الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتفاضة تشرين … مخاض أملٍ جديد ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 12 / 24
الادب والفن


تسللت اولى خيوط الفجر الناعسة الى بيت الحاج ابو شاكر المتواضع .. في حي فقير يسكنه بشر منسيون ، فنشرت ضوئها الباهت ، وحرارتها الخفيفة .. ايذانا بولادة يوم جديد .. العصافير تزقزق دون ملل حول المكان ، وتواصل قفزاتها الحذرة بحثا عن حبة او قطعة خبز منسية … لا يزال الاولاد الاربعة .. ممددين على فراش قديم متآكل على الارض ، يغطون في نومهم الثقيل .. تكاد تشعر بتردد انفاسهم المتلاحقة .. سعداء باحلامهم الوردية .. يتصارعون ، وهم نصف نيام على الغطاء الخفيف المرمي على اجسادهم الشبه عارية .. انزلق شاكر تحت الغطاء حتى اوشك ان يختفي .. هربا من لسع ذباب الفجر المؤذي .. متشابكين تشابك خطوط راحة اليد ، فرأس ماجد محشور في بطن شاكر ، وقدم اموري فوق صدر علاوي ، وذراع شاكر تنهال على رقبة ماجد بين الحين ، والآخر ، وترتاح على خاصرته ، فيبدي ماجد تململه ، وانزعاجه ، واصوات غطيطهم الذي يُسمع عن بعد لم ينقطع طوال الليل ، فهم لم يستوفوا حظهم بعد من الرقاد اللذيذ في مطلع الصباح الباكر !
سهرة طويلة مع فلم جميل امتدت الى ما بعد منتصف الليل ، ونقاش طويل ، وجدل يؤدي احيانا الى ملاسنة ، ونقار بينهم بسبب اختلاف الاراء ، والتصورات ، وجدوى الحلول المطروحة من قبل الحكومة ، ومدى صدق او زيف سيل تلك الوعود التي تُطلقها ..
ينتظرهم في الخارج عالم قلق غير مستتب … فالمظاهرات لا تزال مشتعلة ، ولها الصدارة في نشرات الاخبار المحلية ، وحتى العالمية ، وشاكر ، واخيه علاوي من قادتها دون علم الوالدين !
تقطعت انفاس ابو شاكر ، وهو يهتف بهم … بضرورة الاستيقاظ ، والذهاب كل الى عمله او مدرسته .. اما الحاجّة فقد استيقظت مع ابنتها زهراء مع خيوط الفجر الاولى .. خبزت خبزا حارا شهيا احمرا مورد الخدين ، وهيأت كل مستلزمات الفطور اللذيذ.. بانتظار الجميع .
والنهار الغامض يواصل ولادته .. لا ينتظر احداً ، والوقت يطير ، ويمر سريعا .. والنهر القريب من البيت يمضي في جريانه بشرود ، ورعدة الاسماك المفزوعة ، وهي تتخبط يميناً ، وشمالاً .. سعياً للنجاة من حجر أُلقي في النهر !
وبعد ان استنفذ الحاج كل طاقته من الصراخ هدء قليلا ، ولما لم تُثمر كل جهوده السلمية في إيقاظهم … يُسرع كما اعتاد كل صباح لايقاظهم ، ولكن بطريقته الخاصة .. رفسا خفيفاً ، وكيلا من الشتائم ، والسباب من بين أسنانه .. لهم ، وللنت الذي يشغل بال ، ووقت الجميع … انزلقوا الواحد بعد الآخر من تحت الاغطية الرثة .. ينزعون اجسادهم المتعبة عنوة من غفوة الفجر اللذيذة ، وهم يفركون عيونهم المتورمة .. ثم يتزاحمون على الحمام ، ويتدافعون على المغسلة ضاحكين … !
وبعد توصيات حازمة من الاب ، بضرورة الحرص على تجنب ما يسئ ، وما يضر .. وادعية مخلصة من الام نابعة من القلب بان يحفظ الله اولادها ، ويفتح طريقهم ، ويجنبهم الشر ، ويهديهم الى سبيل الخير .. يتفرق الاخوة عند الباب .. فيذهب ماجد ، واموري الى المدرسة ، وشاكر ، وعلاوي يركبون التكتك الى مكان الاعتصام ، فاليوم يوم الحسم .. لقد انتهت مدة الهدنة ، وستستمر المقاومة حتى القضاء على الفساد ، والمفسدين ، ولا احد يعلم ما الذي سيجري ، ولا الى اي مدى ستسير الاحداث .. والخوف كل الخوف ان تفلت من ايدي الكل ، ويحدث ما لا تحمد عقباه من الامور المتوقعة ، وغير المتوقعة !
وسط السماء البعيدة ، والخادعة .. سحابة سوداء ليس هذا وقتها ، ولا زمانها ، ولا تفسير لها .. تعبث بها يد الهواء كيفما اتفق .. تغطي نصف قرص الشمس او كله .. وراحت الشمس بين الظهور ، والاختفاء .. تُضفي على مشهد الاحتجاجات مزيدا من العتمة ، وشيئاً من رائحة الحزن .. وصمتٌ مريبٌ يُمسك بخناق كل شئ .. !
صرخ طائر غريب أشبه بغراب ، وهو يقف على الاسلاك الشائكة كأنه يتألم او يحتضر .. لا احد يدري كم علامة سوداء سوف تتركها الاحداث خلفها اليوم ، وغد … ؟! من يعلم بما سياتي به الغد ؟ فالموت تكرر كأنه جرح ينزف ، واصبح قدرا مقدراً للبعض لا يمكن الافلات منه !
استجلى الاخوة كل تفاصيل المشهد عند وصولهم الى مركز الاعتصام ، متأملين الموضوع من شتى جوانبه .. وطأ شاكر احساس ثقيل بالضيق ، والخوف من المجهول .. لم ينكشف تجهم السماء ، وعبوسها بعد … كانت الاجواء ملبدة بالتوتر الى اقصاه لا تحتاج الا الى شرارة لتشتعل .. قوات مكافحة الشغب ، والشرطة ، قد اخذت مكانها .. مدججين بقنابل الغاز الفاسدة والهراوات .. ولا يخلو استعدادهم من الاسلحة النارية ، والمتظاهرون على اتم الاستعداد للمواجهة ، بسلاحهم الوحيد الحجارة ، والشجاعة ، والصراخ ، والهتافات باسقاط حكومة الفاسدين .. فلم يعد هناك متسع للخوف او التردد او التراجع ، ولا مكان للخائفين ، والجبناء ، فالخوف لا يصنع الحرية ، ولا ينتزع الحقوق من انياب ، ومخالب مغتصبيها ! فاما الموت ، او تحقيق الاهداف النبيلة التي ضحى من اجل تحقيقها المئات … هكذا كان العزم ، وهكذا كان التصميم !
يبدو للمتظاهرين ان الحكومة الغبية تواجه مطالبهم بالعناد ، واللامبالاة ، وتنظر لهم ، وكأنهم اصفارا .. كيف يمكن ان نختصر سنوات من الفساد الذي بات ينتشر كالوباء ، وطوفان من الاخطاء ، والتردي ، والاحلام المخنوقة في حروف مبعثرة لوعود فارغة لا تحمل أي معنى من سياسيين فاسدين ، في بلد السرقة فيه حلال ؟! أي امتهان للعقل هذا !
لا احد يعرف من خدش جلد الصمت ، الذي اندلعت على اثره الاشتباكات بين الطرفين ، واشتعلت النيران ، ولا يمكن عندها فرز من اين تاتيك الرصاصة او الهراوة ، او طعنة غادرة في الظهر من مندس حاقد ، فاختلط الحابل بالنابل ، وكان كل شئ يهتف مؤذناً بالاسوء في هذا المخاض الوجودي ، والخوف كل الخوف من المندسين المسلحين لتغيير مسار المظاهرات الى مكان لايريده احد … اصوات الصراخ ، والزعيق علت ، وكلمات التشجيع الحماسية تاتي من هنا ، ومن هناك بلغة نسائية ، ورجالية على السواء تدعو الاشاوس الى عدم التراجع ..
وجوه مخضبة بالدماء ..! أجساد ساقطة على الارض .. تتلوى ، والحياة متلفعة بثوب حداد .. حركة التكاتك الهائجة لا تتوقف .. تنقل الشهداء ، والجرحى ، وصوت ابواقها تعوي كذئاب جائعة ، وكشافاتها تنير المكان بعد ان تهاوت الشمس متعبة ً ضجرةً الى المغيب .. كان كأن كل ذرة في الأرض تصرخ ، وتستصرخ .. اختفت ابتسامات الزهور ، وتجهم وجه الجمال ، والحق ..
تفوح في الجو انفاس اسطورية من الغضب ، والعناد ، والتحدي ! وكان للنساء ، والفتيات نصيب كبير يدعو الى الفخر ، والاعجاب في هذه الملحمة النادرة .. يقمن بتقديم الاسعافات الاولية للمصابين ، والطبخ ، والترجمة للصحفيين الاجانب ، وبث روح الحماس … وغيرها من الخدمات اللوجستية ، وكن يرسمن الرقم سبعة علامة النصر في وجه السماء ، وامام الكاميرات ، وابتسامة الخير تطرز وجوههن … !
لم يشعر شاكر بخوف على نفسه بقدر شعوره بالخوف على شقيقه علاوي الذي يبدو اكثر اندفاعا ، وحماسا .. يراه وقد ترك نفسه في مجرى تلك اللحظة غير مبال ، وغير مقدر للعواقب .. كان ذو طبيعة قتالية متمردة شرسة عكس شقيقه شاكر الذي يبدو اكثر حرصا … سقط العديد من الشباب ، وهم في زهرة العمر بين شهيد ، وجريح .. انتشرت رائحة الموت العطنة في كل مكان … التفت شاكر في خضم الاحداث ، ولم يجد اخوه علاوي ، فطار صوابه .. بحث عنه في بصره هنا ، وهناك ، ولم يعثر عليه .. ركبه رعب مميت على اخيه ..
كان لفرط خوفه ، وقلقه ينظر بعينين لا تريان شيئاً ، حتى صاح عليه احدهم بان علاوي قد نقلوه في تكتك زميلهم حيدر مصاب في رأسه .. جن جنونه .. تسمر في مكانه ، وهو يلهث وسط انتباه مشتت ، ثم ركب التكتك محاولا اللحاق باخيه في وحدة العلاج في المخيم ، وهو ينتزع انفاسه بصعوبة .. حاول ان يتنفس فلم يجد هواءً ، بل روائح بارود ، ودخان اطارات مشتعلة ، وغاز خانق ينتشر في كل مكان .. ثم اطبقت عليه ذكريات الليلة الماضية ، ونقاشاتهم ، وسجالاتهم التي كانت السياسة فيها تفرقع وحيدةً في الجلسة ، وموجة الحماس المخيفة التي تعلو عند اخيه علاوي ، وترتفع به الى مقام شرفي آخر .. !
شعر بفزع شديد على اخيه المصاب ، وعلى نفسه كأن خيط الحياة الذي يُمسك به بات على وشك الافلات ، ووخز الضمير يؤلمه بعد ان عاهد نفسه بأن يحافظ على اخيه ، وسلامته .. حاول ان يتماسك ، ويقبض على زمام نفسه ، ولكن عبثا فالموقف كان اكبر من التصور ! ثم شبت في روحه ثورة مفاجئة عارمة اجتاحت الهزيمة التي سكنته قبل لحظات .. مستمداً من المه عناداً … كانت الدموع قد بدءت بالتكوين في داخله ، ثم بدءت تتفجر دون توقف … جمع كل ألمه ، وتوسلاته ، ورجاءه ، وخوفه .. في صرخة واحدة : يا رب … ثم بصوت اعلى اشبه بزئير أسد مجروح ، وهو يردد ، ويعيد بحراره ناطقة بالصدق : عاش العراق .. عاش العراق … وكان علم العراق يرفرف بزهوٍ فوق سارية التكتك الامامية … !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا


.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور




.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان


.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل




.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين