الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حالة استرخاء زمن الكورونا

سالم المرزوقي

2020 / 12 / 19
الادب والفن


قصه قصيره

استوى على كرسييه الأعرج واعتنى بقهوته وأشعل سيجارة الكريستال المعهوده،لم يحاول الانتباه لمن حوله بل سارع لفتح هاتفه للاطلاع على مستجدات الفيسبوك لعله يظفر بخبر يسره عن صديق(ه) أو عن وطن تحول بلا استئذان لمقبرة جماعيه لاتستثني إلا المنحرفين وذوي العاهات العقليه،يبحث عن نقطة ضوء ترشده لرشقة حب افتقدها مذ كان يحفظ العناوين والأرقام ويعرف الوجوه من سماتهم بلا فضاءات افتراضيه ولا قنوات فضائيه،يبحث عن سماء زرقاء هادئه بلا غيوم،يبحث عن قمر فضي ناصع يناجيه بلا مناظير ليليه ،يبحث ويبحث بلا جدوى ،لايعترضه إلا عناوين الموت والأكفان ودموع تنتظر دورها لتختفي،يشعر بقشعريرة بارده لم يعهدها حتى أيام الفقر والعراء.
يعود الى البيت متثاقلا ويتساءل :هل هي نزلة برد مثقله بالهواجس وأنباء الموت أم هي اللعينة الفاتكه؟ لا...لا هذه ولا تلك ويقرر التحدي...التحدي هو الترياق المضاد في زمن اليأس.
يصل كأول حريف ليحتسي اول قارورة ويستقبل كأول حريف ويسمع أول خبر عن سيدة اقتنصتها الكورونا في ذاك اليوم،يعتصره الألم والحزن لوقع الفاجعه،يعرفها ويذكر تفاصيل حياتها بدقة،حتى تضاريس جسدها المراهق لازالت في مخيلته عندما كانت معه في نفس المدرسه الابتدائيه وفي نفس القسم.
خبر الموت المفزع رحل بنصف التحدي ولم يبقى أمامه إلا الانسحاب من الحانة.
قرر ألا يذهب للطبيب ولا المستشفى خشية تعقيد الحدث،أخفى رأسه تحت الحشوة كي لا يسمع العالم الخارجي،كانت حشرجة صدره تنبأه أن الأمر يزداد تعقيدا،لكن القرار لا رجعة فيه سيطبق على نفسه عزلة و حجرا وبصمت كذلك ،لن يخبر أحد وإذا تعكرت صحته فسيأتي من ينتبه لحالته ويتخذ القرار الصائب مكانه حتى لو كان موتا فجئيا.
مرت الليلة الأولى ثقيلة ممزوجة بالمعاناة لكن الألم لم يكن بالحدة التي اعتقدها،استعاد قوته والجزء الذي افتقده من التحدي وأعاد لذهنه السؤال الأول :هل هي نزلة برد ثقيله أم الكورونا اللعينه؟
في كل الأحوال عليه الصمود..عصر ذاك اليوم عكر صفو مزاجه صوت المصدح في المسجد القريب،صوت خطيب أفغاني لعين يتغذى من الدين كما البعوضة من الدم يندب،يبكي وينوح ويذكر بعذاب القبر كأنه ربنا في الأرض يتوعدنا وينذرنا ويحاسبنا قبل ونحن أحياء،يقتلنا ويشرحنا ويفتك بعزائمنا كانه إلاه الموت في جبة الواعظ الراهب وعندما يتأكد اللعين من امتعاضنا منه يمرر في المصدح سورة النساء مضمخة بدماء الحيض والنجاسة وتأديب نشوز المرأة...يا إلاهي كم أنت قاس علينا ...ألا يكفينا احتلال فيروس الكورونا لأجسادنا المنهكه لتصيبنا بفيروس الكهنه في رؤوسنا ؟
تمضي الليلة الثانيه وقد ازداد يقينا أنه لن يرحل إلا مقتنعا بأنه بشر عادي،مر بكل مراحل الحياة بحلوها ومرها بسعادتها وعذاباتها ولم تؤثر فيه هرطقات الجاهل الأفغاني الذي يقتات من نهش خلايا العقل السلفي لدى العامة،هو ليس منهم،لم يفقد ملكة التفكير والتمييز والتمحيص والحب والجمال ولن يرحل إلا وهو يغني للحياة كالشعراء.
صحيح نحن شعوب تتقن تكميم الأفواه وتتعامل بالنميمة في نقل الأخبار إلا في الموت فهو يشهر علنا بمكبرات الصوت في أغلب مساجد المدينة الصغيره،فيعلن عن اسم المتوفي ولقبه وحسبه وحتى نسبه إن كانت أنثي لأن المرأة ملحقه بزوجها في عرف مجتمعنا،هكذا كل صباح تصدح المآذن بضحية جديده افترسها فيروس كورونا.
أنباء الموت وتفشي الوباء لم تخترق حصانة التحدي لصاحبنا،ظل لليوم الثالث صامدا لم يذهب للطبيب ولا المستشفى ولم يخبر أحدا حتى رفاقه الذين شغلتهم مأساة مدينته أخفى عنهم ،لكنه ظل ملازما العزلة يقرأ بعض المقالات في الأنترنت يتابع مهزلة الانتخابات الأمريكيه التي أكدت له من جديد أن الانسان لازال غبيا أحمق رغم ما حققه من تقدم علمي وتقني لازال البشر يدير حياته كالحشره التي تقتات من الدماء ولا تهتم بنشر الأوبئه الفتاكه،دون أن يدري أنه مجهري في كون لم يدرك بعد أبعاده ولن يدركها مادام عقله غريزيا مشبعا بالحقد.
في اليوم الرابع تسللت لجسده بعض الحيوية وشيئا من النشاط بعثت لأحاسيسيه موجات من الأمل ربما لإدمانه على تناول المسكنات ،لكن محنة الشك لازالت تعاوده،ليكرر السؤال الأول :هل أصابه الفيروس اللعين أم هي نزلة برد عاديه ؟ لا يدري ومن المستحسن ألا يدري، لكن عليه الحذر من مخالطة الناس حتى لا يكون سببا في مأساة تتكرر كل لحظة في مدينته الصغيره.
يمشي في الشارع مزهوا يدعي النشاط كطفل ابتكر خطواته الأولى،تعترضه امرأة من جيله لبقه حسنة المعشر تبادره بالتحيه وتمد ذراعها عوضا عن يدها للمصافحه معتذرة برقة ،أربكته هذه الحركه وأعادته لبحر الهواجس والتساؤلات،هل لاحظت المرأة على وجهه أثرا لمرور الفيروس أم قرأت في مقلتيه حزنا وحيرة حفزتها للحذر العادي من المصافحه كما نصح الأطباء؟ فاجأته على الجانب الآخر من الشارع فتاة ممشوقة القوام خفيفة الحركه كفراشة مزهوة بكثافة الزهور في الربيع ، حملق في وجهها بنهم كمراهق،تحرش بطيفها وخطواتها المتناسقه وشبابها الواعد الذي سينقذها من جحيم أيامنا هذه ويحررها من عبودية جيلنا المشوه ، تنهد كأنه يحسدها لأنها ستعيش وستنعم بتحول الانسانيه لعالم أجمل وأرقى وأكثر هدوءا وسلاما،إنه الجيل الذي سيسعد ويستمتع ويغني ويرقص حتما.
انتهت محنة الفيروس اللعين أو كادت فتوقف عن التدوين لكنه سيحتفظ بقلمه لتدوين مأساة أخرى قادمه لامحالة مادام الانسان ذاته فيروسا عابثا مدمرا لم ينتبه للجمال والحب وزرقة السماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟