الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كنتُ أضرب الطين

محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)

2020 / 12 / 28
سيرة ذاتية


كان هرمس الهرامسة يضرب بالرمل، أي يخطُّ فيهِ، فيدركُ بذلك ما أسدل عنه الستار لنا نحن معشر المحجوبين. وضربَ في الرمل من بعد هرمس آلافٌ من الرجال، لم يوافقْ خطُّ أكثرِهم في ذلك خطَّ هرمس فوقعوا في المحظور وأوقعوا معهم آلافاً -غير مؤلفة- من تابعيهم في الطين. وطينٌ كهذا يلتصق بك ولا يسعك أن تخرج منه طاهراً بسهولة، إلا إذا كنتَ زهرة لوتس، وأنا لم أكن زهرة لوتس بالتأكيد، وما كانت "لاكشمي" لتقبل أن أكون أريكتها أو حتى وسادةً لقدميها، وما كان ذِكري ليرتفع في "كتاب الموتى"، وما كان "بتاح" و"سمخت" ليقبلا بي ابناً مثل "نفرتيم" الجميل.

وقعتُ في الطين فالتصق بي طويلاً، وقعتُ فيه حين سمحتُ لنفسي أن أتحدث في كل شيء، لا لشيء، سوى حب إظهار هذه الأنا المزعجة، التي حجبتني أنا شخصياً عن نفسي، لا لشيء سوى خوفي من الفراغ. كتبتُ بغضب، وكتبتُ باندفاع، فتراكَمَت على روحي طبقاتٌ من الطين. ولك أن تتخيل صنفَ هذا الطين. طينٌ يليق بشخصٍ كثُرَ كلامُه فزاد لغطُه، شخص تمادى فأخذ يبرِّرُ بقلمه المغمور لطغاةٍ وسفّاحينَ ووقف يدافع عن القاتل في مناسبات متعددة بكل وقاحة، وفي وجه المقتول وأهل المقتول، لأن القاتل بدا لهذا الكاتب المأزوم أكثر إنسانيةً من المقتول.

بدأ مشواري مع الطين وأنا غرٌّ ابنُ عشرين سنة. اندفعت للكتابة والنشر بجرأةٍ غريبة، دون وعيٍ لحقيقة أن هذا سوف يراكم طبقاتٍ من الطين الرقمي الذي قد لا أستطيع محوه في المستقبل فيبقى شاهداً على سذاجتي ووقاحتي في زمنِ كتابةِ كل طبقةٍ من هذا الطين، وحتى بعد موتي، فالطينُ سيرحل قريباً، وما تراه بعيدا هو فعلياً قريب وكأنه حدث وانتهى، هذا العجيب في الزمن. فما بعد ألف لحظةٍ من الآن قريب جداً لمن يشاهد العالم على سرعة x1000 لدرجة أنه يكاد يحدث بل كأنه حدث.

إذا كان دافعي الأساسي للكتابة في ذلك الزمن وإلى أن توقفتُ عن الكتابة هو الرغبة في الظهور، فثمة جانبٌ ثانوي أيضاً وهو التعبيرُ عن نفسي، وقولُ ما لا يمكنني فعله لانعدام حيلتي أو قوتي. وبهذا فإن دافعي للكتابة لا ينفصل عن دافعي الشخصي العميق كإنسان سواء كنت كاتباً أم لا. فإذا عرفتُ دافعي كإنسان لا ككاتبٍ فقط سهُل عليَّ معرفة ما أوصلني حقيقةً إلى ورطة الطين.

وهذه هي المشكلة!

إن دافعي الأساسي Core Drive غامض بالنسبة لي. ولعل هذا الدافعَ الأصيلَ غامضٌ للبشر بشكل عام، فنحن مشوّشون ودافعنا متقلب وغير واضح ويكاد يكون غير موجود، وبخلاف الذكاء الاصطناعي الواعي (نظرياً).

في مسلسل ويست وورلد وتحديدا في الحلقة الأخيرة من الموسم الثاني، يتضح أن النسخ الرقمية عن البشر لم تنجح ليس لأن البشر معقّدون بل لأن النسخ كانت أعقد من البشر. هذا الكلام أوحى إلي في لحظتها أنهم يريدون أن يؤيدوا فكرة أن أي إنسان سيأتي عليه وقت في حياته يدرك فيه دافعه الرئيسي Core Drive كونه بسيط، وكما تستطيع الآلات الواعية معرفة دافعها أو وظيفتها الرئيسية، ولكن كتاب المسلسل كانوا أذكى وأعمق من ذلك. فرغم بدائية الإنسان، إلا أنه استعصى على وغد عميق مثل ويليام أن يدرك دافعه الأساسي حتى طوال الموسم الثالث، ولا حتى نحن أدركنا دافعه أو دافعنا، إن كان ثمة دافع. فالأقرب هو أن هناك وظيفةً موكلة إلى كل منا من أن هناك دافعاً حقيقياً. وقد تكون الوظيفة نفسها معقدة، فيكون الدافع بهذه الطريقة ألغوريثماً متعددَ الخطوات كل هدفه تحقيقُ هذه الوظيفة.

ولا أظن أن كتاباتي المغمورة هي وظيفتي في العالم، بل كانت خطواتٍ على طريق شيءٍ آخر، ربما يكون بناء حجر واحد في منشأة ما، في صرحٍ ما، لن أدركه ولن أسكنه ولن أعلم أنني وضعتُ فيه حجراً. فقد أؤدي وظيفتي والغرض مني وأرحل كأي طين، وبما حملتُ من طين، دون أن أعرف أنني حققت وظيفتي ولم أعد ضرورياً. لو كنتُ آلةً لعرفتُ ذلك، لأدركتُ لحظةَ تمامِ وظيفتي، كما أدرك ذلك "ستابز" رجل الأمن في المنتزه، حين أدى غرضه بحماية المضيفين داخل المنتزه وتبقى عليه أن يقضي على نفسه. نحنُ البشر في غنىً عن البحث عن مركز المتاهة، فنحن لسنا آليين، ولك أن تتحلى بشيء من الوجودية (سواء كنت متفائلا أو متشائماً) فترى أن وجودك في حد ذاته غاية، وبالتالي فالوظيفة والدافع الأساسي، وصاحب الإرادة الحقيقي في ذلك، كل هذا لا يعود التفكير فيه مجدياً أو ضرورياً.

ولكنني كتبت، وما كتبتُه يذكّرني كلما قرأته أنني في لحظةٍ ما كنت مغفلاً، مهتماً بالسياسة، أدافع عن الحكام، أشارك في الظلم بقلمي، أهرف بما لا أعرف. كم كنتُ مستفزاً وكم كنتُ جديراً بالكره حين أسهبتُ مثلاً في الحكم على المجتمعات العربية وثوراتها وتوجهاتها. كان ذلك عفناً كتابياً يضاهي أي عفنٍ كان يغضبني ويدفعني لكتابة ما كتبت.

ولكن في خضم ذلك، لا أنكر أنه كان ثمة دافعٌ ما (لعله ليس دافعي الأساسي). لقد كنتُ أريد أن أكون إنساناً وأدافع عن الإنسانية والجمال واللاعنف، وبالتأكيد فعلت في مراتٍ كثيرة مثل الفتى الغضوب الذي أراد نصرة المظلومين فنصر الظالمين، وأصبح أضحوكة.

لقد أعجبني لحنٌ جميل، هو لحن الحرية والتعايش والسلام والرفق، ولكنني حين أردت إعادة عزف اللحن، لم أضرب وتراً ولا سحبتُ قوساً ولا نقرتُ طبلاً، بل ضربتُ بالطين!


قال إيليا أبو ماضي: نسي الطين ساعةً أنه طينٌ حقيرٌ فصال تيهاً وعربد

وقد عاش الطين حتى تذكّر ما نسيه... وحين تذكّر أصابه التعب...

"تعب الطين" كما قال مظفر النواب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يتصرف الألمان عندما يمرضون؟ | يوروماكس


.. لمى الدوري: -العراق يذخر بالمواقع الأثرية، وما تم اكتشافه حت




.. الهدنة في غزة على نار حامية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مسلسل المانغا - بون- : وحدة تسافر عبر الزمن وتحي الموتى




.. -طبيب العطور- بدبي.. رجل يُعيد رائحة الأحبة الغائبين في قارو