الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دي هولباخ  (1723 - 1789)

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2020 / 12 / 17
القضية الفلسطينية



فيلسوف مادي فرنسي، ولد في ألمانيا ولكنه عاش معظم حياته في فرنسا، وأصبح من رعاياها، وتزوج من أسرة فرنسية من خبراء المال، بحيث بات لديه وزوجته دخلاً سنوياً يزيد عن مائتي ألف جنيه.
اعتاد هولباخ وزوجته مدام دي هولباخ "دعوة أصدقائه من الفلاسفة والمفكرين في كل يوم خميس للحوار في كافة القضايا والموضوعات الخاصة بالفلسفة والدين ونظام الحكم، "ولم يكن هناك موضوعات محظور الخوض فيها من قِبَلِهم، أو كما قال موريليه "هذا هو المكان الذي نستمع فيه إلى أكثر المناقشات حريةً وحيويةً وتنويراً وتثقيفاً بالنسبة للفلسفة والدين والحكومة، ولم يكن للهزل أو المزاح الخفيف مجال هناك.. وهناك فوق كل شيء أنار ديدرو عقولنا وألهب نفوسنا، وبلغ صالون دي هولباخ من الشهرة حداً استخدم معه بعض زوار باريس من الأجانب نفوذهم للحصول على دعوة ليحضروا هذه اللقاءات ومن ثم جاء في أوقات مختلفة هيوم وهوراس وفرانكلين وبريستلى وآدم سميث"([1]).
فلسفته المادية: انطلق هولباخ من خطوه أولية رافضاً أي تفسير غيبي للعالم، مؤكداً أن هذا العالم موجود منذ الأزل، وهو عالم مادي يعمل وفق قوانينه العلمية الموضوعية، وكل حركة فيه هي انعكاس لحركة المادة الداخلية باعتبار ان الحركة خاصية من خواص المادة، وكل ما هو في هذا العالم خاضع لقوانين المادة.
هاجم هولباخ الدين والفلسفة المثالية، وخاصة نظريات بيركلي، ووصف المثالية بأنها مسخ يتعارض مع الحس المشترك، ونسب أصل الدين إلى الجهل وإلى خوف الأغلبية وانخداع البعض.
يعتقد هولباخ أن المادة "هي كل ما يؤثر – بطريقة أو باخرى- في احساساتنا"، وهي تتألف من ذرات غير قابلة للتحول ولا للانقسام، صفاتها الأساسية هي الامتداد والوزن والشكل وعدم القابلية للاختراق. كما اعتقد أن الحركة – وهي صفة أخرى للمادة- هي حركة آلية بسيطة للأجسام في الفضاء، وقرر هولباخ، أن الإنسان جزء من الطبيعة وخاضع لقوانينها، وقد دافع عن الحتمية ولكنه فسر السببية بطريقة آلية، وانكر الوجود الموضوعي للصدفة وعرفها بأنها ظواهر أسبابها غير معروفة، وفي مجال نظرية المعرفة كان هولباخ يميل نحو الحسية ويعارض اللاأدرية.
كما رفض هولباخ كافة الاخلاق والقيم المرتبطة باللاهوت المسيحي، مؤكداً على الضمير الاخلاقي الطبيعي للإنسان وتربيته السليمة بغض النظر عن ديانته ومعتقداته.
ولكونه فيلسوفاً مادياً ملحداً، فقد توثقت صداقته مع الفلاسفة الماديين الفرنسيين خاصة: ديدرو، هيلفيتيوس، دالمبير.. وغيرهم، كما كان صديقاً لجان جاك روسو الذي لم يوافق هولباخ في إلحاده.
يقول ديورانت: "لم يكد أحد يرتاب في أن هولباخ كتب مثل هذا الدفاع القوى عن الإلحاد في كتابه "نهج الطبيعة"، ولذا "كان طبيعياً أن يؤمن البارون دى هولباخ بإمبراطورية العقل، فقد كان هواه، أن يضع الفضيلة والمبادئ القويمة في المقام الأول وكان من العسير عليه أن يضمر الكراهية لأي من الناس، ومع ذلك كان لا يستطيع دون جهد جهيد أن يخفى مقته الصريح لرجال الدين.
يقول هولباخ في كتابه "نظام الطبيعه": ان مصدر شقاء الانسان يعود إلى جهله بالطبيعة وبالأوهام الدينية التي يجب مقاومتها للخلاص منها، ومن ثم إحلال النظرة المادية العلمية بدلاً منها"، وقال: "ان الطبيعة تعمل بموجب سلسلة من القوانين دون أي دور للآلهة، كما وجه نقداً قاسياً إلى نيوتن حينما استمر في ايمانه بالميتافيزيقا لانه اعتبر ذلك نقيضاً للاكتشافات العلمية التي قدمها نيوتن وخاصة قانون الجاذبية".
ويضيف "هولباخ" في نفس الكتاب قائلاً: "اذا عدنا إلى البداية نجد أن الآلهة قد وجدت في نفوس الناس بسبب الخوف والجهل أو بعبارة أوضح، فان الجهل والخوف بين الناس هما مصدر تصور الناس بوجود آلهة، وان الوهم والخيال والحماسة والخداع زَيَّنتها او شَوهتها، والضعف عَبَدها، والتصديق والتسليم وسلامة النية حافظت عليها، والعرف يحترمها ويوقرها، وحكم الطاغية يؤيدها كي يستخدم عمى الناس وغفلتهم لمنافعه ويسخرهم لمصالحه"([2]).
ومن هنا " ساند دي هولباخ "دائرة المعارف" أكبر مساندة وأسهم فيها بماله ومقالاته. وطمأن ديدرو وشجعه حتى حين تخلى دالمبير وفولتير عن المشروع"([3]).
في 1761 صدر كتاب عنوانه "المسيحية في خطر" كتبه أساساً هولباخ، وكان الكتاب هجوماً مباشراً على التحالف بين الكنيسة والدولة، كما أنه استبق حقاً وصف ماركس للديانة بأنها "أفيون الشعوب"، يقول هولباخ: "إن الديانة هي فن تخدير الناس بالحماسة لتَحُولْ بينهم وبين مناهضة المساوئ والمظالم التي يعانونها من حكامهم، ولم يعد فن الحكم إلا مجرد الإفادة من أخطاء وخمول الذهن والنفس، وهي ما غرقت فيه الأمم بفعل الخرافة، وبتهديد الناس بالقوى الخفية استطاعت الكنيسة والدولة أن تفرضا على الناس أن يعانوا ويحتملوا في صمت ما يلقون من عنت وشقاء من القوى المرئية، وفرض عليهم أن يأملوا في السعادة في الحياة الآخرة إذا وافقوا على أن يكونوا بائسين في هذه الحياة الدنيا".
ورأى دي هولباخ في اتحاد الكنيسة والدولة السيئة الجوهرية أو الشر الأساسي في فرنسا، حيث يقول: "إنى بوصفي مواطناً أهاجم الديانة لأنها تبدو لي ضارة بسعادة الدولة، معادية للعقل البشري، ومناقضة للفضيلة الحقه أو الخلق القويم، ويضيف قائلاً: "إن المسيحي يُلَقَّن، بدلاً من الفضيلة والأخلاق القويمة، الخرافات الخارقة القائمة على المعجزات والمبادئ والتعاليم البعيدة عن التصديق لديانة تتنافى تماماً مع العقل السليم"([4]).
موقفه السياسي:
"في مجال السياسة كان يؤيد المَلَكية الدستورية، ولكنه في حالات محددة دعا إلى الحكم المطلق المتنور، وكان مثاليا في تناوله للمجتمع، حينما يقول: "إن الآراء تحكم العالم"، ونسب الدور الحاسم في التاريخ إلى المُشَرِّعين، كما كان يرى في التربية وسيلة لتحرير الانسان، وقد ذهب هولباخ إلى أن جهل الجنس البشري بطبيعته الخاصة قد وضعه تحت نير الحكومات، وكان يعتقد أن المجتمع البورجوازي مملكة للعقل"([5]).
إن دي هولباخ رأى عالماً يسوده البؤس والشقاء، حيث يحكمه الملوك والقساوسة ومن ثم خلص إلى أن الناس سيكونون أسعد حالاً، لو أنهم وَلُّوا ظهورهم لرجال الدين والملوك واتَّبعوا رجال العلم والفلاسفة.
يتفق دي هولباخ مع لوك وماركس في أن العمل هو مصدر الثروة، "ولكنه مثل لوك يبرر الملكية الخاصة على أنها حق للإنسان نتاجاً لعمله وحده، ويجدر أن تنفصل الكنيسة والدولة كل منهما عن الأخرى تمام الانفصال.. ويجب –كما يقول هولباخ- أن تُعَامَل الجماعات الدينية على أنها هيئات متطوعة تتمتع بالتسامح ولكن لا تحظى بأي دعم أو تأييد من الدولة، وينبغي على كل حكومة ملتزمة جانب الحكمة والعقل أن تسد الطريق أمام أية ديانة أو مذهب للجوء إلى التعصب أو الاضطهاد"([6]).
في موقفه المعادي للاستعمار، يسدد هولباخ طعنة عابرة إلى بريطانيا التي التهمت الهند وكندا  فيقول: "هناك شعب يبدو أنه في نشوة جشعة أعد مشروعاً متطرفاً لاغتصاب تجارة العالم وتملك البحار – وهو مشروع ظالم جنوني، يؤدي تنفيذه إلى نوع من الخرافات يصيب الأمة التي تسير وراء هذا الخَبَل، وسيأتي اليوم الذي يقذف الهنود هؤلاء الأوربيين من شواطئهم حين يتعلمون منهم فن الحرب.
دعا هولباخ إلى نهج سياسي اقتصادي في إطار الديمقراطية والدولة متوافقاً مع جون لوك في حماية الملكية الخاصة، مع اهتمامه بإنصاف الفلاحين والعمال منعاً لأي انفجار اجتماعي.
ويميل دى هولباخ إلى الاخذ بسياسة عدم التدخل (حرية التجارة والصناعة) "لا يجوز للحكومة أن تعمل للتاجر شيئاً إلا ان تتركه وشأنه، وليس على الدولة إلا أن تحمي التجارة. إن الأمم التجارية التي تهيئ لرعاياها أكبر قدر من حرية التجارة لابد أن تثق في أنها ستفوق غيرها من الأمم سريعاً"([7])، ولكنه نصح الحكومات بالحيلولة دون تركيز خطير للثروة. ويقتبس عن طيب خاطر عبارة "سانت جيروم" الرشيقة اللاذعة "الرجل الغني إما وغد أو وريث أحد الأوغاد".
وفي رأي هولباخ –كما يقول ديورانت- "أن كل الملوك يتحالفون مع الأقلية البارعة الذكية لاستغلال أغلبية الشعب – ويبدو أنه كان يفكر في لويس الخامس عشر يقول: "إنا لا نرى على وجه هذه البسيطة إلا ملوكاً جائرين ظالمين، أوهَنَهُمْ البذخ والترف وأفسدهم الرياء والتملق، كما لَوَّثَ الفجور والفسق أخلاقهم، ودفعهم الدَّنَسْ إلى الشر والخبث، لا يتَحَلُّون بأية مواهب أو قدرات أو بمكارم الأخلاق، عاجزين عن بذل أي جهد لخير الدول التي يحكمونها، ومن ثم فإنهم لا يهتمون إلا قليلاً بمصلحة شعوبهم، مستهترين بواجباتهم التي غالباً ما يجهلونها في الواقع، وعلى هذا، فإن أي مجتمع يمكنه في أي وقت أن يسحب –كما يقول هولباخ- هذه السلطات إذا لم تعد الحكومة تمثل الإرادة العامة" وهنا يتمثل صوت روسو والثورة"([8]).
استناداً إلى موقف هولباخ، اتخذ شباب المتمردين من الفلسفة المادية سمة للبسالة والشجاعة في الحرب ضد الكاثوليكية، ودخلت فلسفة دي هولباخ إلى روح الثورة الفرنسية قبل روبسبيير وبعده.
وإنا لنسمع –كما يقول ديورانت- "أصداء كتاب "منهج الطبيعة" في كامي ديمولان ومارا ودانتون.
أما في ألمانيا فإن مادية دي هولباخ وتشكك هيوم، هما هما اللذان أيقظا كانط من "سباته العقائدي" وربما –يقول ديورانت- "ورث ماركس بطرق غير مباشرة تعاليمه المادية عن دي هولباخ "([9]).
بسبب فلسفته المادية ومواقفه الجريئة ضد الكنيسة، تم احراق أهم كتاب له – وهو كتاب "نظام الطبيعة" (1770) – بصورة علنية بأمر من برلمان باريس، أما مؤلفاته الأخرى فهي: "المسيحية المقنعة" (1761)، "اللاهوت الحمال" (1768)، "الاحاسيس الطيبة، أو الأفكار الطبيعية معارضة للأفكار المتجاوزة للطبيعة" (1772)"([10]).
 
 
قالوا عنه:
·     إن دي هولباخ أكثر من فولتير وأكثر من ديدرو، هو أبو الفلسفة والهجوم العنيف على الدين في أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر (فاجيه).
·     "لقد كان هولباخ مُنَظِّر البورجوازية حتى النخاع.. لكن البورجوازية، التي كان ممثلها والمحامي عنها، كان يرى فيها الفئة الأكثر استقامة والأكثر اجتهاداً والأكثر كرماً والأكثر ثقافة. أما بورجوازية اليوم فما كانت إلا لتذعره" (بليخانوف) ([11]).
 


([1]) ول ديورانت– قصة الحضارة "أوروبا الوسطى" – المجلد التاسع عشر- ترجمة: فؤاد أندراوس و محمد علي أبو درة.  -ص  134 / 135
([2]) ول ديورانت– قصة الفلسفة– ترجمة:د.فتح الله محمد المشعشع- مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م  – ص289
([3])ول ديورانت –  مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة – المجلد التاسع عشر -ص  136
([4]) المرجع نفسه –  ص  138
([5])م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية – دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 564
([6])ول ديورانت –  مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة – المجلد التاسع عشر –ص  152
([7]) المرجع نفسه –ص  152
([8]) المرجع نفسه –ص  155
([9]) المرجع نفسه –ص  160
([10])م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية – دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 564
([11])  جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987.– ص 717








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تسعى لمنطقة عازلة في جنوب لبنان


.. مسؤولون عسكريون إسرائيليون: العمليات في غزة محبطة وقدرة حماس




.. ما أبعاد قرارات المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر الخاصة بالضف


.. صحيفة إسرائيلية: نتنياهو فقد السيطرة ما يدفعه إلى الجنون وسق




.. ما أبرز العوامل التي تؤثر على نتائج الإنتخابات الرئاسية الإي