الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنون ، وضياع … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 12 / 16
الادب والفن


اكثر ما كان يثير فضولي ، ودهشتي ، ولا يبتعد كثيرا عن مخيلتي اليافعة ، ما كنت اراه يوميا من انتشار حالات الخبل المجاني في حينا الفقير البائس كأنه طاعون ، وانتشر …
امرأة مكومة في ركن منعزل .. يصفعها هواء الشتاء البارد ، مهلهلت الثياب ، منكوشة الشعر ، هزيلة البناء ، كظل انسانة لعبت بها المقادير .. ملامح صامتة لا تعكس اي معنى او تعبير .. تناجي في سرها احلاما وردية ، تضحك ببله عن اسنان سوداء مبعثرة ، لا تبالي بلغط المارة ، وسخريتهم .. لها عالمها المبهم ، تنطوي عليه بمعزل عن عالم الاخرين .. يطوقها صمت نادر لا تخدشه سوى أنّاة الرياح الباردة .. جثة منسية تتحرك فوق الأرض كأنها لاشئ … انها فوزية المجنونة !
العالم حولنا مليء باسئلة ، واسرار لا يُسبر لها غورا ، ولا يُعرف لها تفسيرا .. لعقل بكر .. لا يزال طفلا كعقلي !
التصق بذاكرتي الى الان .. ما كان يوما من ايام الشتاء الباردة .. تجمعت فيه قطعان من السحب الداكنة ، والعابسة .. تنذر بعواصف ، وامطار .. نسمع كما كل يوم ، قرعا على صفيحة فارغة تُخرِج ايقاعا .. ضجيجا من نوع ما ، تصاحبها اصوات طقطقات بلا معنى تخرج من شفاهٍ جافة سوّدها الدخان ، وسوء التغذية ..
تتشكل شبه دائرة حول مهدي .. من اطفال ، وصبيه بالرغم من ملامح الجو الغاضبة .. بقايا شاب يفترسه جنونٌ فرضته عليه الاهوال ، والمصادفات القاسية .. يعتريه ذبول الايام ، ومعاناتها .. في عينيه حزن يمتد عمقه سنوات طويلة الى الوراء .. لا تستره الا اسمال بالية لم يبقى من جنسها شئ .. بنيان انساني قائم ، وتهدم .. في مشهد كوميدي اسود يفتقر الى الفكاهة ، ويبعث على الحزن !
انتشرت الاشاعات كالرذاذ تتحدث عن اسباب جنونه .. فمن قائل قد يكون حبا فاشلا ، او صدمة سببتها خسارته لامواله في مغامرة طائشة غير محسوبة ، وقد وقد .. لكنه جنون على اية حال .. كغيره !
نسوة واقفات على ابواب البيوت في ترقب .. يلقين عليه نظرات حزن محايدة .. نعياً لشبابه الضائع المهان ، ومصيره التعس .. حملت اليَّ ذرات الهواء بعضا من كلماتهن : مسكين ، حرام … !
في غزارة الضجيج ، والبهجة .. تشتعل الحركة في الاجساد العطشى الى المرح المجاني ، ورغبة ملحة في تناسي الواقع المر .. يشاركه البعض الرقص دون ايقاع ، والغناء دون طرب .. باغراء من ضرب يخرج مرسلا .. هائما من الصفيحة الجوفاء تتلقاه الاجساد الراقصة فتتمايل بهدوء ، وخجل .. جسده كله يشارك في الرقص دونما توازن يذكر .. ! ثم يلقي فجأةً بالصفيحة جانباً بحركة لا معنى لها .. بعد ان يأخذه حماس الجنون ، ويتلوى برشاقة الطير كما تتلوى السنة اللهب ، وهو يفرقع باصبعيه في الهواء .. مبتهجا ايما ابتهاج .. !
يتساقط المطر بتثائب ثم ينهمر .. يواصل مهدي ممارسة طقسه اليومي بلا ادنى مبالاة لكل ما يدور حوله من اهوال .. نظرات تتوزع بين ازدراء بارد ، ورثاء .. يستمر طقس الجنون ، وضجيجه دون تحفظ ، ولا مراعاة لشئ محدد .. وفي كل يوم يمر كان الجنون يسرق جزءً مهما من عمره الضائع !
كان الجميع بحاجة الى نفحات من دفء بعد التعب .. ينسحب الراقصون تحت وطأة المطر ، وهبات الهواء الباردة .. بعد ان غسلت الامطار الحي من ترابه ، ولوثت ارضه بالطين .. تغوص الاقدام العارية في الوحل دون واعز من احساس او مبالاة .
يتناثر الماء المعفر بالطين من الحفر المنتشرة عندما يخوضها الاطفال المزكومين باقدامهم العارية ، وتنتشر روائح العفن التي ايقظها المطر .. ترتجف الاجساد الهزيلة من لسعات البرد .. ضبطتُ دهشتي ، وانا ازفر في أسف .. امام هذا المنظر السريالي العابر !
يبقى مهدي صامدا منتعشا كعصفور مبلل محافظا على ايقاعه المجنون بسرور ظاهر كمن له الارض لوحده .. مجرداً من اي احساس بما يحيط به من برد ، وبلل .. تاركاً الحرية لقدميه تقودانه وسط تلافيف الشوارع ، وازقة الحي الضيقة ، وبيوته المتعانقة بلا انسجام ، ولا مودة .. يتبعه شريط من الصبيان الباحثين عن اللهو البرئ ، وهم يخوضون في الارض الطينية اللزجة ، والقاذورات .. يوزع افراحه ، والمه فُتاتاً كأنه ملكٌ مخلوعٌ يعود منتصراً الى عرشه …
بعد ان تسللت برودة الجو الى عظامه ، يتراجع قليلا ليطوي الفصل الاخير من الملهاة العاصفة ، وكأنه قد افرغ كل شحنته .. يُمسك عن الكلام ، والحركة .. وجهه يُشرق بابتسامة ماكرة .. يكشف بشكل مفاجئ ، وبحركة مبتذلة فاقعة .. لا تخطر على بال .. عن مؤخرته ، وهو يربت عليها بسفالةٍ موحية .. ضاحكا بصوت هادر ، ثم يولي هاربا كمهر بري شارد .. ويختفي في طيّات العدم !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا


.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور




.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان


.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل




.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين