الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرامشي وشرعنة الوعي الزائف

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2020 / 12 / 18
الصحافة والاعلام


ملخص حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع مع مصعب قاسم عزاوي

فريق دار الأكاديمية: كيف تنظر إلى العلاقة بين ما يسميهم غرامشي «خبراء الشرعنة» وبين صناعة الدعاية السوداء «البروباغندا» التي تقوم بها وسائل الإعلام في عالمنا المعاصر؟

مصعب قاسم عزاوي: أعتقد أن التعريب الأكثر قرباً من الوعي المفهومي واللغوي عربياً لمن نعتهم غرامشي «بخبراء الشرعنة Legitimation Experts» هو «وعاظ السلاطين»، والذين يمثل كل منهم تشخيصياً عيانياً لنموذج المثقف التلفيقي المناط به القيام بدور «التيس المستعار» لتحليل الاغتصاب الفكري والمعرفي للحقيقة تشويهاً أو تغييباً أو تحريفاً أو اجتزاءً فرادى أو مجتمعين وبدرجات تختلف في حدتها وتلاوينها.

وعربياً فإن بواكير ذلك النموذج يمكن النظر إليها تاريخياً في نموذج «الأبواق الإعلامية» التي يتنطع إلى تقمصها «الشعراء المرتزقون» لدى من يرغب ويستطيع على شراء «مديحهم المأجور». وعالمياً فإن الصعود التاريخي لتلك الصناعة على المستوى الكوني كان مقروناً بالنجاح الهائل لآلة صناعة الكذب والدعاية السوداء «البروباغندا» في الولايات المتحدة إبان انخراطها الفعلي في الحرب العالمية الأولى، حين لم يكن الشعب الأمريكي راغباً بأي شكل من الأشكال بالانخراط فيها نظراً إلى أنها لها استطالة للنموذج الوحشي لحروب الأوربيين فيما بينهم، والتي كان غالبية المهاجرين إلى أمريكا الشمالية من الهاربين من نموذجها التفنني في الاستغلال وتحويل الإنسان إلى عبد فعلي لا ينقصه سوى الأغلال وظيفته الحصرية خدمة الآلة الرأسمالية الإمبريالية سواء كعامل أو جندي أو مستهلك لنتاجها ما لم يكن من النخبة المسيطرة على مقاليد السلطة والثروة في تلك المجتمعات.

وفي هذا السياق برزت الأهمية الفائقة لإنجاز غول البروباغندا الذي تمكن من خلال ذوائبه الإعلامية من تحويل الرأي العام في الولايات المتحدة في تلك الفترة من رافض مطلق للانخراط في الحرب إلى رأي عام سُعَاريٍّ يحركه وعي قطيعي غريزي يتوق لنهش أوصال الأوروبيين بالمخالب والأنياب الأمريكية. وكان ذلك الإنجاز بمثابة التتويج لصناعة البروباغندا كأحد أهم الصناعات التي يقوم عليها النظام الاجتماعي السائد في الغرب راهناً، والمناط بها الحفاظ على ديمومة وتأصل حالة من «الوعي الزائف» بحقائق الأمور المرتبطة بشكل لصيق بما يشترط للسياسة الحقة أن تقاربه في تلك المجتمعات من أصغر الأمور إلى أكبرها.

وهي صناعة آخذة بالتآثر العضوي مع منتجات العولمة وثورة الاتصالات بحيث يتم تعظيم حجمها ومساحة فعلها، والبعد الزمني الجغرافي الذي يمكن أن تصل إليه وتؤثر فيه أدواتها. وبشكل عياني مشخص يمكن تلمس مفاعيل النتاج الأفعواني للبروباغندا الإعلامية والتقانية عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي التي تستدعي تدقيقاً وتمحيصاً يحتاج إلى استفاضة مخصصة لها بعينها، أهم ملامحها السهولة و السرعة الفائقتين لقدرات مهماز البروباغندا في زمن العولمة الوحشية على تخليق السُّعار الجمعي الأشوه، وإذكاء وعي القطيع الهائج عنصرياً أو شعبوياً ضد ذلك الآخر المسكين، كما في حالة التركيز المجهري العميق متعدد الوجوه حول أي فعل ترويعي إرهابي قد يقوم به «مسلم ممسوس مكتئب حتى نقي العظم في جسده» لم يعد يرى أي أفق لحياته المحاصرة في المجتمع الغربي الذي يعيش فيه سوى «انتحاره على طريقة شمشون بتهديم كل هيكل حياته عليه وعلى أعدائه» الذين حرموه حق الحياة الطبيعية التي يحكمها التواصل الطبيعي بين حيوانات اجتماعية يدعون بشراً من الناحية التصنيفية البيولوجية.

وذلك المثال الأخير لا يختلف كثيراً عندما تحول وسائل الإعلام العربية وغيرها من تلك العالم ثالثية بفظاظة وهمجية في كثير من الأحيان، ذلك الآخر إلى «شيطان رجيم» لا خيار في التعامل معه إلا «بحد السيف لاستئصال شأفته الغادرة»؛ فيصير ذلك الآخر سنياً، أو شيعياً، أو هندوسياً، أو بوذياً، أو كردياً، أو عربياً، أو مسيحياً، أو يزيدياً، أو صابئياً، أو أرمنياً، أو شيشانياً، بدل أن يكون إنساناً يتألم، ويتوجع، ويجوع، ويحلم بسقف فوق رأسه، وعائلة يعيش بينها ولها ككل حيوان اجتماعي من فصيلة الإنسان الحكيم من الناحية التصنيفية البيولوجية فقط.

وقد يكمن الدور الوظيفي الأكثر جوهرية للبروباغندا متمحوراً حول تأصيل وتوطيد ذلك الخوف السرمدي من ذلك الآخر الوحشي الذي ينتظر الانقضاض على كل من حوله سواء كان ذلك وحشاً ظلامياً بعقيدة متطرفة يرجح أن تكون إسلامية حسب المزاج الدارج راهناً، بعد أن كانت شيوعية في مرحلة الحرب الباردة، وهو ما يقود إلى نكوص غريزي على المستوى الجمعي إلى حالة من «الانسحاب الاجتماعي» والنكوص إلى هياكل ومنظومات ما قبل وطنية سواء كانت قَبَلِيَّة، أو مذهبية، أو طائفية، في ميل فطري لحفاظ الإنسان بشكله المستحدث بصيغته الرأسمالية كحيوان «لا اجتماعي» و «لا سياسي» لا خيار له إلا بالقبول بأي ما قد يسهم في حفاظه على كينونته البيولوجية المحضة، وهو ما نراه بشكل محض ومؤلم في نكوص معظم الأقليات سواء كانت إثنية، أو فكرية، أو أيديولوجية، على المستوى العربي والكوني في غالب الأحيان إلى واقع لا يتغاير كثيراً عن ذلك التوصيف.

وعلى مستوى العالم الغربي بالخاصة، فإن الدور الوظيفي لذلك النموذج الوحشي من البروباغندا يتمثل في «صناعة الاستسلام والخضوع والقبول بالاستبداد وعبر الطرق الديموقراطية»، وتقليل الحاجة إلى التزويق والتنميق لإخفاء الوجه القبيح لذلك الاستبداد. وهو ما تجلى في تراجع المجتمع الأمريكي مثلاً عن كل مكتسبات الديموقراطية الشكلية فيه، إبان غزو أفغانستان في العام 2001، عبر تخويل رئيس الولايات المتحدة بشكل لا يختلف عن التخويل الذي كان يتمتع به ديكتاتور روما، في شن الحرب التدميرية، والقتل بحجة الشك فقط ودون الحاجة إلى محاكمة عادلة ودفاع المتهم عن نفسه قبل إدانته بالشكل المشترط في جوهر القوانين الأنجلوسكسونية، و المتمثل في المبدأ القانوني بأن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، وهو ما تَطَفَّر في حقبة الرأسمالية الإمبريالية المعولمة ليصبح جزءاً عضويا منه مبدأ الاعتبار الاعتباطي بأن «شعباً بأكمله مجرم، ولا دية له ولا شفيع له من قرار خصيمه الذي هو حكمه بنفس الوقت بإعدامه كليانياً حاضراً و مستقبلاً».

وهو واقع يحيل المجتمعات ذات البنى الديمقراطية الشكلية القائمة في الغرب إلى مجتمعات استبدادية بلبوس ظاهري شكلي يتكنى بالديموقراطية والمؤسساتية التي نجحت آلة البروباغندا في التغول عليها وإرغام شعوب تلك المجتمعات بالقبول بتلك المعادلة التي أدخلت مجتمعاتها في صيرورة تنكسية لا تختلف في مآلاتها ونتائجها الصارخة و المضمرة عما يجري في قلب المجتمعات الاستبدادية التقليدية في العالم الثالث، وعربياً بشكل أكثر تشخيصاً، إلا من الناحية الشكلية التي لا تفلح أدوات تخليق الوعي الزائف في تعمية جوهرها الاستبدادي المقيت على كل ذلك عقل وجنان لم يطله سرطان البروباغندا حتى الآن.

وعلى الصعيد العياني المشخص، يقوم وكلاء الدعاية السوداء والبروباغندا بتلبس غير لبوس حسب الحاجة والضرورة السياقية لذلك، فيتحول أولئك المرتزقة بين أشكال وتلاوين مختلفة تتراوح بين الخبراء الإعلاميين، والمحللين السياسيين، والخبراء البحثيين Think Tanks، والأكاديميين المتخصصين لإرغام المتلقي لخطاب أولئك المتنكرين على قرنها فطرياً بالتبجيل الغريزي في وعي الإنسان لكل ذي خبرة، والتي مثل تراكمها - أي الخبرة الجمعية- الأداة الجوهرية و الوسيلة شبه الوحيدة التي مكنت جنس البشر من الحفاظ على وجودهم البيولوجي في صيرورة تطورهم التاريخي الذي امتد على سبعة ملايين من السنين. وهو ما يفتح لأولئك الخبراء الخلبيين الباب على مصراعيه لإعادة صياغة الحقيقة وتعريفها وتشكيل حدودها بالشكل الملائم لمن يحركهم ويملي عليهم المطلوب منهم القيام به؛ فيقومون بإعادة صياغة التعريفات والمفاهيم والتاريخ والمناهج الدراسية والحق والباطل وحتى الأصول للأديان والمذاهب، في مهزلة على طريقة الكوميديا السوداء، التي لا خيار لمتلقيها إلا القبول بها، بعد أن يصبح تكرارها الببغائي بكرةً وعشياً وعبر كل منبر إعلامي الوسيلة الأكثر نجاحاً في تحويل الأكاذيب إلى حقائق علمية محضة، بحسب الطريقة النازية في صناعة الإعلام، والتي لا زالت المدرسة والكتاب المقدس لكل المؤسسات الإعلامية المستبدة في عالمنا الراهن، مع بعض التزويق الظاهري للفجاجة النازية في مقاربتها لنهج «صناعة الوعي الاجتماعي الزائف» الذي يصبح في المآل الأخير «الحقيقة المطلقة اليومية»، والتي يراد بها تحريك وتوجه وعي «القطيع الشارد» الذي لم يعد فيه حيز «لعقل الإنسان النقدي الأصيل الحر»، الذي لا بد من القبول بتسليم رسن قيادته إلى أولئك «الخبراء» الخلبيين سواء كانوا من السياسيين المصطنعين، أو غيرهم من فئة «التكنوقراط التلفيقي»، والذي دون حكمتهم فلا مناص من أن يسري ذلك القطيع الهائج بعديده إلى حافة الجرف والهاوية. فأهلاً بالمنقذين المخلصين وهنيئاً لآلة البروباغندا في نجاح عرضها المسرحي الأخاذ المنقطع النظير!

ويستقيم في هذا السياق فعلاً التساؤل عن دور ذلك المثقف الحر والإعلامي النظيف في كشف الحقيقة وتقديمها دون أحابيل «دس السم في الدسم»، اتساقاً مع طهرانيته الوجودية، والتزامه الأخلاقي بأن يقول الحقيقة بغض النظر عن تبعاتها الموضوعية أو الذاتية عليه، وهو تصور طوباوي غير قابل للتحقق في غالب الأحيان واقعياً، إلا في حالات استثنائية نادرة تماماً. فالحقيقة هي إمساك المتحكمين بالسلطة والثروة والإعلام بمفاتيح ترويض وتوجيه من يتغولون عليهم من البشر المستضعفين في حيواتهم اليومية عبر القبض على تلابيب قوتهم وقوت من يعيلونهم، بأقل التوصيفات مرارة، والتي قد تصل في تراجيديتها إلى حالة التهشيم الجسدي الكلياني بهراوات العسس والبصاصين في النظم الاستبدادية التقليدية كتلك التي يعيش أبناء العالم العربي في محيطها الجغرافي، أو الإفناء والتغييب والقتل برصاص مجهول كما حدث مع مارتن لوثر كينغ في متراس «الحرية والتمدن» في الولايات المتحدة. والأمثلة على ذلك لا حصر لها في وجدان كل مجتهد لم تنخر ذاكرته ديدان البروباغندا.

وذلك السياق التوصيفي الأخير يجعل إمكانية طرح رأي مستقل صدوق مخلص حر شبه معدومة من الناحية العملية حتى لو كان اللجام والرسن على حرية التعبير غير محسوس فعلياً أو غير معبر عنه بشكل قانوني أو مؤسسي محض، و يجعل الخيار الأكثر استسهالاً وأقل كلفة مادياً ومعنوياً على الإنسان «المهزوم» حينئذ هو استبطان مقول آلة البروباغندا، ومن يقوم بصناعة أجندتها الاستراتيجية والتكتيكية من أهل الحل والعقد في مراكز السلطة والثروة، وإقناع الذات بأن تخرصات البروباغندا حقائق غير قابلة للدحض؛ إذ أنه من الصعب دائماً على الفرد قول شيء والاعتقاد بعكسه، فذلك يهشم وعي الفرد باتساق صورته في منظاره الذاتي، ومنظار من يحيط به، مما يجعل الانزلاق إلى عمق الاعتقاد الجمودي بعلوية وصدقية تلك التخرصات أسهل السبل للحفاظ على الحياة وإبعاد شبح الوعي المأزوم و«الجنون» عن عقل صاحبه. وهو الوعي التلفيقي بتلك التخرصات الذي يعيد إنتاج نفسه و يعززها بشكل يومي من خلال انفتاح كل آفاق العمل الرغيد، والوصول إلى مراكز السلطة والتأثير والحياة الميسرة بعد استبطان صاحبه بصورته النكوصية «كتيس مستعار» للوجبات و الأدوار الوظيفية المناطة به، المتمثلة بإعادة إنتاج وتغليف وتسويق نتاج آلة البروباغندا المرتبطة عضوياً بآليات عمل السلطة والثروة في المجتمع، بطريقة مستجدة، تضمن له الحفاظ على قوته وسلامته الجسدية وعمله كبرغي وظيفي في جسم آلة البروباغندا ونسيج الفئات المهيمنة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.


وفيما يتعلق بالأدوات التنفيذية لصناعة البروباغندا، مشخصة بوسائل الإعلام التقليدية، وتلك المستحدثة منها عبر ما تمخضت عنه ثورة الاتصالات، وخاصة تلك التي تنضوي تحت مظلة «وسائل التواصل الاجتماعي»، و المؤسسات الإعلامية على شبكة الإنترنت «Online»، فقد يكون الشكل الأكثر سهولة في توصيفه هو نموذج المؤسسات الإعلامية شبه الرسمية، وشبه الرسمية التابعة للنظم الاستبدادية العالم ثالثية، ومثالها النموذجي وسائل الإعلام الرسمية الفظة في عالمنا العربي والتي أبدعت وما زالت تبدع في فنون العزف على أبواق الكذب الفج وأغاني الأفاقين الذين يريدون من مستمعيهم تصديقهم بقوة السيف والكرباج و عسف الاستبداد. وهو نموذج أقرب إلى البدائية في صيرورة التعضي والتعقد المستمر لآليات عمل صناعة البروباغندا على المستوى الكوني، وهو أسهل النماذج على المتلقي لتفكيك هرائيتها وكذبها الصرف غير المنقى، وهو ما يجعل الجهاز المناعي الفكري للإنسان الاعتيادي شبه مبرمج بشكل غريزي للتعامل مع ذلك المستوى الرقيع من الفظاظة والكذب التبجحي وتفكيك أدواته السمية وتعطيل قدرة ذيفاناته على تخليق الوعي الزائف المراد تحقيقه، والذي يتم استبداله في حالة النظم القمعية الاستبدادية بنموذج من الصمت المقيم والنكوص عن إعلان الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكلها الواقعي دون تزيين ليس لاقتناع بعكسها أو نقائضها، وإنما خوفاً ورعباً من عقابيل التصدي لمهمة إشهارها، والدفاع عنها، والتي تعني مواجهة مع الآلة القمعية الهمجية للطغاة المستبدين، وما يعني ذلك من احتمالات من قهر وقسر وتعذيب وإفناء معنوي واقتصادي واجتماعي و حتى جسدي، بشكل لما تتورع عن القيام بأي من سيناريوهاته السادية البربرية أي من النظم الاستبدادية في أرجاء الأرضين على اختلاف راياتها التي تعلنها وبغض النظر عن التزويق الإيديولوجي الذي تختاره لوجهها الدميم.

أما في الدول النامية السائرة في ركاب الانفتاح وشروط الاقتصاد الكوني المعولم والنظم الاقتصادية الاجتماعية لتلك الدول التي يرسمها صندوق النقد الدولي أساساً بالتعاضد مع البنك الدولي، فهناك نموذج من وسائل الإعلام العاملة في اقتصاد السوق كأي مؤسسة ربحية منخرطة عضوياً في نسيج العلاقات الاجتماعية التي يرسمها ويحدد شروطها وتفاصيلها قوانين اقتصاد السوق، والقائمة على «تعظيم الربح والحفاظ على مصادره بغض النظر عن أي تبعات جانبية لذلك» سواء كانت اجتماعية أو أخلاقية أو حتى مادية يدفع فواتيرها الآخرون سواء كانوا بشراً أم مؤسسات لم يفلحوا في التكيف من اقتصاد «الغابة والسوق» الذي «لا بقاء فيه إلا للأصلح الفاتك بكل ما قد يعيق وصوله إلى سدرة المنتهى التي ليس هناك سواها» ألا وهي: «تعظيم الربح». وبالنظر إلى أن المحرك الأساسي لتلك المؤسسات الإعلامية السائرة في ركاب اقتصاد السوق هو المبدأ القدسي المتمحور حول «تعظيم الربح بأي شكل كان»، فإن ذلك يعني بشكل عملي بأن تلك المؤسسات لا يمكن أن تكون بأي شكل كان مؤسسات تنويرية أو حتى مؤسسات محايدة إذ أنها مؤسسات تعمل بكل طاقتها لأجل الوصول إلى شريحتها المستهدفة، والتي هي ليست على الإطلاق جمهور المتلقين لنتاجها الإعلامي، كما في حالة قُرَّاءِ صحيفة ما، وإنما هي شريحة المعلنين في تلك المؤسسة، والتي يقترن رضاهم بتعزيز وتعظيم أرباح تلك المؤسسة الإعلامية، والذي في نهج السعي لتحقيق تلك المكاسب يتراجع كل هدف موضوعي لعمل المؤسسة إلى رتبة ثانوية إن لم يكن إلى الخلاء المطلق. وهو ما يعني بشكل أكثر تشخيصاً بأن الجمهور المتلقي لنتاج تلك الوسيلة الإعلامية، وقراء الصحيفة الآنفة الذكر، هم مطية فحسب لا بد من وجودها للوصول إلى الشريحة المستهدفة فعلياً، ألا وهي شريحة «المعلنين». وذلك الواقع المر لشروط عمل المؤسسات الإعلامية يعني بشكل منطقي اندثار وتغييب كل حياد موضوعي، ومعايير أخلاقية للعمل الصحفي الحر، الذي لا يحركه في بحثه الدؤوب عن الحقيقة إلا إيمانه العميق بواجبه الأخلاقي في كشف الحقيقة بغض النظر عن أي تبعات لذلك، في مناخ من حرية التعبير المطلقة المكفولة بحسب ميثاق عمل المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها ذلك الصحفي الافتراضي الحر. و الحقيقة الأليمة المعاشة تشي بأن أي صحفي لم يستبطن شروط الحفاظ على وجوده المهني في المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها، والمرتبطة عضوياً بعدم «إقلاق مصالح» الشريحة المستهدفة فعلياً من تلك المؤسسة الإعلامية، ألا وهي فئة «المعلنين» في صفحاتها أو خلال ساعات بثها، والذين يمسكون أيضاً بتلابيب «السلطة والثروة» في المجتمع والاقتصاد، لا بد أن يكون مصيره الويل و الثبور، إذ يعني عدم تفهمه واستبطانه لتلك الاشتراطات، على الرغم من عدم التصريح بها جهاراً كعماد متطلبات العمل في المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها، مقدمة موضوعية لا يمكن أن تفضي إلا إلى لفظه من جسم تلك المؤسسة، أو في أقله تحجيمه، وتلقينه درساً في الانضباط الذاتي الذي سوف يصبح «مبضع الرقيب» المضمر و الحاضر دائماً في عقل كل صحفي حر، قبل أن ينشز و يقوم بما قد يسول له «قلم حرون» بوضعه على السطور أو فيما بينها. ومثال على «التقليم والتحجيم» الحالة الشائعة بنقل صحفي شاب طامح إلى تحقيق صحفي في الكشف عن بواطن «الفساد والإفساد» وشبكاتهما الاجتماعية ومحركيها في المجتمع الذي يعيش فيه إلى صفحة الفن والطبخ في نفس الصحيفة التي يعمل بها ثواباً على طموحه «المارق» الذي يحتاج إلى «التوجيه والاسترشاد ومراكمة الخبرة الضرورية» قبل الانخراط به، وهو ما يعني فعلياً أن يقضي ذلك الصحفي الباقي من عمره المهني في تغطية أخبار الفنانين ووصفات الطبخ، أو يستبطن «القواعد المضمرة وغير المعلنة» للعمل الصحفي الحر، ويعود لتغطية «الفاسدين الصغار» من فئة أولئك المتلاعبين بأسعار الفواكه والخضروات في سوق قرية ما، أو مقاول مأفون غشاش في كمية الأسمنت في عقاراته، دون التفكر بالاقتراب من حيتان الفساد والإفساد الحقيقيين، إذا أن «مبضع الرقيب الداخلي المستبطن» في عقله يجعل أولئك الأخيرين غير مرئيين، ويجعله مقتنعاً بأن عمله «الصحفي الحر» مثال نموذجي عن الدور الوصفي الذي لا بد لكل إعلامي حر إلا من «رقيبه الداخلي» القيام به.

وذلك النموذج الذي يمثل الصيرورة التي يتم من خلالها تهشيم ووأد كل ممكنات تحقق «عمل إعلامي وصحفي حر»، بشكل غير مباشر، لا بد أن تؤدي لتشكيل نموذج فريد من «الصحفي العقيم»، والذي تم استئصال كل إمكانيات الاختراق وكشف الحقيقة من مناظيره المعرفية، وهو ما سوف يقوده في سياق تحوله وقراءته لذاته، إلى إقناع نفسه بأن مقوله ونتاجه الصحفي هو «الحق الزلال بعينه»، إذ أن «الاقتناع بشيء و قول سواه تعذيب فكري وروحي مضن لصاحبه»، وهو ما يعني هضم المنظومة العقائدية لوعاظ السلاطين لعنصر مستحدث فيها، وهو ما يؤهله ويفتح الأبواب له لقطف ثمار الدعة والانضباط، وما أكثرها، والتي تدفع بصاحبها للانغماس والغرق أكثر في حبائلها و أخاديدها، والإيغال في إيهام نفسه بتصديق ما ينطق به مهنياً وبأحقيته المطلقة، وبذلك تتكامل الشخصية المركبة للواعظ الجلاد، والمثقف البوق، والمحلل السياسي المرتزق، والمفكر التيس المستعار، وكلها توصيفات لمسخ إنساني واحد يتقمص أشكالاً متعددة حسب الحاجة والضرورة لوجوده الوظيفي.

وفي ذلك السياق لا بد من الإشارة إلى نموذج مرهف من تقارب المصالح الوجودي بين المؤسسات الإعلامية السائرة في ركاب اقتصاد السوق، والحكومات والنظم التي تسيطر على المجتمعات التي يمثل جمهورها المطية التي لا بد لتلك المؤسسات الإعلامية من امتطائها للوصول إلى شريحة المعلنين الضرورية سواء كانت محلية أو عابرة للقارات، ولا يغير من حقيقة ذلك التقارب الوظيفي التعايشي كون تلك النظم والحكومات استبدادية مطلقة تحكم بالحديد والنار والجلادين والبصاصين كما هو الحال في عالمنا العربي، أو نظم أمنية منمقة بلبوس ديموقراطي للضرورات الإخراجية على شاكلة النظم السياسية في العالم الغربي، إذ أن جوهر ذلك التقارب هو حاجة تلك المؤسسات الإعلامية للحفاظ على كينونتها القانونية كمؤسسات قائمة بالفعل، دون صعوبات ومطبات تحول دون إمكانية استمرار عملها، بالتوازي مع النظر إليها من قبل تلك النظم الحاكمة على اختلاف أشكالها الإخراجية، كحاجة ضرورية لأجل إكمال الهيكل النموذجي المطلوب للدول الحديثة، والتي تقتضي وجود أبواق ناطقة باسم النظم الحاكمة، بشكل أكثر تنميقاً وتزويقاً عن الفجاجة التي كانت تعمل بها وزارات الإعلام في النظم النازية والفاشية سالفاً؛ وهو ما يولد تعايشاً طفيلياً بين غولين اجتماعيين أولهما الاستبداد وثانيهما الإعلام المدجن وفق قواعد لعبة شيطانية يعرفها جميع المنخرطين بها، دون أن يصرح بها أي منهم، إذ أن اللبيب الداجن من الإشارة يفهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق


.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م




.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا


.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان




.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر