الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرباء في هذا العالم … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 12 / 22
الادب والفن


لم اجرب الوحدة من قبل ، بل كنت اتجنبها ، فهي تذكرني باشياء ما كان يجب علي تذكرها .. كان البيت مزدحما بالزوجة ، والاولاد الخمسة في عين العدو .. بالاصوات .. بالانفاس ، بالهمسات ، وحتى المؤامرات البريئة الفاشلة عادة .. بكل شئ يجعل منه مكانا صحيحا ، صحياً ، هادئاً ، وامينا للعيش ، والتلذذ بالحياة ، ونعمها .. كنا نتزاحم في لعبة الانتظار الممل على كل شئ في بيتنا الصغير .. بدءً من الحمام الى مائدة الطعام ، الى من يسبق الاخر للجلوس في صدر المائدة .. والضجيج ، والفرح ، والمزاح ، والنكات ، واصوات ملاعقهم وهي تصطدم بالاطباق اثناء الاكل .. وحتى الشجار .. مقبلات نتلهى بها حتى تحين لحظة الاجتماع الكبرى لكل العائلة على فلم السهرة المختار .. لا تهم جنسيته ، ولا ابطاله ، ولا حتى محتواه ، المهم ان نجتمع حوله .. اسرة صغيرة سعيدة .. نتبادل التعليقات ، والنكت البايخة احيانا ، والمضحكة فعلا احيانا اخرى ، خاصة اذا جاءت من ابني المفضل علي .. يغنون معا في حرارة .. ومنهم من يقلد البطل بانگليزية مهشمة .. يعزمون على بعضهم البعض باكلات ، ومقبلات يأتي بها لهم العبد لله سعيدا مسرورا .. كنت في حبي لأسرتي رجلا هادئا وديعاً مثل طفل حديث الولادة !
من النادر ان نتفق على فلم بعينه .. نضطر احيانا الى اجراء التصويت بالاغلبية بعد ان نطرح جملة من الترشيحات لا تخلوا من افلام مدسوسة من هنا او هناك .. ولا تخلو ديمقراطيتنا طبعا من غش ، وتلاعب بريئين ، كما يحصل عادة في الديمقراطيات البدائية التي نراها في منطقتنا كثقافة دخيلة نتلمسها تدريجيا لنستكشف اسرارها ، ودوافنها .. كزوج شغوف في ليلة عرسه ، وهو يتلمس جسد زوجته لاول مرة ليستكشف اسراره ، ومكنوناته الغامضة .. !
تآمرت هذا الصباح على الاولاد ، وحتى على الزوجة .. نهضت مبكرا قبل الجميع ، وهم لا يزالون يغطون في نوم ثقيل بعد ان اطعمتهم عشاءً ثقيلا دلڤري ، وكان الفلم هندي له بداية ، ونهايته تطول قد تمتد الى خيوط الفجر الاولى ، والنتيجة غير واضحة .. تسللتُ بهدوء اللص المبتدئ الخائف الى الحمام كأنني اخفي جرماً ، واخذت وقتي ، ووقت كل من كان يزاحمني من احبتي في البيت .. أشد قامتي تحت الدش ، واترك له جسدي ليفعل به ما يشاء .. ليفرغ عليه جل نعيمه ، وشحنة غضبه المنعش .. صفع الماء الدافئ وجهي ، وانساب مدرارا على بقية اعضائي فيشدها ، ويمتص منها الكلل ، والتعب .. انعمُ وحدي مسرورا في هذه الخصوصية النادرة .. آه كم كان الماء رائعا !
اسمع طرقا خفيفا مفاجئا على الباب يهوى علي كاللطمة ، لم اصدق ان احدا قد خالف قوانين السهر ، ونهض من فراشه الناعم الوفير ، وضحى باغفاءة الفجر اللذيذة ، وجاء ليزاحمني متعتي وينغص علي حمامي .. بابا بابا .. انه صوت مريم ابنتي الكبرى .. التقطتُ انفاسي .. حاولت ان اهدئ من ذات نفسي .. تجاهلتُ النداء ، وواصلتُ الغناء بصوتي الفاتر القبيح .. بابا بابا ازداد القرع حدةً .. تبدد الصمت ، وزالت السكينة .. لم يكن بمقدوري ان اتجاهل ، واشاكس اكثر من ذلك .. عجيب ! وكيف عرفتْ انني ابوها في الحمام .. الا يمكن ان يكون شخصا آخر من الاسرة ، فنحن سبعة في عين الحسود .. كانني اسمع صوتا آخر فاترا ناعسا اعرفه جيدا .. زوجتي ام علي ، وهل يخفى القمر ! اصبح الموقف جديا ، وخطيرا ، وعلي تنفيذ الامر فورا ، والخروج ، والا … !
اقفلتُ الحنفية ، ثم لبثتُ برهة لملمت فيها نفسي ، واستعدتُ رشدي ، وعدت الى واقعي ..
وضعتْ ام علي كل هيبتها ، وجبروتها في صوتها ثم قالت : اخرج بسرعة مريم تريد ان تستحم قبل ذهابها الى الجامعة ..
هي حبكت … ؟ قلتها بالمصري همساً .
كتمتُ انفاسي حتى لا يسمعون بما يضج في داخلي من احتجاج برئ .. قاومتُ رغبتي في الاستمرار ، والاستمتاع ، وخرجتُ منصاعا للامر من دكتاتورتنا الجديدة التي لا يستطيع احدا مهما كان ، ومهما علا شأنه في كل هذا البيت ، من شماله الى جنوبه ان يعصي لها امرا ، او يرفض لها كلمة .. لم يخلق هذا الانسان بعد .. بما فيهم الجبان الماثل امام حضراتكم ، فكلمتها تعلو ، ولا يُعلى عليها .. لقد خُلقنَ لهذا الدور ، وليس لغيره ! الى متى اداوم على هذا الانكسار امام هذه السيدة المستبدة الجميلة ، والطيبة .. ؟ ها .. لا تسمعنا ؟
طيب طيب .. خارج … !
استجبتُ بسرعة مذهلة طائعا ذليلا ، وخرجتُ منكس الرأس كأني ارتكبت جرماً .. لكنني سعيد في داخلي .. احب الآنسة مريم هذه .. ابنتي ، وقرة عيني ، ولا استطيع ان ارفض لها طلبا ، ولا لامها طبعا امراً .. فانا جبان بمزاجي ، وبملء ارادتي !
كانت السعادة موجودة في كل شئ فينا ، وفي كامل حياتنا .. في صمتنا في دفئنا ، وزعلنا ، وشجاراتنا .. ما اقصرها ! التي لا تنتهي الا بالعناق ، والقبل ، والمسامحة .. قلوبٌ نقية كقلوب العذارى .. سعادة حقيقية موجودة حتى في كل لقمة باردة نتناولها على عجل قبل ان تملأ السيدة الاولى المائدة بما لذ وطاب من اصناف الطعام ، والمخللات المحلية الصنع من يدها الكريمة ، ونفسها الطيب في الاكلات التي تعدها ، وهي تحاول سعيدةً ان تُرضي كل الاذواق … ما اصعبها من مهمة !
انتهى الزمن الحلو على حين غفلة .. اعتقدتُ ان الحياة قد توقفت … سنين مرت كأنها لحظات مسروقة من العمر .. لم تغادر فيها رائحتهم الطيبة - التي تعذبني - البيت منذ ان غادروه ، وانتشروا في اصقاع الارض .. مزقتنا الظروف ، وقطّعت اوصالنا المسافات .. فمنهم في اميركا ، ومنهم في السويد ، وآخر في استراليا ، يا للزمن ! وبقيت وحدي دامعا ، وغاية في الحزن .. يملأني احساس مرير بالوحدة حتى ماتت في نفسي كل الاشياء الحية .. اعيش ايامي الماسخة الاخيرة .. خالية من اي طعم .. اناطح الحيطان ، واناجي الخيال ، متخماً بحزمة ثقيلة من الذكريات الجميلة .. اعانقها ، واسمع انينها ، وقهقهاتها .. لا وقت عندي حتى للبكاء .. لقد غافل الموت يوما زوجتي ، وشريكة العمر كله ، ومن تحبها نفسي في منتصف الليل .. غادرتني الى الفردوس الاعلى ، وانا لا ازال اقف بملل لوحدي على قائمة الانتظار … ما اطولها !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا