الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدموازيل بيسوري الحياة تزدحم بالوحوش البريئة لشارل بودلير

محمد الإحسايني

2006 / 7 / 18
الادب والفن


بما أنني كنت أواصل سيري قادماً من أقصى أرياض المدينة، وعلى لمعان الغاز؛ فإنني قد أحسستُ بساعد يلتصق بساعدي في لطف، ثم سمعت صوتاً أخذ يهمس في أذني:" هل أنت طبيب يا سيدي؟"
تأملتُ، فإذا هي فتاة ناعس، متينة البنية، نجلاء العينين، كحلتهما كحلا خفيفاً،
يتماوج شعرها في الهواء مع شرائط قبعتها.
"- كلا: لستُ طبيباً، فدعيني أمـرّ."
"ــ يالك من مُنكر! بلى! إنك طبيب، فأنا متيقنة من ذلك يقيناً، فتعال إلى بيتي،
وستُعْجَبُ بي،هيّا!"
ــ بلا ريب، سأزورك، لكنْ بعد فرية الطبيب، ويا للعجب!
ــ أهّاه!أنت طبيب مزّاح، أعرف العديد من الدكاترة من هذا النوع، تعال.
أحب اللغز شغفا، لأن الأمل ظل يخالجني في حله. فجعلْتـُني منقاداً إلى هذه
الرفيقة أسايرها، أو بالأحرى ،منقاداً إلى هذا اللغز غير المأمول حله.
تغاضيتُ عن وصف الكوخ الحقير، إذ يمكن أن يجده المرء عند العديد من
من قدماء الشعراء الفرنسين الفطاحل المشهورين،وبالخصوص،في تفاصيل لم يكشف عنها الشاعرماتوران رينييه وفي اثنتين أو ثلاث صورنصفية للدكاترة المشاهير،لا تزال معلقة على جدرانها.
لـَكـَمْ كنـتُ مدللاً! نار متقدة اتقاداً،نبيذ ساخن،وسجائر،وأنشأت المخلوقة المهرجة تقول لي؛ وهي تقدم إليّ تلك الأشياء الجديدة،وتشعل لي هي بالذات،
سيجارة:" البيت بيتك، يا صديقي، خذ راحتك.إن هذا سيذكرك بالمستشفى، والأيام الغابرة لشبابك ـ عجباً! فمن أين كسبتَ هذا الشعر الأبيض؟ إنك لم تكن
هكذا،ولم يمض بعد إلا زمن يسير،لما كنتَ داخلياً في ال...أتذكرأنك أنت الذي
كنت تحضر في العمليات الخطيرة. تباً له من رجل يحب أن يبتر، ويفصل،
ويقضم! لقد كنتَ تمد له الأدوات،والخيوط،،والإسفنجات. وبما أنه كان يقول في غرور؛ والعملية حاصلة،ناظراً إلى ساعته:" خمس دقائق ليس إلا، يا سيـدي".
بعد بضع لحظات؛ وهي تخاطبني بضمير المخاطب المفرد ـ رافعة الكلفة بيننا ـ
شرعت تكررعلى مسمعي مجدداً لا زمتها وتقول:"هل أنت طبيب، أليس كذلك يا عزيزي؟"

أزعجتني هذه اللازمة المبهمة،وكنت أصرخ حانقاً:"كـلاّ!"
ـ إذن؛ فأ نت جراح؟
ـ كلا، ثم كلا ! إلاّ إذا لم يكن ذلك سوى من أجل قطع رأسك!ياكأس القربان المقدس للقوادة القدّيسة!
استأنفتْ:
ـ أنتظر، سترى.

وسحبتْ من خزانة،إضبارة من الأوراق، لم تكن شيئاً آخر سوى الجمع لصور الأطباء المشاهير، النصفية لذلك العهد،طَبعُها بمطبعة حجرية موران، وقد أمكن للمرء رؤيتُها في كي فولتير،خلال عدة أعوام.
" عجباً!هل كنت تعرف هذا؟"
ـ نعم إنه " ٍٍٍٍِِِِِس" ، ومع ذلك، فاسمه تحت الصورة،بيد أنني أعرفه شخصياً.
ـ كنت أعلم ذلك حق العلم! عجبا؛ فهاهو" ي"، وهو الذي مافتئ يقول لقائــــــــد
السفينة متحدثا عن" س" : هذا الوحش الذي يحمل في وجهه اسوداد نفسه!" وكل ذلك،لأن الآخر،لم يكن في رأيه،ليحشر أنفه في نفس القضية!ولكم كنا
نضحك من ذلك في المدرسة عهدذاك! هل تتذكر ذلك؟ ـ أنظرْ،ها هو ذلك الذي كان يبلّغ الحكومة عن المتمردين الذين كانوا يعـَالـَجون في مستشفاه. كان ذلك في عهد الهياج الشعبي، وكيف، فهل ممكن أن يكون لدى شاب وسيم الطلعة، قليلٌ من الرحمة؟ هــــــــــــا هو الآن طبيب إنجليـزي شهيـــــــــــــر،
لقيتُه في سفره إلى باريس.إن له سمــة فتــاة يانعة، أليس كذلك؟"

وحيث إنني قد تلقيت منها علبة محزومة وُضِعَتْ كذلك على طاولة مستديرة
واقفة على ساق واحدة- اسكملة - ؛ فقدقالت:" انتظرْ قليلاً، فهذه الصورة،هــي
للتلا ميذ الداخليين،و.تلك العلبة للتلاميذ الخارجيين"
ونشرت صوراً فوتوغرافية كثيرة،على شكل مروحية مفتوحة، تمثل وجوهاً أكثر شباباً.
" عندما نتعاشر، ستطلب لي صورتك النصفية،أليس كذلك ياعزيزي؟"
أما أنا؛ فقدقلتُ لها،متابعاً بدوري أيضاً، فكرتي الثابتة. لماذا تحسبينني طبيباً؟
ـ لأنك ظريف، وميّال إلى النساء.
قلت ُلنفسي بالذات:
ـ ياله من منطق غريب!
ـ أوه! قلما أشك في ذلك ، إنني أعرف عدداً كبيراً منهم.
أحب كثيراً أولئك السادة الذين أزورهم أحياناً، مع أنني لست مريضة على الإطلاق؛ بل فيهم آخرون يتفهمونني، لأنني أهش إليهم.
ـ وعندما لايتفهمون؟
ـ طبعاً! وبما أنني أزعجتُهم عبثاً؛ فإنني أترك عشرة فرنكات على الموقد
فما اجمل أولئك الرجال وأحلاهم!
لقد اكتشفت في الرحمة ولداً داخلياً، جميلاً كملاك،ومؤدّباً! ويشتغل الولد المسكين!
قال لي أصدقاؤه إنه لم يملك النقود،لأن أقاربه فقراء،لا يستطيعون أن يبعثوا له شيئاً. لقد طمأنني ذلك.
بعد كل شئ ؛فأنا امرأة جميلة،بما فيه الكفاية،بالرغم من أنني لستُ جدّ شابة.
لقد قلتُ له:" تعال لزيارتي، تعال لزيارتي مراراً؛ فمعي: لاتتضايقُ؛ فإني لستُ محتاجة إلى النقود".
لكنك تعلم أنني أفهمتـُه ذلك من خلال مجموعة من الطرق،فلم أقل له كل شيء دون مراعاة المقام؛ بل كنت أخشى إذلاله؛ فيا عجباً لذلك الطفل العزيز! وبعد! أفتظن أنني أملك رغبة شاذة لاأتجرأ على البوح بها؟ تمنيتُ
لوجاء لزيارتي بحقيبته وردائه الطبي؛ولو بصحبة قليل من [ بقع] الدم فوق
ردائه!"
قالت ذلك بشكل جد بريئ، كأنها رجل رهيف الإحساس، قد يقول لممثلة ربما يحبها:" أريد أن أراك مرتدية البذلة التي كنت ترتدينها في ذلك الدور الذي مثلتِه لأول مرة".

أما أنا؛ فاستأنفتُ القول متما حكاً:" هل تستطيعين أن تنكري الزمن والمناسبة اللذين تولدت فيهما هذه العاطفة الغريبة إلى هذا الحد،في نفسك؟"
أفهمت نفسي بصعوبة؛ أخيراً توقعت ذلك. إلاّ أنها حينئذ أجابتني بشكل جد كئيب؛ بل بمقدار ما أستطيع أن أتذكره، محولة عينيها:"لا أدري...لا أتذكر".
أي غرابة لا يجدها المرء في مدينةكبيرة،عندما يعرف أن يتنزه، وأن ينظر؟ إن الحياة لتزدحم بالوحوش البريئة".
إلهي! رباه! أنت الخالق،أنت الفعال لمايريد،أنت يامن أبدعت القانون والحرية، أنت العليّ ،يامن يتغاضى عن آثامنا، أنت يامن تغفر،أنت فياض بالحوافز، والأسباب،وأنت يامن عساك وضعت في عقلي ذوق الرعب لتهدي فلبي كالشفاء على طرق نصل إلهي، الرحمة لك؛ فارحم المجانين والمجنونات! أيها الخالق! أيمكن أن توجد وحوش حسب تقويم في عينَيْ ذاك الذي يعلم لماذا توجد، وكيف خُلقتْ، وكيف أمكن الآّ تخلق؟
ترجمة: محمد الإحسايني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد عز يقترب من انتهاء تصوير فيلم -فرقة الموت- ويدخل غرف ال


.. كلمة أخيرة - الروايات التاريخية هل لازم تعرض التاريخ بدقة؟..




.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حوار مع الكاتب السعودي أسامة المسلم و


.. تفاعلكم | الناقد طارق الشناوي يرد على القضية المرفوعة ضده من




.. ياسمين سمير: كواليس دواعى السفر كلها لطيفة.. وأمير عيد فنان