فإنها أيضا موضوع شعراء عالميين من مثل آرثر رامبو وروائيين محليين محمد العرجوني...، مثلما أن الهواء بتعاليه وسموه هو عالم نيتشه والمتصوفة، كما أن الماء يمثل عالم فريدريش هولدرلين وطاغور وبدر شاكر السياب والروائي جوزيف كونراد... ، في حين أن النار، هي عالم هوفمان وبول إيلوار وأبو العلاء المعري ودانتي....
والملفت للنظر، هو هذا الغياب الذي تشهده الألوان على مستوى المتن الشعري، التي هي أشد ارتباطا بالأرض، فالأرض هنا لها حالة جفاف، تنتظر موسم آخِتْ لتحيا من جديد، وآخت هو البداية، هو الخصب، هو النبؤة، هو الكلمة، التي من خلالها تنفجر الحياة، لتهب لنا ألوانَها المفعمة بروحها؛ لكن مسار هذا المتن الشعري لا يهب لنا ألوانا، بقدر ما يفصح عن عراقيل تواجه هذه الريح /أي الكلمة / الحقيقة، وبدون آخِتْ لن يكون هنالك موسم بروييت (النمو) ولا موسم شومو (الحصاد)، وهو ما يمثله المقطع الشعري المدون على ظهر الغلاف:
للفجر ظلوا يحنّون، حربا..فحربا..
وحين أطلوا على الفجر زاغت بصيرتهم
فجأة، واستداروا خفافا إلى الليل
شدوا عليه بأنيابهم..
مضى الفجر
وأجهش قهقهة لا تزال ترن بأسماعهم.... (مرآة للاستقلال)
فالفجر، هو فجر الاستقلال، وهو بداية كل يوم، وهو مؤشر مُعادل لزمن أكتو أو آخت المفعم بالحياة، لكن هذا الفجر يبقى غير ذي نفع، لأن لا بصيرة لمن انتظروه، فهم عاجزون عن الخطو، بينما القادر على ذلك، هو شاعر مصفد، مكبل، عاجز على أن ينثر الريح على هذه الأرض، فهو "مفعول" لا فاعل، وفعله في لغته، والذات الشاعرة هنا، هي مجاز مرسل لكل الذين أحبوا أوطانهم، واتخذوا من اللغة خيمة في البراري من أجل تسكع شعري، يعيد تفجير اللغة، وتفجير ما هو مسكوت عنه من خلال الكتابة على الهامش، فالشعر والفن يتعاليان عن العقلي وعن الموضوعية، ويصِلاننا بأهم حقيقة، وهي حقيقة مشاعرنا وحدوسنا، ونصل إلى هذا الوعي عبر الخيال وليس عبر العقل ، لأن مناطق العقل البعيدة عن الوعي تستقبل أكثر ألوان الحكمة عمقا .
وتستقيم الكتابة على الهامش التي يتبناها الديوان مع تصوره العام، فالهامش مجال للحرية، مجال للإبداع، بٌعدٌ عن التنميط الذي يفرضه المركز، هذا الأمر نجده أيضا على مستوى بنية القصيدة، حيث يتخذ الشاعر من شعر التفعلية عمودا لهذه الرؤية، التي يتشارك فيها مع شعراء متصوفة من مثل جلال الدين الرومى، فعلى الرغم من أنه وضع ديوانه (المثنوى) على قاعدة النظم الذى يعرف فى العربية بالمزدوج، والذى يعتمد فى التقفية على توحيد القافية بين شطرى كل بيت ، بحيث تتحرر المنظومة من القافية الموحدة؛ إلا أنه يعود فيضيق بتحكم التفعيلات فى آفاق النقش بالكلمات، فيقول:
إِنَّنىِ أُفَكِّرُ فىِ القَافِيَةِ ، وَحَبِيبِى يَقُولُ : لاَ تُفَكِّرَ فىِ شَئٍ سِوَاى !
ويقول :
المعْنَى فىِ الشِّعْرِ ، كَحَجَرِ المِقْلاَعِ ، لَيْسَ لَهُ اتِّجَاهٌ مُحَدَّدٌ .
وفي ختام هذه المداخلة يمكن أن نقول، أن غنى وثراء أي تجربة شعرية أو أدبية، هو من دقة التصور الذي لصاحبه، وكما قال السيد المسيح "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ " .
مرفق بالمصادر والمراجع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المقاومة تطلق قذائف الهاون في اشتباكات مع الجيش بقطاع غزة


.. الاحتلال ينسحب من مخيم بلاطة في مدينة نابلس




.. شهود عيان يرصدون اقتراب سفينة كبيرة من شواطئ مدينة غزة


.. مراسلة العربية: صاروخ من جنوب لبنان يقتل سائق شاحنة عسكرية إ




.. بسبب الحرارة الشديدة.. بنغلاديش توقف المدارس لأسبوع