الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس

حامد تركي هيكل

2020 / 12 / 27
الادب والفن


البيارق

الساعة الخامسة مساءً

يبدو أن المجنونين الصغيرين عماد وحسن يشعران بالراحة والإطمئنان على طريقة سير الأمور حتى الآن. اذ يبدو أن وضع الرجل الغريب مستقر. كانت تلك الكلمات التي قالها الرجل الغامض سواء تلك التي تحدث بها عن نفسه، أو تلك التي بيَّن فيها وصفاً كاملاً ومسهباً عن المدينة التي جاء منها، أو تلك الجلسة الغريبة التي نجحا في تسجيل ما قاله أثنائها عن الظروف والأسباب التي أدى في النهاية الى تقسيم المدينة الى أربعة مثلثات، كانت كل تلك الكلمات والتفصيلات عبارة عن قطع من أحجية يصعب على عماد وحسن حلُّها، أو ربما لا يستطيع أحدٌ أن يكوّن منها فكرة عن هذا الرجل. غموض أُضيف على طبقات الغموض المتعددة التي تخيّم على عقليّ هذين الشابين الصغيرين المسكونين بالألم والاحباط. من هو؟ وعن أية مدينة يتحدث؟ وما هي تلك الأحداث التي جرت لمواطنيه؟ هل هي مجرد خيالاته، كونه رجل مجنون؟ أم أنها خيالاتهما باعتبارهما شابان مجنونان طالما تخيّلا أشياءً وأحداثاً! أم أنها رسائل مشفّرة من مصدر ما يُراد من ورائها قصد ما؟
الرسائل النصيّة التي أرسلها عماد الى أصدقائه القدامى والجُدد في المجتمعين المنفصلين اللذين لا يعلم أحدهما بالآخر قد أحدثت ضجّةً هنا، وهزَّةً هناك. ففي مجتمع السطح حيث يكون الناس عادة مشغولين بحياتهم الرتيبة، يظهرون وكأنهم أفراد يسيرون وهم نائمين، لا يلتفتون للإشارات التي تظهر لهم، ولا ينتبهون للعلامات التي تعترض طريقهم، ولا للومضات التي تلمعُ في آفاقهم مثل شهب ما إن تتوهج بين الفينة والفينة حتى تختفي، بل يمضون وكأن شيئاً لا يحدث لهم، وكأن القوة الوحيدة التي تسيّرُهم هي تلك التي تستحثُّ خطاهم نحو حاجاتهم الغريزية، أو تلك التي تحكمُ سلوكياتهم الجمعيّة الروتينية. يمضون متبلديّ المشاعر، مخدّريّ الحواس. لم تسترعِ رسائل عماد إلّا انتباه عددٍ محدودٍ من الرجال والنساء في مجتمع السطح، مجموعة باتت تنتظر حصول أمر ما، فقد تجمعت لديها أرهاصات، وتيقنت من وجود عدد من الدلائل، كلها تشير الى اقتراب حصول حدث ما، سيكون له صدى، حدث يغير رتابة الحياة اليومية في الكوكب الى الأبد! لذلك وجدتْ تلك المجموعة في الرسائل التي أرسلها عماد ما يثيرُ انتباهَها، فتداولتْها، واجتمعتْ لمناقشتها، ووجدتْ فيها أموراً تستحق التوقف عندها. كانت تلك مجموعة من الشباب المهتمّين بالمسرح والشعر والرسم، مجموعة التفّتْ حول ناقد مسرحي مخضرم، لا يحمل شهادة أكاديمية، ولكنه رجل عاش منذ أن كان شاباً فتيّاً في أجواء المسرح، فتشرَّب حبَّه في روحه وقلبه وعقله. رجل عاصر المسرح ردحاً طويلاً، ولم تشغله عن المسرح مشاغلُ أخرى. يعرفه المهتمون بالفنّ، يلتفّون حوله، وينهلون من واسع علمه، وعظيم معرفته، لا يفارقونه أبداً، يستشيرونه، ويطلعونه على أفكارهم وأعمالهم، فيسعدُ هو بكل ذلك. ليس له عائلة يعيش معها، ولا عمل ينشغل به، وليس له همٌّ في الحياة غير المسرح. لا يعرفه الشباب الا بكنيته، وكنيته بينهم "الشايب". يقال أن الشايب عندما كان شاباً كان يبيت ليله تحت خشبة المسرح، يقرأ النصوص، وقيل أنه كان يحتفظ بمكتبة ضخمة هناك. وقيل أنهم شاهدوه ليلاً وهو يمثّل وحده على خشبة المسرح في الظلام. وقيل أن رجال إدارة المسرح طردوه غير مرة لأنهم أيقنوا أنه مجنون. كان ذلك منذ زمن بعيد. بالرغم من مرور ساعات معدودة على تلك الرسائل التي أرسلها عماد، إلّا أن ذلك الوقت كان كافياً بالنسبة لمجموعة الشايب ومريديه كي يستحوذ عليهم موضوع الرجل الغامض وما قاله. فقد رأوا فيه أموراً لم يلحظها غيرهم. فاجتمعوا بسببه، وناقشوا قضيته، وتداولوا الأفكار بشأنه، ونصبوا محكمةً سريعة له. أدانه البعضُ منهم لتقصيره وعجزه عن التأثير بالأحداث، ولأنه اكتفى بمراقبتها فحسب. وبرّأهُ البعضُ الآخر منهم، إذ اعتبروا أن نقل المعرفة مهمة عظيمة، والتفرغ لها أمر مطلوب. ثم أنهم بدأوا يحاكمون أنفسهم. فهم أيضا يمكن أن يُقال عنهم أنهم متفرجون على ما يدور في عالمهم السطحيّ، لا يفعلون شيئاً له. لذلك فقد تحمّس بعضُهم للبدء من جديد في الحضور والتأثير والكفّ عن الانزواء، وإلا فإن حركة المجتمع ستمضي بغيابهم لا تلوي على شيء. هكذا قالوا! وهكذا توهّموا، لذلك قرروا أن يتواصلوا مع الرجل الغامض، وأن يقتربوا منه، ليسمعوا منه مباشرة، ولا يكتفون برسائلَ مقتضبةٍ يرسلها نصف مجنون!
أما مجتمع القاع فكانت حيرته أشدّ وأقسى. فمنذ أن انتشر خبر العثور على رجل قرب خيمة المجنونين في حديقة الأمة، استولى ذلك الحدث على عقولهم المبعثرة، وتغلغل في ضمائرهم المشتتة. شعر بعضهم بالتهديد، وتخيّلوا نهاية مفجعة لعالمهم الهشّ. وخاف بعضهم من أن يكون ذلك الدخيل قد أُرسل اليهم للغدر بهم، بعد أن يكشف ما خفيَ من عالمهم المستتر. أما الرجال والنساء الذين توهموا أنهم مسئولون عن هذه الجماعة، فقد هزَّ ظهورُه المفاجيء وجدانَهم المضطرب أصلاً، وباتوا يبحثون عن معنى لهذا الأمر الغريب. أرسل الرجلُ الشفاف ذو المعطف الرمادي ذلك الشبحَ ليسترقَ السمعَ للحديث الذي دار في خيمة المجنونين المستجدين. ونقل الشبابُ المجانين الجدد مضمونَ الرسائل الصوتية التي استلموها من عماد لأصحابهم، الذين نقلوها بدورهم لأصحابهم في الحال، حتى انتهتْ الى مسامع الرجل الشفاف، فتجمعت الروايات المختلفة عنده، فوجدها متناقضة، غامضة، قصد المقبرةَ القديمةَ المهجورةَ ليتداول مع العمياء المعمّرة. والتحق به آخرون. تداولوا، وتبادلوا الأوهام، فلم يستطيعوا التوصلَ الى رأيٍّ واحد، أو وهم واحد! فالعمياء لم تكن قد نبّهتهم من قبل بأمر هذا الرجل، فكيف يحصل ذلك؟ قرروا أن يكونوا قريبين قدر الإمكان من الرجل، ولا يكتفون برسائل قد يرسها، وقد لا يرسلها نصف مجنون لم ينلْ ثقتَهم بعد! صار ظهور الرجل الغامض بمثابة حجر أُلقي في بحيرة راكدة، فحرَّك سطحَها، وأثار قاعَها، وعكّر صفوها، فامتزج السطح والقاع أو كادا. أو مثل نيزكٍ اخترق طبقات الهواء المنفصلة، فاضطربتْ بعد سكونها، واختلطت بعد انعزالها. ولا يعلم أحد ما الذي سيتمخض عن هذا الامتزاج، وما الذي سينتج عن ذلك التفاعل. في هذه اللحظة فتح الرجل الغامض عينيه، في الساعة الخامسة مساء اليوم الثاني من وجوده في الخيمة، كان على يقين تام أنه هنا ميت مع ميتَين آخرَين في العالم الآخر يشاركانه رحلتَه السماوية البطيئة المملّة! هكذا توهم هذه المرة!
- عماد هل أنت جاهز للتسجيل؟ سأل حسن. فيما بدأ عماد يحاول تنظيم هاتفه ليسجل الحوار الذي يبدو أنه على وشك البدء. سأله حسن : كيف جرت الأمور في مدينتك بعد ذلك؟ أما هو فقد توهّم أن أحد الميتَين هو الذي سأله عندما كانا يعبران نفقاً طويلا يبدو أنه بلا نهاية، نفقاً حلزونيّا، حتى يظنُّ المرءُ أنه وإن كان يطير فيه، إلّا أنه ساكنٌ بلا حركة، معلق هناك في فضاء أبيض لا شيء فيه سوى سكون، وثمة صوت خافت رتيب متواصل ليس له بداية ولا نهاية. صوت كأنه صوت محرك يهدر من بعيد، أو صوت أنين رجال يتألمون، لذلك يودُّ أن يشغل نفسه بالكلام عن سماع ذلك الصوت. راح الرجل الغامض يشرح بهدوء:

المائدة المستديرة

قال الرجل الغامص: في زمن مبكر اجتمع الكبار الأربعة للتفاوض لايجاد حل لمشكلة المدينة الآخذة بالتعقيد. فقد كان لزاماً على الكبار الأربعة في المثلثات الأربعة أن يرسموا الحدود بينهم لتكون واضحة المعالم. ولابد من ازالة بعض المباني لتكوين حدود فاصلة خالية من البناء كمناطق فاصلة بين المثلثات، مناطق للقتال، يمكن مراقبتها بوضع نقاط حراسة عليها. ومن أجل حفر الخنادق فيها، و ارسال الجنود اليها لمراقبة الخطوط، والسهر على سلامة الدفاعات. فالحرب بدون ضوابط ستكون مضرّة جداً. لابد من الاتفاق على قواعد واضحة للعبة. كان عليهم أن يعقدوا اتفاقات فيما بينهم لتحديد مواقع حقول الموت الشاسعة، ولا بد من الاتفاق على منع الاعتداء على المدفونين الجدد والقدماء لأن ذلك يصبُّ في مصلحة الجميع.
تجرأ أحد المستشارين العاملين بخدمة كبير من الكبار في الليلة التي سبقت الأجتماع المزمع عقده، وسأل سؤالاً أُعتبر غبيّاً جداً، اذ قال: طيب اذا كان التوصل لاتفاقية تحرّم قتل الجثث في القبور ممكناً، لماذا لا نوسّعُ هذه الاتفاقية لتشمل تحريم قتل الجنود في الخنادق؟ بدا سؤال ذلك المستشار منطقياً لأول وهلة، الا أن المستشارين الأكثر ذكاءً وجدوا أن في ذلك المقترح خيانة! كيف؟ سأل أحدُهم. عندما لا يُقتل الجنودُ في الخنادق، فهذا يعني أن وجودهم في الخنادق لا مبررله، صحيح؟ نعم صحيح. وحين يكون وجود الجنود في الخنادق لا مبرر له، فالخنادق لا مبرر لها، صحيح؟ نعم صحيح. وحين لا يكون للخنادق مبرر فهذا يعني أن السلام قد حلّ، صحيح؟ نعم صحيح. اذن في مثل هذه الظروف لا مبرر لوجود الكبير أيها الغبيّ! وارتفع صوتُه، وانتفخت أوجاده، وانتابته موجة من الغضب. لم يستطع أحد تهدئته رغم أنه أطلق النار على ذلك المستشار المتخاذل الذي طرح ذلك السؤال الغبيّ. هتف المستشارون بعدها خائن، عميل، حقير، ولم يستطع أحد أن يرى جثته تخرج من باب غرفة الاجتماعات وهي متماسكة، فقد قيل أن أحدى رجليه قد خرجت قبل الأخرى بربع ساعة، أما الرأس فيقول شهودُ عيان أنه قد قُذف به من النافذة قبل أن يطرح سؤاله السخيف!
كانوا بحاجة الى تفاوض لتكون المساحات التي سيتم تفريغها متوازنة ومقبولة من الأطراف المتجاورة بشكل عادل. كما يجب التفاوض لوضع طريقة مناسبة للاتصال بين الكبار الأربعة منعاً من تدخل جهات طفيلية مجهولة. أدرك الجميع أن التفاوض بات ضرورياً والاتفاقية ضرورية أيضا من أجل تضمين نص قانوني يتيح لكل منهم توقيع معاهدات مثل تلك التي تتضمن دفع التعويضات، أو بيع الأنهار، أو التنازل عن الأراضي وغيرها من الأمور السيادية المهمة! كان لزاماً عليهم إجراء مفاوضات ليمنحوا بعضهم هذا الحق.
جرى الترتيب لاجتماع الدائرة المستديرة أياماً عديدة، وقد بُذلت جهود حثيثة من جميع الأطراف لانجاحه. تم اختيار المكان بعناية فائقة، واختير المركز لرمزيته ليكون مكاناً للاجتماع. ولكن المعارك قد أتت تقريبا على المركز، ولم يتبق منه إلا أبنية قليلة. كانت تلك الأبنية مغطاة بطبقة كثيفة من النيلج الناعم بفعل الحرائق السابقة. على الفور تم تنظيف المكان، وتمت إعادة ترميمه وصبغه بلون أبيض، وتم وضع أشجار خضراء من البلاستك، وتمَّ فرش الحدائق بطبقة من الثيل الصناعي الاخضر. ومُلئت الأحواض بمادة جيلاتينية شفّافة تشبه المياه المتموجة. وجُلبت مئات العصافير البلاستيكية الملونة التي تصدر زقزقة بعد وضع البطاريات الصغيرة داخلها، عُلقت بطريقة ذكيّة على الاغصان البلاستيكية. كل شيء تمَّ بصورة مذهلة حسب ما خُطط له. وقد تمَّ تخصيص مبنى للصحفيين أمام للمبنى الذي ستعقد الاجتماعات داخله. وخُصصت ساحة نصب الصحفيون ووكالات الأنباء كامراتهم وأجهزة النقل المباشر عبر الأقمار الصناعية فيها. وتم التعاقد مع أفضل المطاعم لتزويد المتفاوضين بوجبات غذائية حسب البروتوكولات الدبلوماسية المعمول بها. وتمَّ اعلان وقف اطلاق النار من قبل الجميع وفي وقت واحد وذلك لضمان سير الاجتماع بدون منغصات ومفاجآت.
ولكن الكبار ومعاونيهم أكتشفوا عندما جلسوا الى مائدة التفاوض المستديرة لأول مرة أن ثمة شيئاً مهماً ينقص ذلك الإجتماع. فقد اكتشف كل منهم وبوقت واحد، ودون أي اتفاق بينهم، أنهم بلا بيارق. يا للعار! من نحن؟ ومن هم هؤلاء الآخرون؟ قال أحد الكبار الأربعة لمستشاريه. وبوقت واحد تذكروا أن المتحاربين اذا ما جلسوا على مائدة مفاوضات، فلابد أن توضع خلفهم بيارقهم، وعندما يقيمون مؤتمراتهم الصحفية، لابد للصحفيين والمصورين أن يلتقطوا لهم الصور مع بيارقهم. فكيف غفلوا عن هذا الأمر البسيط؟ شعروا بالندم، وشعروا بالخزي وبقلة الخبرة. ما خفَّف عنهم هول الصدمة في تلك اللحظة العصيبة هو أنهم جميعا كانوا بلا بيارق. كيف سيكون الأمر مخزياً لو أن كبيراً منهم أحضر بيرقاً، ولم يُحضر الآخرون بيارق؟ لابد أنهم سيشعرون بالخزي أكثر مما يشعرون به الآن. كانت تلك الصدمة التي تعرضوا لها عندما وجدوا أنفسهم وجها لوجه من دون بيارق تنتصب خلفهم قد أفقدتهم القدرة على الكلام، والقدرة على التفكير والقدرة على الابتسام. قال أحد الكبار في وقت لاحق انه لم يشعر بالهوان في حياته أكثر مما شعر تلك اللحظة! شعرتُ أنني غبيٌّ جدا، قال، وتمنيتُ لو أن الزمن يعود للخلف، تمنيتُ أن تشطب تلك اللحظة من الذاكرة. قال. ما الذي سيقول عنّا الآخرون؟ سأل أحد الكبار. كنتُ أعتقد أن لنا بيرق أيها الأغبياء! اذن ماذا كنّا نعمل طوال تلك المدة؟ كيف مات جنودنا اذن بدون أن يكون لهم بيرق؟ سأل أحد الكبار مستاءً. سيدي كانوا يعرفون بعضهم من خلال ملابسهم المختلفة. قال أحد المستشارين. وسرعان ما انفضَّ الاجتماع دون أن يتكلم أحد منهم. وانسحب الكبار وأعضاء الوفود من الأبواب الخلفية مسرعين خوفاً من مقابلة الصحفيين الأجانب الذين ظلّوا ينتظرون خروجهم ساعات عدة دون جدوى. ذهب كل منهم الى مثلثه مسرعاً. كان الجميع في غاية الارتباك، وكان الجميع خائفين. صغار الموظفين كانوا خائفين من كبار الموظفين الذين كانوا خائفين من المستشارين، وهؤلاء كانوا خائفين من الكبار. الكبار كانوا خائفين من الاعلام. والاعلاميون كانوا خائفين من مغبّة تقاريرهم التي لا يعلمون ما الذي سينجم عنها من ردود أفعال. كان كل شيء جنونياً. وفقد أعضاء الوفود دفاترهم التي كانوا قد كتبوا فيها النقاط الواجب مناقشتها. نسي الكبار وأعضاء الوفود في تلك الليلة التفاوض. ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم مشغولين بشأن آخر غير التفاوض، شأن جديد تماماً. كان عليهم أن يجيبوا على سؤال مصيري وهو( ما شكل ولون البيرق الذي يتعين عليهم تصميمه واتخاذه- شعاراً لهم؟)
استغرق الأمر وقتاً طويلاً، وصدرت الأوامر التي تقتضي بتسخير الطاقات كافة من أجل إنجاز هذه المهمة الوطنية الشريفة. سوف يذكر التاريخ لكم أيها الأبطال وقفتكم هذه! نحن نصنع التاريخ. سيدي بالنسبة لقرار وقف اطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه لانجاح المفاوضات، ما الذي نعمل به؟ سأل مسؤول الحركات في أحد المثلثات. أخرس ! لا شيء أهم من البيرق الآن، وقف أطلاق النار! هل تعتقد أن الوقت مناسب الآن لمناقشة أمور تافهة؟ ولكن سيدي بالنسبة للحرب! أخرس! انتم لا تصلحون لشيء! أجاب غاضباً.

البيارق
وهكذا دبَّت حركة نشيطة في كل المثلثات، وتحمّس الناس، وفرحوا، ذلك لأن الاجتماع قد تمخّض عن ولادة البيارق. فكر المفكرون، وانشغل المصممون، وبحث الباحثون، وناقش المفكرون القضايا المتعلقة بشكل البيرق وفكرته، وتطلب الأمر اجراء مفاوضات سريّة وتنسيق المواقف بين الكبار أنفسهم لتفادي حصول تشابه بين ألون وأشكال البيارق، الأمر الذي يفقد البيارق تميّزها المطلوب. وبرحلات مكوكية قام بها المتفاوضون بشكل سريّ تماما بعيداً عن عدسات الصحفيين، وبفعل الأفكار الرائعة التي تفتق عنها فكر المفكرين، وتصميم المصممين، تم إقرار البيارق. فاصطبغت الجدران بها، ورفرفت فوق سطوح المنازل المتحركة، وحملها الناس أينما ذهبوا. ورسموها على ملابسهم الخارجية والداخلية! فرحوا بها كما لم يفرحوا من قبل. وشعروا لأول مرة أن لديهم وطناً ينتمون اليه. وأن لهم هوية تميّزهم عن غيرهم. وانتشر المخلصون في كلِّ أرجاء المثلثات وهم يحملون بيارقهم، خطبوا بالجماهير السعيدة، وأُطلقت الأسهم الناريّة. أما تصميم البيارق فقد كان يحمل فكرة عبقرية لم يكن أحد ليتخيَّل مثلها. بيرق يحمل صورة ضبع، اتخذها كبير المثلث الجنوبي، وآخر يحمل صورة نمر، ابتدعه كبير المثلث الشمالي، وآخر يحمل صورة عقرب كان من نصيب كبير المثلث الشرقي، والرابع يحمل صورة حوت، صار شعاراً للمثلث الغربي. أما شكل البيارق فقد كانت جميعها بشكل مثلث متساوي الساقين ، قاعدة المثلث من جهة السارية، لون المثلث أبيض، أما أشكال الحيوانات فقد كانت جميعها باللون الأسود. وهكذا صار الأمر سهلاً للغاية. فبدلا من وصف المناطق بالمثلثات، والتي لم يعد لها وجود، فالمناطق اليوم بعد كل عمليات الكرّ والفرّ، وبعد عمليات الهجوم والانسحاب، وبعد عمليات الأنتصار المتكرر، لم تعد تحتفظ بشكلها المثلث، بل لم يعد لها شكل هندسي، بل لم يعد لها شكل أصلاً. بدلاً من الإشارة الى المناطق بحسب نسبتها الى الجهات الجغرافية كالشرق والغرب، صار الناس يوصفون بالنمور والضباع والحيتان والعقارب. وهي صفات مرتبطة بهم، طالما أنهم يحملون تلك الرموز كبيارق ترفرف فوق رؤوسهم، وقيماً عليا تنبض بها قلوبهم. وشعر الناس بهوياتهم وانتماءاتهم، وفرحوا بها. وازداد اطمئنانهم وشعورهم بالأمن وهم يسيرون في أزقة مناطقهم التي تنهمر عليها الصواريخ ليل نهار، فلا يرون الا رفاقهم وهم يحملون بيارق كبيارقهم!

الهروب
لم يحدث ذلك بيسر وسلام، فقد كان سكان المثلث يحبون كبيرهم الذي يسكن معهم في مثلثهم. يحبونه لأنه يوفر الحماية لهم. يحبونه لأنه هو مركزهم المكاني، وقد صار بحكم الوجود الملموس قطبهم المعنوي. يلجأون إليه في الشدائد، ويشعرون بالراحة وهم يعيشون في كنفه. هو مركز ثابت يدورون حوله. ولولاه لتشتت أمرُهم، وتفرقتْ وحدتهم، ولإنتهكَ كبارُ المثلثات المجاورة بيوتهم. ولكن مهلاً! فتلك الرموز لها دلالات عميقة في الماضي السحيق الذي لم يعدْ أحدٌ يتذكّره، هي مرتبطة بحكايات نُسيت أو كانت على وشك أن تُنسى. من أيقظها؟ وأيُّ غباء ذلك؟ سوف يتمزق المكان، فلن يقبل الجميع بذلك؟ وحيث أن الكبار المتقاتلين اتخذوا شعارات مستمدة من رموز الماضي السحيق، فلم يعد المركز المكاني مركزاً مطمئناً. لم يعد الكبير الذي يسكن حيّنا يحبنا طالما اتخذ رمزا ليس كما تمنى أجدادنا الذين ماتوا! هكذا قال البعض. فقد حصل الاختلاف، وتمزق الوجود. وتهشمت الكينونة بشكل قاس لتتشكل كينونة جديدة على انقاضها. تلت مرحلة اقرار البيارق عمليات نزوح كبيرة، كتل بشرية كبيرة تركت منازلها متجهة الى المثلث الذي اتخذ كبيره الرمز الذي يتوافق مع ذائقة أجدادهمّ! وجب الفصل بين الناس ليكون سكان كل مثلث متشابهين بتفضيلهم للبيرق الذي اتخذه الكبير. لابد لنا أن ننتقل يا أبي! لم يعد بإمكاننا البقاء هنا، قال الشاب لوالده. ولكنك كنت بالأمس تقاتل هنا يا ولدي! الآن اختلفت الأمور يا أبي! نزع الناس من جدران منازلهم صور الكبار الذين طالما أحبّوهم، ونزعوا الخواتم التي كانت تحمل صور الكبير الذي كان كبيرهم بالأمس. المشكلة الكبيرة التي واجهتنا هي كيف نمرُّ من المثلث الذي كان مثلثنا بالأمس الى المثلث الذي سيصير مثلثنا؟ قال الناس. كان علينا أن نعبر مثلثاً آخر معادي، وبهذا فسنكون في خطر ونحن نعبر المثلث الذي كان لنا وصولاً الى المثلث الذي سيصير مثلثنا غداً!ّ أكتشف الناس الذين ينوون الهجرة أن أقصر الطرق هي الانتقال من خلال المركز الخالي، ولكن المركز لم يكن يومأ آمنا. انتقل النمور من مثلثات العقارب والحيتان والضباع متجهين الى مثلث النمور. وهكذا فعلت العائلات الآخرى. حتى أستقر الأمر بأن سكنت العائلات التي تحب رمزاً معيناً في منطقة واحدة. رافقت عمليات النزوح الداخلي تلك عمليات ثأر دموية، فقد قتل الجيران جيرانهم المختلفين عنهم بالرمز. وعانت العوائل أهوالاً رهيبة وهي تتحرك مسرعة تحت جنح الظلام عبر الأزقة التي انتشرت فيها المتاريس ونقاط التفتيش التي أقامها المحاربون بحثاً عن الفارّين من المجموعات الأخرى. وتم خطف العائلات الفارّة، ولم يتم اطلاق سراحها الا بعد سلب كل ما تحمله من نقود ومصوغات وغيرها. وقد تم اغتصاب النساء الفارّات، وقُتل الرجالُ ، ووجدوا فيما بعد في مقابر جماعية. كانت عملية إعادة تشكيل المراكز المتطابقة عملية بشعة مؤلمة. كم هو غريب أن يقاتل الجيران ليلة البارحة أعدائهم كتفاً لكتف، وأن تسيل دماؤهم، وتختلط معاً، وأن يسهرون الليل معا بعيون ساهرة متطلعة نحو الثغور التي من المحتمل أن ينفذ منها الأعداء، وأن تصدح حناجرهم معاً ليلة البارحة وهم يتغنّون معاً بحب كبيرهم الذي يسكن معهم، وتغمر قلوبهم رعشة الولاء للكبير، تلك الرعشة التي يهون معها الموت من أجله بسعادة! كم هو غريب أن يتحوّل أولئك الجيران على حين غفلة الى أعداء يودُّ أحدُهم أن يسفك دم أخيه، ويسعى بعضهم للافلات من أرضه نازحاً الى مثلث الكبير الذي كان يراه بالأمس عدواً، فصار اليوم مقصداً وملجأً!
في الساعة الخامسة مساءً، فتح عينيه، وهمَّ بالجلوس. وضعا وسادة تحت رأسه تمكّنه من النظر الى الشابين بصورة مباشرة. شعر الرجل بالارتياح، لأنه قال ما كان يريد قوله لأنه وحده الذي رأى كل شيء! أما عماد فقد سارع بإرسال المقاطع التي سجّلها بهاتفه في الحال كما فعل في المرتين السابقتين. وتنفس الصعداء.

للحكاية تتمة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكايتي على العربية | ألمانية تعزف العود وتغني لأم كلثوم وفير


.. نشرة الرابعة | ترقب لتشكيل الحكومة في الكويت.. وفنان العرب ي




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيب: أول قصيدة غنتها أم كل


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أول من أطلق إسم سوما




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أغنية ياليلة العيد ال