الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرقص في الفنّ التشكيلي أو في استعادة صخب الكينونة

هيبة مسعودي
باحث

(Messaoudi Hiba)

2020 / 12 / 25
الادب والفن


La danse des Satyres





كتب نيتشه في هكذا تكلّم زاردشت " إنّ الجسد السليم، يتكلّم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الأرض. ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل. إنّ ما يجب أن أومن به يجب أن يكون راقصا " هكذا وصف لنا نيتشه مستطاع الجسد الراقص على لسان الحكيم زاردشت، فالرقص يبثّ في الأجساد اقتدارا حيويّا وجمالية متفردّة. غيّر أنّ الرقص كثيرا ما يقع استضافته في رحاب الفنون التشكيلية في شيء من التواشج بين الحركة والفرشاة. هاهنا في مهجة العناق بين الفنّ التشكيلي واقتدار الجسد الراقص تندرج اللوحة التشكيلية "رقصة ساتيرات " للفنان التشكيلي التونسي فيصل محفوظي المعروضة في الصالون الوطني الرابع للفنون التشكيلية ببنزرت. فأيّة دلالة للرقص التشكيلي؟ وأيّ عوالم تفتح عليها هذه اللوحة؟
"رقصة ساتيرات" عنوان انتقاه فيصل المحفوظي للوحته ولأنّ العنوان في الأثر الفنّي ليس مجرد اسم اعتباطي أو كلمات جوفاء تغري المتلقي، وإنّما" الموجّه للتّأويل والقراءة " في استعارة لعبارة آرتور دانتو. فالرقص في اللّوحة لا يخصّ أجسادا مجهولة، بل هو رقص خاص، يحملنا إلى ساتير Satyre شخصية أسطورية أعاد الفنان إحياءها في صيغة الجمع على ركح لوحته التشكيلية بفضيلة الخطوط المتباينة والمتراقصة في شكل ميلان إيقاعي يزهر تجسد ظلال أشخاص يترنحون في وضعيات جسدية متباينة تشكّل نشوة الرقص.
إنّ العنوان يوثّق اللوحة التشكيلية في الميثولوجيا الإغريقية لأنّ ساتير ذكر من القوات المصاحبة لديونيزوس إله الخمر وملهم طقوس الابتهاج والنشوة. وساتير في الميثولوجيا الإغريقية لديه ذيل ماعز قد حرص الفنان على الإبقاء عليه في رسمه، غير أنه ثّمة ملامح قد تغيّرت، فقد ارتدى ساتير ورفاقه قبعات وانتعلوا أحذية كلّها تزيد في أناقتهم من أجل هذا المشهد الراقص الذي تغيب عنه الألوان لتحضر جمالية حركية الخطوط زادتها ثنائية الأبيض والأسود تناوبا بين الامتلاء والفراغ، بين الرسم والرقص.
فثّمة مسرحة للخطوط تجعل من اللّوحة مشهدا راقصا بل مسموعا تعلو منه أصوت الموسيقى لأنّ ساتير الجمعي يرسل أنغامه بذاته من الآلات التي يحملها فكما يكتب نيتشه " ما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الاقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرّة نفسه "، إنّها بهجة تقتحمنا، تخلع عنّا ثوب التزّمت المصطنع لتزّج بنا في إحتفالية ديونيزوس من رقص وموسيقى وتخمة خطيّة قابلة للانفجار بالجميل الفنّي.
هاهنا نكتشف أنّ الرقص هو المعجزة التعبيرية للجسد، والرقص داخل لوحة تشكيلية هو اقتدار تطويع الخطوط في تقف لمستطاع الحركات الحالمة للفرشاة واليد. علاقة متفردّة كتب حولها جيل دولوز في كتابه فرانسيس بايكن: منطق الإحساس " إنّ تعريفي للرسم، عبر الخطّ واللّون، لا يعوض أحدهما الآخر تماما. لأنّ الأول بصري لكن الآخر يدوي. من أجل تحديد خصوصية العلاقة بين العين واليد. "ثمة استعادة للميلان والانحناء والانكسار والاعواجاج ، استعادة نرى فيها استعادة لصخب الكينونة وفوضاها لعلّ من رحم الفوضى يلد الانسجام وتتفجّر هامات الفرح التي حرمنا منها جزافا.
فنحن مدعوون للرقص على أنغام الخطوط والأشكال، و إيقاظ مهجة الحياة، مستعيدين بذلك قولة نيتشه " لنعدّ كل يوم يمرّ بنا من دون أن نرقص فيه ولو مرّة واحدة يوما مفقودا، ولنعتبر كلّ حقيقة لا تستدعى ولو قهقهة ضحك بيانا باطلا" فالرقص هو تمرد على رتابة الاستقامة ومقاومة لسياسات الفشل القاتل التي تحوطنا لأنّ الرقص يزهر وينبت الإيقاع الحيوي للحياة، حينما تصبح مهدّدة في كل أطوارها، فقط الفنّ يمنحنا عالما آخر يحترم الإنسان ضدّ عوالم السياسة الخانقة التي امتهنت ثقافة اليأس والاغتيال الممنهج لصخب الكينونة.
إنّ لوحة رقصة ساتيرات تنبش في ذاكرة الإنسان المعاصر الذي ينهشه القحط الأنطولوجي والخراب السياسي وانحدار مؤشر الأمل من الحياة، لتكشف لنا أنّه مازال بإمكاننا الرقص مقاومة لكل مظاهر وئد الأمل، وما زال على أرضنا ما يستحق المقاومة والنضال. نعم ثّمة إمكانيات أخرى مضادة لكل ما يحيط بنا، يمكن بعثها من جديد، ليقر الفنّان " وطمحت يوما إلى الرقص متعاليا بفنّي إلى ما وراء السبع الطباق " متعاليا عن الخراب لعلّ بالفنّ نبني عالما موازيا يخرجنا من ثقافات الابتذال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07