الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة24

محمود شقير

2020 / 12 / 23
الادب والفن


أسير في درب الآلام، النازلة من باب الأسباط إلى كنيسة ستنا مريم، فتبدو شديدة الانحدار.
أمشي فيها بحذر، بعد كل هذا الغياب، والفصل هو الربيع.
الخضرة اليانعة تجلل صفحة جبل الطور، وتمتد في كثافة مريحة للنظر نحو وادي قدرون، (اشترى لي أبي نظارة، وضعتها على عيني، وانطلقت أركض في الطريق التي تأخذني نحو أرضنا في وادي ذياب، وكان الفصل آنذاك هو الربيع. الخضرة تملأ الوادي، وأشجار التين والعنب تزدهي بأوراقها الخضراء، ونباتات برية من كل الأنواع، تنمو متشابكة في الوادي وعلى السفوح. كنت أضع النظارة على عيني، وأرى العالم مكسواً بغلالة بهيجة مظللة، اتجهت نحو البنات والأولاد الذين كانوا ينتشرون على صفحة الوادي، لقطف الأزهار. وقفت أمامهم متباهياً بنظارتي. اقتربت مني إحدى البنات، طلبت النظارة مني لكي تضعها على عينيها، ناولتها النظارة بعد تردد، وضعتها على عينيها، وأخذت تتأمل الأولاد والبنات والأشجار والخضرة المنتشرة في كل الأنحاء، وقالت إن ذلك حلو). منذ ذلك اليوم، لا يمكن أن أتذكر الربيع، دون أن أتذكر النظارة وكلام البنت وذلك المشهد البهي الذي لم يغب عن البال.
أصل الشارع الرئيس الذي قطعته ماشياً في ذلك الصباح البعيد، صباح الهزيمة في حزيران. لم يتغير شيء هنا طوال سنوات غيابي عن المدينة، غير أن عمليات الحفر التي يقوم بها الإسرائيليون تحت المسجد الأقصى، من جهته الشرقية تتواصل، ما يشكل خطراً على أساسات المسجد، الذي ما انفكت جهات إسرائيلية متطرفة تخطط لهدمه ومحوه من الوجود.
أدخل الشارع الفرعي الضيق الصاعد نحو جبل الطور. على اليمين كنيسة ستنا مريم، وثمة أدلاء سياحة وسيارات أجرة، وباعة تحف شرقية وأيقونات، وثمة مقهى لا تفصله عن مبنى الكنيسة سوى خطوات، جلست في فسحة المقهى المحاذية للشارع تحت شمس الربيع المنعشة، وسبحت في بحر من التأملات.

***

أصبحت طالباً في واحدة من أهم مدارسها، المدرسة الرشيدية الثانوية، وهي المدرسة الحكومية الوحيدة آنذاك التي يدرس فيها الطلاب حتى السنة النهائية (سنة المترك). دخلتها العام 1954 طالباً في الصف الأول الإعدادي، وكنت أشعر بتميز على أقراني الذين لم يتمكنوا من دخول هذه المدرسة، فاضطروا إلى الالتحاق بمدرسة القرية المجاورة.
كنت أرى القدس كل يوم وهي تواصل تمددها خارج سور البلدة القديمة، وتشهد بعض أحيائها تزايداً نسبياً في حركة العمران. أما المدرسة الرشيدية، فهي قريبة من باب الساهرة، تتميز ببنائها المربع الكبير ذي الطابقين، بالشبابيك المستطيلة المنتهية من أعلاها بأقواس، وهو بناء موروث من عهد العثمانيين. ثم شيدت بالقرب منه بنايات أخرى استخدمت للمكتبة، وللمنجرة، واستخدم بعضها الآخر صفوفاً للتدريس بعد أن أخذ عدد الطلبة في الازدياد.
عملت في هذه المدرسة نخبة من خيرة المدرسين، وكان بينهم عدد من الأدباء والكتاب المعروفين، وتخرج فيها الآلاف من الطلبة الذين ظهر من بينهم كتاب وصحافيون وقادة سياسيون ومتخصصون في مختلف فروع العلم والمعرفة.
بدت معلوماتي في المنهاج الدراسي المقرر حسنة، بسبب ميلي إلى حفظ المقرر وترديده عن ظهر قلب، أما معلوماتي العامة من خارج المقرر فقد كانت ضئيلة. دعاني مدير المدرسة ذات مرة متوسماً فيّ سعة الاطلاع، بالنظر إلى ما يعرفه عني من تفوق في المدرسة، للمشاركة في برنامج إذاعي حول القدس مع عدد من طلبة الصفوف الثانوية. وجّه المذيع لنا أسئلة حول تاريخ المدينة، فلما سألني عن أسماء القدس التي تسمّت بها في فتراتها التاريخية المختلفة، رحت أعدد أسماء بعض أحيائها الكائنة في البلدة القديمة، فلم تسعفني هذه الأسماء، فشعرت بارتباك.
ولم تكن رحلتي مع تحصيل المعرفة تتواصل على نحو مريح. يأمرني جدي باستمرار بقراءة القرآن، أجلس تحت نافذة غرفته أقرأ القرآن بصوت عال، لإرضائه حيناً ولمناكفته حيناً آخر، فلا يلبث أن يعلو تذمره، ثم يأمرني بالابتعاد. كنت أقرأ كلاماً لا أعرف معناه، وكان المدرسون يلقنوننا القرآن دون تفسير مقبول لما يشتمل عليه من معان وأفكار. ولا أذكر أنني قرأت كتاباً خارج المنهاج المدرسي حتى بلغت الصف الأول الثانوي.
مرة واحدة، وأنا طالب في مدرسة القرية، أحضر لنا المعلم قصصاً تشتمل على صور ملونة، ففرحنا، وتخاطفنا الكتب والتهمناها بشغف. كانت من نصيبي قصة العرندس الذي وقفت سمكة في حلقه أثناء تناوله للطعام، فتلقى ضربة قوية على ظهره من أحد أقرانه، أخرجت السمكة، فأنقذه من اختناق مؤكد، ثم جمع المعلم الكتب من بين أيدينا، ولم يكرر مأثرته هذه مرة أخرى.
أما أبي، فلم يكن يروي لي في تلك السن المبكرة ما كابده من هم وشقاء، لكنه قدم لي خدمة جلّى وهو يصطحبني معه إلى الورش المكرسة لشق الطرق التي تربط القرى بالمدن، فتعرفت على نماذج من الناس، واستمعت إلى الكثير من القصص والحكايات.
ذهبت معه ذات مرة إلى قرية صغيرة في منطقة الخليل، تكثر في أرضها الخصبة كروم العنب والتين. وذات صباح ذهبت إحدى نساء القرية لكي تجمع الحطب من الوادي، فالتقت هناك بأحد الرعاة، ربما على موعد أو على غير موعد، فاختلى بها، فرآهما صدفة أحد الناس، ما اضطرها إلى التململ من تحته وهي تصيح لتوحي بأنها كانت تتعرض لاغتصاب، فأضحت سيرتها على كل لسان، فأثارت تلك الحادثة دهشتي ، ثم استفدت منها أثناء كتابتي قصة (أهل البلد) بعد ذلك بسنوات.
وذهبت معه إلى قرية ارطاس بالقرب من مدينة بيت لحم. ثمة دير في سفح الجبل يضفي على القرية مهابة، ويقوم على خدمته عدد من الرهبان والراهبات، وثمة نبع ماء يستقي منه أهل القرية، وترده الصبايا وهن حاملات الجرار على رؤوسهن للتزود بالماء. كان منظرهن وهن في أثوابهن الفلاحية المليئة بالتطريز يثير بهجة غامضة في نفسي، وكم راقبتهن في لهفة وتمنيت لو أن واحدة منهن تتجرأ على النظر إلي، لترى مقدار الشوق الذي أكابده ويتبدى في عيني! والقرية كانت محافظة إلى حد مبالغ فيه، ولم تتوفر آنذاك فرص كافية للفتيات للتعبير عما في نفوسهن من مشاعر، ربما انتهت بعلاقة عاطفية قد يجري وقد لا يجري تتويجها بالزواج (حينما عدت إلى الوطن، أخذني أخي الطبيب في سيارته لزيارة القرية، فوقفت عند نبع الماء. تذكرت الصبايا حاملات الجرار، ثم تأملت الدير، والمدرسة التي استخدمنا إحدى غرفها لكي ننام فيها أثناء العطلة الصيفية عام 1955).
ولم أكتسب معرفة يمكن الاعتداد بها، من كتبة الورش الذين تعاقبوا على العمل مع أبي، وهم في الغالب أشخاص تعلموا في المدارس بضع سنوات ولم يتموا تحصيلهم العلمي. كانوا يحرجونني بمعلوماتهم التي بدت أفضل مما لدي من معلومات، وكان بعضهم يحاول استعراض معلوماته، فيوجه إلي أسئلة لا أستطيع الإجابة عنها، فأشعر بالحرج أمام أبي الذي كان يعتقد أنني "لبلب" لا تغيب عن بالي شاردة أو واردة.
في محيط العائلة، تضطلع أمي وجدتي مريم، برواية الحكايات الشعبية على أسماعنا قبل أن ننام.
كانت تلك الحكايات هي زادنا الثقافي الوحيد الذي نأنس إليه، حيث لا صحيفة (إلا ما ندر) تدخل بيتنا، ولا مذياع بعد خراب مذياع جدي. وقد جذبتني جدتي وأمي إلى عالم الحكايات، وصرت معنياً كلما ذهبت مع أبي إلى الورشة، بأن أعود بحكاية جديدة، ألتقطها من أحد العمال، يرويها في إحدى الليالي على مسامع أبي والآخرين.
وكان أحد أخوالي يتفنن في سرد الحكايات، بل إنه كان يزيد على ذلك، شأنه في هذا الأمر شأن بقية أخوالي، بسرد كل ما لديه من هموم لأمي. فهي أخته الوحيدة، وبعد وفاة جدتي لعبت تجاهه وتجاه أخوالي الآخرين دور الأم. كان خالي لا يتوقف عند هذا الحد، يروي لأمي _بالهمس حيناً وبالجهر حيناً آخر _ ما يصادفه من مغامرات مع النسوة في القرى البعيدة، فأشعر بالحيرة تجاه ما يرويه هذا الخال دون تحفظ، لأجد من بعد أن موضوع المرأة في كل حالاتها وفي كل أطوارها، يشكل محوراً رئيساً من المحاور التي تنهض عليها كتاباتي القصصية.
تضيف أمي إلى الحكايات الشعبية، حكايات مستقاة مما مر بها من أحداث. حدثتنا عن المرأة المجنونة التي صادفتها مرة في وادي الديماس. رأتها من على البعد جالسة في الوادي منفولة الشعر، فالتحقت بجمع من الرجال والنساء من قرية العبيدية، كانوا عائدين من القدس إلى بيوتهم، فمشت معهم حتى تجاوزوا تلك المرأة، التي ظلت تحدق في أمي دون بقية النساء، كأنها تريد أن تنقض عليها، فلم ينقذها من ذلك سوى وجودها مع هذا الجمع من الناس.
وحينما اقتربوا من منطقة "الحرذان" اتجهوا نحو العبيدية، فانفصلت أمي عنهم لأنها كانت ذاهبة إلى البرية لزيارة والدها. نصحوها بأن تغذ الخطى كي لا تتبعها تلك المرأة التي فقدت عقلها بعد استشهاد أخيها عام 1948، فأسرعت أمي لا تلوي على شيء. كنت ألوذ بفراشي وأنا خائف من مغبة اللقاء مصادفة مع تلك المرأة أو مع من تشبهها من النساء.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي