الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الردّ على -حفريات في جذور الإسلام السياسي- للمعز الحاج منصور.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2020 / 12 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


صديقي مُعزّ، تعودّت قراءة تدويناتك وآراءك. كما حصل لي شرف لقاءك، حيث تحدّثنا في جرحنا المشترك، جرح بلادنا.
والحقيقة عهدتك أكثر عمقا، وأكثر نزاهة، وأكثر كرمًا. ولكنك فاجأتني بهذا النص، وعليّ أن أردّ عليه، لأشرح كثيرا من القضايا الخطيرة التي أثرتها، وفسّرتها بشكل مُتعسّف وعلى دون منهج ممّا أفسد مضمون النص، فكانت الأفكار ضعيفة إلى أبعد الحدود، وفي وجه من وُجوهها بالغة الضّرر.
في البداية، سأستخرج الأفكار الرئيسية التي تناولتَها. ثمّ أعلّق عليها تِباعًا وبالتّواتر. وفي الأخير، سأحاول تصحيح ثلاثة مسائل:
١/ جوهر الخلاف النظري بين اليسار الوطني الديمقراطي والإسلام السياسي.
٢/ جذور الإسلام السياسي.
٣/ الدولة التركية تستخدم الجماعات التكفيرية، وليست نموذجا للإسلام السياسي.

١/ بدأت مقالتك بالتّساؤل عن جذور الإسلام السياسي. وعدّدت أهمّها: جبهة الإنقاذ في الجزائر والإخوان المسلمين في مصر وسوريا وحركة حماس في فلسطين وحركة النهضة في تونس وحركة العدل والإحسان في المغرب... وربطتها جميعا ب"منطلقات فكرية بنزول النص القرآني ... وبالأنسجة العميقة الثاوية في أعماق الضّمير الجمعيّ التي تشدّنا إلى ما يوحّدنا في الله...."

هذا الربط فيه تعميم وتعسّف يرقى إلى مرتبة التحيّل على التاريخ، لأنّ كلّ التراث الإسلامي وكل الإسلام الحضاري له علاقة بلحظة الوحي وبنزول القرآن. أما الجماعات التي ذكرتها فتتّفق في التّأويل الأسوأ على الإطلاق لمفهوم الجهاد، انطلاقا من استنباط محمد بن عبد الوهاب لنواقض الإسلام العشرة من خلال فهمه لفكرة الجهاد عند بن تيميّة، وانطلاقا من تفسير أبو الأعلى المودودي لمحمد بن عبد الوهاب وتأكيده على الحاكمية. ثم انطلاقا من تفسير السيد قطب للمودودي وتأكيده على أن الحاكمية أصل من أصول الدين، وعلى بلورة فكرة الجماعة المقاتلة ومواجهة جاهلية القرن العشرين. ولذلك اشتركت كل الحركات التي ذكرتها في الأركان التكفيرية الستّة التالية:
1/ الجاهلية في القرن العشرين وما بعده حتى قيام دولة الشريعة.
2/ الحاكمية أصل من أصول الدين.
3/ لا بدّ من طائفة تُقاتل وعُصبة من المؤمنين تمثل فرض الشّوكة.
4/ لابدّ من هدم المجتمع، إن لم يهدم نفسه.
5/ يمكن التخلّي عن هدم المجتمع، إذا كان ذلك في صالح الجماعة.
6/ الجماعة هي الأُمّة، ولو كانت الجماعة فرد واحد، لأنّ الجماعة هي نواة الأمّة.

وهذه الأركان هي التي جعلت الإسلام السياسي في خصومة جذريّة وفي حالة اشتباك وحرب كبرى مع مع الدولة، ومع باقي الجسم العُلمائي والفقهي في كافة بلاد المسلمين.

٢/ في نفس السياق، تقول: "... ومن تدشين حضارة إنسانية جديدة ذات بعد عالمي، ولدت مع لحظة الوحي المقدّسة في تجربة النبوة حول شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونشأة الإسلام الأوّل في رحم الفتنة الكبرى، ولمعت أسماء مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب وأبي ذرّ الغفاري وفاطمة وعائشة ... نحن ننتمي فعلا في هويّتنا وشخصيتنا وتاريخنا إلى تلك الحقبة الفارقة" !!!

والحقيقة، سي معزّ، الحضارات وثقافات الشعوب ليست معطى ميتافيزيقي ثابت. بل هي معطى زمني متغيّر على الدّوام. ولذلك فحضارة الإسلام ليست سجينة خمسين سنة ممتدة بين نزول الوحي ونهاية الخلافة الراشدة. إنما تراثنا الحضاري، وثقافاتنا الوطنية أوسع بكثير مما حدث خلال القرن الأول للهجرة. إذ تمتد قبلها في أعماق بربرية وفينيقية ويونانية وآرمية وفرعونية وفارسية وبابلية وآشورية... وتمتدّ بعدها، ولها أبعاد مختلفة تحكمها الجغرافيا ويؤثّر فيها التاريخ، ولها صلة بكل القيم الكونية المعاصرة. وجماعات الإسلام السياسي هي من نتاج كل هذا التاريخ وليست "منتوج الوحي" كما يدّعي قادتها. ولا يجوز ربطها بشكل اعتباطي بالنص القرآني مباشرة، وتخصيصها بذلك على نحو يُعطي اتجاه الفهم أن بقية الأمة التي لا تنتمي الى هذه الجماعات لا علاقة لها لا بالوحي ولا بالإسلام.

٣/ في موقع آخر من النص، تقول: "...ونشأت حول المصحف نصوص تأويلية لمقاصده .... ولوجود الإنسان وعلاقته بالله وبالكون ، وفق منظومة قيم أخلاقية وسلوكية "صارمة"، وتدبّرت مسألة الدولة ونظام الحكم... والفرق الإسلامية ذات المذهب السنيّ الحنبلية والمالكية والحنفية والظاهرية والشافعية والإثني عشريّة والإسماعيلية والزيديّة ّوالقاضي عبد الجبار والزمخشري والطبري والمسعودي والجاحظ والنّظام وابن تيمية وابن سينا والفارابي وعمر الخيام والخوارزمي وابن خلدون وابن رشد وابن عربي والقرطاجنّي وابن رشيق... وسيتحول هذا الموروث في ما بعد إلى مصدر محرّك وملهم للإسلام السياسي المعاصر" !!!

طيّب، وبقية الأمة ما الذي يُحرّكها؟
كل هذا الذي ذكرت، هو مجموع تراث الأمة، الذي يختزن رؤى وأفكار وفلسفات متناقضة أحيانا إلى حدّ المذابح. وفيها ما اندثر، وفيها ما تغيّر واستمر. وفيها ما تحوّل إلى قيم منبثة في المجتمع...
وبالتالي فتحويل كل التراث إلى مرجع خاص لتيار سياسي واحد، يعني أنك تعتقد، أو تريد تمرير رسالة مفادها أن الإسلام السياسي هو الجيل القرآني الفريد الذي وحده يُمثل تراث المسلمين. وبقية المواطنين مجرد ذمّيين أو مرتدين! وأنا أعرفك شخصيا وأثق أنك أكثر كرمًا، وأبعد الناس على مثل هذا الضّيق المُعيب.

٤/ بعد أسطرٍ قليلة، تُضيف: "... ثم جاءت الأندلس كمركز جذب للمعرفة والحكمة، ابتدع فيها المنصور فكرة الفصل بين الخليفة الرّمز وبين رجل الدولة مصرّف الامور..." وفجأة تستعير "ملاحم الصراع المسيحي الإسلامي وصلاح الدين الأيوبي. وابن طفيل وابن عربي والشاطبي... "
وهكذا ودون ربط تاريخي ولا منهجي، تُضيف: "خلال القرن التاسع عشر وما تلاه، نشأ فكر إصلاحي شكّل لحظة وعي بانحطاط الذات في مواجهة الغرب... فكان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأحمد بن أبي الضياف وخير الدين باشا التونسي".
إلى أن تستخلص، ولا أفهم كيف استخلصت: "فالإسلام السياسيّ يمثل الايدولوجيا الغالبة الآن في المشهد السياسي العربي، وهو نتاج ثقافة "متماسكة في الماضي"، تتمرّد باستمرار في الحاضر ضدّ القوى المهيمنة، وفي مناكفة نظام العولمة المتغوّل..، فانطلقت في تونس ومصر هبة شعبيّة مفاجئة بعد سبات طويل، هي انتفاضة الضمير التاريخيّ اليائس وهو يبحث عن ذاته الهائمة،عن مقوّمات شخصيّته وانتمائه الحضاري ووجوده في العالم، يأتي ذلك إثر خيبات متتابعة هيمن فيها التيار القوميّ العربيّ بشقيّه الناصري والبعثي، والتيارات اليساريّة الماركسيّة".

أوّلا، انتقلت من سقوط غرناطة عام 1492م، مباشرة إلى القرن التاسع عشر! يعني قفزت على الفترة الأساسية التي تشكل فيها الإسلام التونسي المعتدل الذي ظل في خصومة جذرية مع الإسلام السياسي منذ آواخر القرن الثامن عشر إلى يوم الناس هذا.

ثانيا، لا يوجد أيّ معنى لكون الإسلام السياسي نتاج ثقافة "متماسكة في الماضي".

ثالثا، كما سبق وذكرت، هنالك إصرار غير مُبرّر على وضع كلّ التراث الإسلامي بكل فرقه وكل أعلامه وكلّ اختلافاته وتناقضاته في سلّة واحدة على ملك الإسلام السياسي. وهذا لا يجوز بأيّ مقياس من المقاييس، لا منهجيا، ولا معرفيا. بحيث لا يمكن للقارئ أن يجد رابطا منطقيا بين هذه الأفكار، حتى لكأنّني أمام كاتب يسرد لنا كل التاريخ الفكري والسياسي للإغريق، ولمجمل الأفكار والقيم التي سادت في عهد الامبراطورية الرومانية، ثم ينتهي للقول بأن هذا التاريخ الطويل والمعقد لا يمكن أن يُفسّرُ أيّ شيء على الإطلاق، إلا صعود اليمين المتطرف في أروبا اليوم !

رابعا، لا توجد علاقة بين روّاد الإصلاح خير الدين وأحمد بن أبي الضياف وبين فكر السيد قطب التكفيري الذي ولّد كل الحركات الإرهابية التي سوّغت قتل المسلمين باسم الجهاد.

وخامسا: ما علاقة الثورة التونسية الديمقراطية التي رفعت شعارات مدنية بالغة الوضوح تتعلق بالشغل والعيش الكريم، ب"الضمير التاريخيّ اليائس وهو يبحث عن ذاته الهائمة،عن مقوّمات شخصيّته وانتمائه الحضاري ووجوده في العالم" ؟!

٥/ تُضيف: "فإذا سلّمنا بأن التيارات الإسلامية باتت تهيمن على المشهد السياسي، وتقدّم نفسها كحاضن حقيقي للهموم الوطنية ومعارض راديكالي للتطبيع مع إسرائيل، ورافض للسياسات الأمريكية في المنطقة، وتحمل آمال تحقيق أسباب التمدّن والتحضّر، في مواجهة معارضة ليبرالية ويسارية متشددة".

يا أخي، لا أحد يُسلّم مثلما سلّمتَ بأنّ حركات الإسلام السياسي أغلبية المجتمعات العربية. ولا أحد يوافقك على أنها تحمل تطلعات شعوب المنطقة في التمدن والتحضّر. ولا هي مناهضة للتطبيع، ولا هي معادية للمشروع الأمريكي العدواني، بل على الأرجع أن هذه الحركات التكفيرية جزء أساسي من المشروع الاستعماري المُصرّ على حبس المنطقة في مربع التخلف والحروب.

٦/تواصل تقرير سلسلة من الأحكام المتناقضة مضمونيا، والخاطئة تاريخيا، فتقول: "... وفي تونس تأثرت حركة النهضة في بداياتها بأدبيات الإخوان المسلمين في مصر وتأثّرت بأنموذج الثورة الإيرانية..." وتضيف: "... وتستأنس بالنظرة المالكية للإسلام الزيتوني. وقد سعى الاتجاه الإسلامي إلى أسلمة المجتمع من الداخل..." إلى أن تصل للقول: "...واستعادة لفكر خير الدين باشا وبيرم الخامس واحمد بن أبي الضياف ..."

منطقيا، إذا كان إسلام حركة النهضة هو إسلام الزيتونة وخير الدين وأحمد بن أبي الضياف ومن قبلهم كبير المصلحين بيرم الخامس، الذي كان له دور مركزي في إلغاء الرق سنة 1846، فلماذا سعت هذه الحركة إلى "أسلمة المجتمع" من الداخل (كما تفضّلت)؟ وهل كان المجتمع مسيحيا أو يهوديًّا حتى تؤسلمه؟ أليس الصواب هو أنّها سعت إلى أخونة المجتمع المسلم، وفرض إسلام آخر تكفيريّ، ردّت عليه نخبة الزيتونة منذ أكثر من قرن؟

٧/ تختم النصّ مؤكّدا مقصدك بكون حركة النهضة هي الإسلام "في مقابل فكر يساري علماني يرى أن تطليق الظاهرة الدينية هو السبيل إلى النهوض وتحقيق التقدم وقد تحالف مع "لوبي" فرونكفوني يتبنّى الأنموذج الفرنسي للدولة الحديثة... سيطرت حركة النهضة على المساجد وكانت حركة دعوية جماهيرية مهيمنة ومنافسة للنظام، إلا أنها انهارت أمام الضربات الأمنية الموجعة، وانتهى بها الأمر إلى السجون والمنافي وتعرضت لكل طرق التنكيل غير الإنسانية .. وتحالف الجميع مع بن علي وصفقوا له حين سقط الاسلاميون ، وفرحوا حين تخلصوا من أعتى الخصوم السياسيين ، وكانوا شهودا على مذبحة تونسيين إلا أنهم إسلاميون ... أصبح التعبد أو التدين في تونس تهمة إجرامية تستوجب أقسى العقوبات"..

وهنا أيضا تجنّيت كثيرا، وبشكل مجاني، على اليسار واتهمته بالتحالف مع بن علي بسبب التحاق عدد قليل جدا من الناس، الذين كانوا في حزام اليسار بنظام بن علي، تماما مثلما التحق به إسلاميون وغير إسلاميين. ويكفي للردّ على هذا الادّعاء، التّذكير بِأن اليسار في تونس يسار وطني، مناهض للاستعمار قلبا وقالبا. ولقد عانى بطش نظام الحكم -المدعوم من الاستعمار- على امتداد خمسين عاما، قبل حتى ظهور الجماعة الإسلامية. وفي فترة القمع التي تعرض لها الاسلاميون، كان اليسار رأس الدفاع عن مساجين الرأي، وهو من رفع مطلب العفو التشريعي العام. ودفع مقابل ذلك فواتير باهضة ومعلومة لدى العام والخاص. ولكن للأسف يُنكرها الناكرون اليوم. وما كنتُ أحسَبُك من النّاكرين.

أنتهي الآن إلى النقاط الثلاث التي وعدت بتناولها في مطلع هذا المكتوب.
١/ جوهر الخلاف النظري بين اليسار الوطني الديمقراطي والإسلام السياسي:

ليس صحيحا أن اليسار معادي للإسلام ويعتقد في تطليق الدين كشرط للتقدّم. وإذا كان هنالك من يعتقد في هذه النظرية، فمن المؤكّد أنه لا علاقة له باليسار لا من قريب ولا من بعيد. وعلى كلّ حال، بخصوص التيار الوطني الديمقراطي، خلافنا مع الإسلام السياسي، ومع التيار الليبيرالي الانقطاعي على حد السواء، حول
قراءة التراث بشكل مغاير عن القراءات السلفية التي تحرّم التأويل والاجتهاد خارج ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة. وندعو للتحرر من التفسير الخرافي الموضوع، وفتاوي البِدع والكفير والقتل، في اتجاه فهم الإسلام بالارتكاز على مناهج العلم الحديث. وبالايتناد إلى التراث النقدي عند المعتزلة وفي منهج ابن سينا وإخوان الصفا والصوفية ودراسة المنهج العلمي لدى جابر بن حيان، واختصار المسافة بين الفكر في التراث الإسلامي، وبين الظروف الاجتماعية التي ولد فيها. وبدل عبادة الفقهاء -الذين هم بشر مثلنا- واعتناق ما قالوه كما لو أن فتاويهم قران منزّل، يجب الانتصار للمنهج البحثي المميز بالشمول والاتساع ، وقراءة الظروف الاقتصادية والاجتماعية بدءًا من الجاهلية ، ثم تتبع نمو الفكر الفلسفي في مع علم الكلام ، وصولا إلى ابن رشد. والانتصار لتثوير للفكر الديني، وربطٍ التراث بالتغيير المجتمعي، في محاولة لخلق طريق كامل لفهم الدين بشكل عصري ومغاير حتى في آليات تفسيره، ليدخل التراث العربي-الإسلامي في فلك التحولات الحضارية، بحيث يستجيب الدين لسنن التطور، ويوفّر شروط التعايش بين البشر، حتى يبني للإنسان العربي-المسلم دنيا تليق به كبشر، دون أن يتنازل عن أي شرط أخلاقي، ودون أن يتفسّخ ويذوب في الآخر. وكل هذا لا يفيد أن اليسار معادي للدين سي معز، ولا هو راغب في تطليقه. بل يفيد أنّ جماعات الإسلام السياسي التكفيرية معادية للعقل.

٢/ جذور الإسلام السياسي.
صديقي معزّ، طبعا لا أوافق على الطريقة التي رصدت بها جذور الإسلام السياسي وربطه بالوحي ونزول القرآن. وبدلا من ذلك، أعتقدُ أن الأبسط رصد جذور الخصومة بين الدولة الحديثة واللادولة ، وعلاقة هذه المسألة بالإسلام السياسي.
ففي أواسط القرن التاسع عشر، وبعد جملة من الهزائم العسكرية النّاجمة عن التفوّق الغربي الملموس والمتصاعد، أطلق عدد من رجال الحكم العثمانيين رشيد باشا، فؤاد باشا، وعلي باشا، برنامجا لتحديث الدولة استعارة لنموذج الدولة الغربية. وسمّي ذلك البرنامج لدى دارسي التاريخ ب "عهد التنظيمات".
وبغاية الإيجاز، كان هدف التحديث تعظيم موارد الدولة وجعلها على درجة من القوّة تمكنها من مواجهة الدول الغربية التي استولت على أجزاء مهمة من الإمبراطورية العثمانية وحدائقها الخلفية كالجزائر والهند.

هكذا نشأت في بلاد المسلمين الدولة الحديثة صاحبة السيطرة المطلقة على الأرض والشعب، وصاحبة الجيش المحترف على قواعد أوروبية حديثة، تنظيماً وتدريباً، وصاحبة اليد العليا على التشريع والتعليم والصحة والتجارة، وعلى كلّ ما كان متروكا للجماعة المسلمة تتدبّر فيه أمرها دون تدخل الدولة منذ بزوغ الإسلام.

وبموجب ولادة هذه الدولة العملاقة مقارنة بالدولة التقليدية محدودة السلطات، ألغيت الأنظمة الوسيطة الضريبية، وتأسست علاقة ضريبية مباشرة بين الدولة وسكانها. وألغي نظام القضاء التقليدي ومرجعيته الفقهية، وولدت وزارة عدل بنظام عدلي حديث وقوانين تشرعها الدولة دون غيرها. وانتشرت البلديات في كل المدن وتعهدت بكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية والمدنية. كما تم وضع اليد على قطاع كبير من الأوقاف، بهدف تعزيز مصادر دخل الدولة، وتوفير الأموال الضرورية لتلبية حاجات مؤسسة الحكم والإدارة المتسعة بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاجتماع الإسلامي.

وفي تونس، سار المشروع التحديثي بالتوازي مع إسطنبول يسبقه أحياناً، ويسير على خطاه في أحيان أخرى.
وبناء على هذا كلّه حدثت تطورات جذرية ستفتح على أهم تطور نوعي في بنية المجتمع ومساره:
التطور الأول: ولدت مرجعية مدنية جديدة على أنقاض الإطار المرجعي التقليدي السّائب والذي ظلّ خاضعًا لجملة من الأعراف والتقاليد المتعددة والمختلفة حسب المناطق والأمصار من جهة، وحسب اختلاف آراء الفقهاء من جهة أخرى. فلا هي كانت مضبوطة بقوانين صارمة (كما أشرت في مقالتك،) ولا كانت ملزمة للجماعة على نحو إلزامية القانون بمعناه الحديث. ولكن بصفة عامة كان الإسلام بمفهومه العام هو مرجع العلاقات الاجتماعية ومرجع السلوك والزواج والطلاق والتربية ونحو ذلك ...

أمّا التطور الثاني، فاتّصل بتضخم غير مسبوق في جسم الدولة، وولادة كائن جديد له سلطات هائلة تتعدى أحيانًا سلطات السلطان ذاته، إسمه الإدارة المنظمة.

في مواجهة الإدارة الجديدة المنظمة والمتدخلة في كافة مجالات حياة السكّان، نشأت معارضة شديدة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر قادها "العثمانيون الشبّان" وهم مجموعة من أبناء الأعيان المستفيدين من نظام الأوقاف، ادّعوا أن نظام الدولة الجديد فيه "تخلي عن قيم الدين وتفريطاً بمقدرات البلاد". وأبرز هؤلاء شيناسي، ونامق كمال في إسطنبول، ومدحت باشا في مصر، وعدد من الأتباع الذين اشتغلوا على تخريب الإصلاحات، منهم على سبيل المثال مصطفى خزندار في تونس (ألدّ أعداء خير الدين، والذي أجبر هذا الأخير على الاستقالة والانصراف لكتابة "أقوم المسالك في معرفة احوال الممالك".
إذن، اعتبر العثمانيون الشبان أن هذه الدولة الجديدة، مستبدة وطاغية وتعمل على تدمير أسس الدين، والحلّ هو العودة إلى ما قبل عهد التنظيمات. أي إلى حالة اللادولة التي كانت سائدة. ومن هنا سي معزّ، من هذه اللحظة، رُفع لأول مرة في تاريخ المسلمين شعار "العودة إلى الشريعة" وبذلك الشعار التحريضي، تأسّس ادّعاء التماهي بين الدولة الحديثة والخروج عن الدين.
وبالمناسبة، بإمكانك رفع التحدّي بأن يُثبت أيّ باحث في تونس أو خارج تونس أثرًا واحدًا لشعار "تطبيق الشريعة" في كتب التراث الإسلامي قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وبهذ المعنى، فالشريعة لم تكن مطلبًا ولا دستور دولة على الإطلاق. إنما كانت هي الفضاء الذي تشكلت فيه أنماط العلاقات، ثقافة الجماعة المسلمة، عاداتها وتقاليدها، ومعايير المعروف والمنكر. ولذلك، فإن تصور الشريعة باعتبارها نظاما، أو وضعاً "تخلي عنه المسلمون" ويمكن "العودة إليه"، هو بدعة ولدت لأول مرة في خطاب العثمانيين الشبّان. وستتواصل معارضتهم للتحديث. وسيتواصل شعارهم "العودة للشريعة" إلى أن جاء عبد الحميد الثاني في 1882 وأسكتهم.

آواخر التاسع عشر بدايات العشرين تردد صدى خطاب العثمانيين الشبّان، ومنه وُلد تيّار الإسلام السياسي. ومختصر الحديث، وحتى لا أطيل، الإخوان المسلمون، هذه جماعة نشأت في الأصل اعتراضًا على الدولة الحديثة. وفِي تناقض دمويّ معها. ولا يزال قادتها إلى يوم الناس هذا، يحلمون بتدميرها لصالح دولة الخلافة المتخَيّلة. ولا شك أن جماعات الإسلام السياسي ستتبلور لاحقا، في العقد الثالث من القرن العشرين، كتيار سياسي مُسلّح مبني على تردد نداءات العثمانيين الشبان، ومبني أيضا على مزيج متين بين فكرة الجهاد عند محمد بن عبد الوهاب، وفكرة الحاكمية عند المودودي. وهذا الفكر سيؤصّله حسن البنّا في خطابه الشهير خلال المؤتمر الخامس للجماعة سنة 1937، حين تحدّث عن الجماعة المجاهدة، وسيعمّقه السيد قطب بمقولة الجيل القرآني الفريد في "معالم في الطريق". وهكذا ستتأسّس للجماعة، ولكل الحركات الجهادية التي فرّختها، مرجعية قائمة على متون فقهية تكفيرية، بدأت بمن كفروا الخليفة عثمان لتبرير قتله، مرورا بإحياء فكرة الجهاد مع بن عبد الوهاب، ووصولا إلى فكرة "جاهلية القرن العشرين، وما ولّدته هذه الفكرة من مذابح، لعل آخر فصل فيها، جرائم داعش في الموصل وخارج الموصل. ولا شك أيضا أن تطور الحياة فرض على الأذكياء في هذا التيار الإيمان بالتّعايش مع مؤسسات الدولة الحديثة. ذلك أنّ الحلم بالتخلي عن الإدارة في عالم لن يسمح أبدًا بوجود دولة بدوية فاشلة هو ضرب من الجنون.
أعتقد أنّ التّعميم، ومحاولة إقناع النفس وإقناع الآخرين بأن كلّ تراث المسلمين متاع خاص وحصري للإسلام السياسي. وأنّ هذا التيار التكفيري منبثق مباشرة من الوحي، هي محاولة خاطئة منهجيا ومعرفيا، علاوة على الضّرر البالغ الذي يلحق الإسلام والمسلمين، ويبرّر الأفكار الاستعمارية العنصرية التي تروّج إلى فكرة سخيفة مفادها أن الإسلام دين عنيف

٣/ الدولة التركية تستخدم الجماعات التكفيرية كمرتزقة، وليست نموذجا لحكم الإسلام السياسي.
من الخطأ الفادح اعتبار التجربة التركية ضمن الإسلام السياسي. ولا بُدَّ من التَّأكيد مرة أخرى ( كما سبق وأكدت هذا في مقال سابق) على الفوارق الكبيرة التي تُميِّز ُ التجربة التركية المرتبطة بالأسس الفكرية والسياسية التي قامت عليها. وأهم هذه الأسس هي أن حزب العدالة والتنمية التركي هو حزب ليبرالي علماني يستند على الخلفية الإسلامية، وليس حزباً إسلامياً يتبنى الليبرالية كما يتصور قليلي الإطلاع على المشهد السياسي التركي. ولذلك كان طبيعياً أن يتصرف كحزب ليبرالي، وأن يتبنى سياسة اجتماعية متأثرة باقتصاد السوق، وأن تكون له علاقة قوية بالطبقات الاجتماعية المسيطرة التي أكدت توجه. وبصفة عامة، فإن المناخ السياسي العام الذي نشأ فيه هذا الحزب هو مناخ تركيا الكمالية التي حسمت توجهها منذ مدة طويلة لصالح التقاليد العلمانية. ولعل أهم درس يمكن إستخلاصه من تجربة حزب العدالة والتنمية هو عدم التناقض بين الإسلام والعلمانية، بل ونجاعة العلمانية في المجتمعات المسلمة.

يتعيّن علينا تفكيك هذا الوهم القائل بأن تركيا اليوم هي نموذج حكم للإسلام السياسي. وقد سبق وكتبت مقالا سنة 2012 حول هذه المسألة. وأنا مضطرّ لتكراره بعض ما جاء فيه لرصد منابع السياسة التركية مطلع الألفية، ومرجعيتها ودواعيها، حتى نزيل الأوهام وندحض هذا الادّعاء الخاطئ.

نتذكر جميعا أنه بعد إنهيار المعسكر الإشتراكي، في مطلع التسعينات كان الجوار الجغرافي التركي يحترق من البوّابتين. ففي الشرق دارت الحرب الإمبريالية الهمجية على العراق. وفي الغرب إنفجرت الحرب العمياء في دول البلقان. وهذا الوضع دفع إلى ظهور مفهوم جديد تداولته النخبة الفكرية والسياسية التركية أنذاك، ألا وهو "الدولة المعبر" أو "الدولة الجسر". ممّا فسّر سيطرة أولوية الحفاظ على إستقرار البلد ووحدة الدولة. وبدت تركيا وكأن هدفها الأساسي منحصرًا في الابتعاد قدر الإمكان عن الأزمات الموجودة في محيطها الجغرافي، بالنظر إلى إتصال قضيتي الأكراد شرقا، و الألبان المسلمين غربا بماضيها وحاضرها وسيادتها الترابية .

في تلك الظروف برز الدكتور أحمد داوود أوغلو، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بايكنت. كان الرجل يتابع ويدرس ويحلل المتغيرات الإقليمية والدولية. واستطاع أن يبلور نظرية جديدة في العلاقات الدولية تقوم على تفعيل العمق الاستراتيجي لتركيا نحو تبوأ مكانة ووضعية متميزة في الساحة الدولية. ووضع كتابه "العمق الاستراتيجي: مكانة تركيا ودورها في الساحة الدولية"، وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2001.
في نفس العام سيتأسس حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب أردوغان في 14 أوت 2001، وسيطلب من الدكتور داوود أوغلو أن يعرض عليه رؤيته في السياسة الخارجية التركية.

وهكذا اتخذالحزب نظرية العمق الاستراتيجي منهجا للسياسة التركية الجديدة .
فاز الحزب في إنتخابات 2002 وعهد إلى أحمد داود اغلو بمهمة تطبيق هذه النظرية، وعُيِّن في منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء لشئون السياسة الخارجية. ومُنِح بموجب ذلك سُلطات وصلاحيات واسعة لإعادة هيكلة دوائر صنع القرار.

طبعا، أهمية الرجل ومكانته العلمية، مضاف إليها الرصيد التاريخي للاتراك، وتجاربهم المنتصرة والمرة شرقا وغربا، والرفض الغربي لعضويتهم، في الاتحاد الأوروبي. وإنفتاحهم النابع من خلفية الحزب الليبيرالية البراغماتية، وتفاعلهم الايجابي مع محيطهم. والاستفادة من الفراغ الذي تركه العراق بعد الحصار، وبعد إنهيار الوضع العربي، وانقسامه عشية إحتلال المنطقة وتركيز القواعد العسكرية في قلب الخليج العربي. وبعد الشروع في تصفية القضية الفلسطينية عبر اتفاقيات أوسلو وواد عربة. وسقوط مفهوم قومية المعركة من مفردات السياسة العربية... كل هذه العوامل دفعت بتركيا إلى التمدد على قاعدة إستراتيجيا رسمها العملاق أحمد داود أغلو عالم السياسة والعلاقات الدولية الذي ألف كتب ودراسات ومقالات وأعمال علمية عديدة ترجمت إلى لغات مختلفة في قضايا التحليلات السياسية الإقليمية، والفلسفة السياسية المقارنة، وتاريخ الحضارات المقارن، وفي مجال العلاقات الدولية بشكل خاص، ومن أهم هذه الأعمال:

- العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية

- الإدراك الذاتي لدى الحضارات

- الفلسفة السياسية

- دور المنهجية في تكوين الإدراك التاريخي، وتاريخ العالم وتاريخ الدولة العثمانية من حيث التفاعل بين الحضارات

- البلقان أو عملية التصفية التي لم تنته بعد

- القلب الجيوسياسي للقارة الأوراسية والإستراتيجية الروسية

- القضية اليهودية: تحولاتها التاريخية والإستراتيجية الجديدة لإسرائيل

- العلاقة بين الذهنية السياسية والإستراتيجية السياسية والاستمرارية التاريخية

- الإستراتيجية الألمانية بعد الحرب الباردة

- مفهومان مختلفان للتعددية بين الحضارتين

إذن، بخلفية تستند إلى رؤى مؤسسية ونظريات علمية، تخمرت في العقل التركي منذ عقود، وليست أفكار السيد قطب ولا حسن البنّا، بات البروفيسور أحمد داود أوغلو يدير سياسة تركيا الخارجية التى تولى مسؤوليتها فى الأول من ماي 2009 .

وتتعدد تسميات الرجل داخل الحكومة التركية، فهو «صاحب اليد العليا» و«رجل الظل» وأخيراً «الخوجا» أى المْعَلِّم باللهجة التونسية. ولا يُعبر هذا النعت عن سعة أفق وحسب، ولكنه يشير لخلفية الرجل الذى قام بتدريس العلوم السياسية فى عدد من جامعات تركيا منذ تخرجه من جامعة «البوسفور» فى منتصف الثمانينيات، الخلفية الوطنية التي هدمت الكثير من الأقاويل التى اعتاد الغرب ترديدها منذ سبعينيات القرن الماضى، ومنها مصطلح «صدام الحضارات» الذى أطلقه «صمويل هنتنجتون» وروج له وزير الخارجية الأمريكى الأسبق «هنرى كيسنجر»، ليمنح أوغلو صاحب نظريات «الثقة بالذات الحضارية» قوة إضافية للدولة فى علاقاتها الخارجية، ويزداد تأثيرها باقترانها بالتخلص من الشعور بالدونية تجاه الغرب.

وهو أيضاً صاحب نظرية «التوازن بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل» حيث يرى أنه لا يمكن مواجهة قوة الأمر الواقع بغير استعداد وتهيئة القوة باستخدام كل العناصر الكامنة في المحيط. وهنا يأتي دور الإسلام واستخدام التيارات التكفيرية.

"ستُستشار تركيا فى جميع القضايا، بدءاً من قضية الانبعاث الحرارى انتهاءً بقضايا الشرق الأوسط" !!!!.

هكذا قال أحمد داود أوغلو عقب توليه وزارة الخارجية بفخر قومي شديد التعبير والوضوح ، وعبّر بهذه الجملة التقريرية الحاسمة عن السياسة التركية الجديدة التى تبناها حزب العدالة والتنمية، الساعية لكسر عزلة تركيا عن الواقع المحيط بها مستندة إلى نظريته فيما يسمى «بالعمق الاستراتيجى».. هذا علاوة على أن هذه الجملة التي إفتتح بها أول تصريح له تمثل رسالة إلى العالم فحواها تثبيت السيادة الوطنية وإستقلال القرار الوطني طبعا في إطار الابتزاز السياسي المتبادل بين الغرب وتركيا، وتناقض المصالح خصوصا في موضوع السيطرة على منابع الطاقة في ليبيا والبحر الابيض المتوسط. وهي أيضا غمزة مضيئة لجماعات الإسلام السياسي التي بات الأمريكان يشعرون بأنها عبء يجب التخلّص منه بعد أن رعتها ودرّبتها وموّلتها لأكثر من ثلاثين عاما، أيام احتلال السوفيات لأفغانستان، بحيث أصبحت تلك الجماعات بلا سند ولا دولة راعية. وانتهى بها الأمر إلى جيوش انكشارية يستخدمها أردوغان في معارك النفط والنفوذ

بناءا على هذا، يظل الخلط بين الدولة التركية والاسلام السياسي، هو ضرب من التباهي، الذي لا يعني الشيء الكثير بالنسبة للمهتمين بالشأن السياسي التركية. وكل ما في الأمر أن تركيا تستخدم هذه الجماعات التكفيرية ومنها الإخوان المسلمين في صراعها على النفوذ، لا أكثر ولا أقل. ولو أنها وجدت حركات ماركسية مسلحة وقابلة للاستخدام، لاحتضنتها وقدمت لها التسهيلات والدعم والغطاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ