الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما وراء الشمس … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 12 / 28
الادب والفن


وجوه متربة .. لاطفال متسخين شبه عراة ، يتسكع الذباب حولهم ، ثم يستقر مستكينا على وجوههم ، فيعبث بها .. يغريه القذى اللين ، والمتصلب في اطراف عيونهم الطفولية البريئة … بيت قديم هش ، ورطب … تُقبل الام ، وهي تحمل فتات طعام بارد قد ادخرته من الليلة الفائتة يبدو من منظره ، وكأنها تسولته … شكلها يبدو متعبا لدرجة تثير الشفقة ، وتبدو اكبر من سنها بدهور .. يتحلق الاطفال حولها كعصافير الصباح ، وهم يتقافزون في فرح صاخب .. يفترشون جميعا الارض العارية .. يتسابقون في اختطاف ما يستطيعون من قطع الخبز اليابس ، والجبن ، والطماطة ، وبعض الخضار .. يمضغون بعجالة … لا تتوقف ايديهم عن الحركة … حتى أنهوا كل ما جاءت به الام من طعام … !
ينسحبون ببطء متذمرين من عدم الشبع … ! على وجه الام ابتسامة وديعة حزينة .. تتجمع في عينيها الدموع ، وهي ترى اطفالها يمضغون الطعام بتلذذ ، ولهفة لا تتناسب مع نوعه البسيط .. غائبين عما حولهم ، دون ان يتركوا لها شيئاً ، وكأنها غير موجودة .. لكنها سعيدة لانها استطاعت ان تُسكت ولو بشكل مؤقت .. ضجيج ، وصراخ امعائهم الخاوية .. متظاهرةً بالمرح لتُبعد عن اذهانهم الخوف والقلق ، ومحاولةً ان ترسم على شفتيها ابتسامة اطمئنان ، وسلام طبيعية …
فهم ضحايا ولا ذنب لهم .. !
تدعوهم للنوم لتنفرد بهمومها الكثيرة .. لتفكر بما يمكن ان تفعله في الغد .. يتنازع قلبها المتعب اكثر من رأي ، واكثر من حل ، فالحياة اصبحت غاية في الصعوبة في ظل الحصار المميت ، وغياب المعيل ، والحامي في المعتقل بتهمة ملفقة لا ذنب له فيها .. تركهم لا حول لهم ولا قوة … تجنبهم الجميع كأنهم وباء … حتى الاهل ، والاقارب كانوا يرسلون لهم المساعدات سرا ، خوفا من اسقاط التهمة المرعبة عليهم … !
فالامن وازلامه لا يرحمون مع من تهمته سياسية ، وزوجها غيبوه وراء الشمس .. كما كل السجناء السياسيين … هكذا كانت تسمع ما كان يردده الناس سرا ، وخوفا … ولم تكن تفهم معنى ما وراء الشمس هذه … كانت تعيش على امل ان يعود يوما ، لانها كانت تعتقد بان التهمة كيدية ملفقة ، وزوجها رجل برئ طيب القلب ، لا يؤذي حتى نملة … ! هكذا نامت متقلبةً على جذوة امل قد يأتي ، وقد لا يأتي ، ولكنه على اية حال شئ افضل من لا شئ ! في استقبالها ايام انتظار باردة موحشة قاسية ، وطويلة ! ولا تعرف ماذا يخبئ لها القدر !
لا تزال تذكر جيدا تلك الليلة الملعونة التي جاءوا فيها لاعتقال زوجها ، ويالها من ليلة ليلاء ، لن تنساها مهما امتد بها العمر … ! ستبقى موشومةً في الذاكرة لن تغادرها … يمكنها ان تستعيد تلك اللحظة باكملها دون ان تنسى من تفاصيلها المزعجة شئ … اقتحموا البيت فجرا كنُذر القضاء ، والقدر بعد ان طوقوا البيت من كل الجهات … هشّموا الباب المتهالك ببساطة .. مدججون بالسلاح .. وجوه صلبة ، وعيون ميتة لرجال اقرب الى الوحوش منهم الى البشر … استيقظ الجميع مفزوعين لهول المفاجأة .. سارعت الى اطفالها ، واحتوتهم ، فانكمش الاطفال في احضانها يرتعدون .. وقف زوجها المسكين متصلبا عاجزا مستسلما .. قلبوا البيت راسا على عقب ، ودمروا كل شئ في طريقهم ، ثم اخذوا ما وجدوه من كتب ، وصحف ، واوراق .. جثت على الارض تبكي ، وتتوسل .. لم يبالي بها احد ، ولم يكترث لصراخها اي منهم .. أُناس بلا مشاعر ، ولا احاسيس ، وكأنهم قد قدوا من حجر .. !
حدجها الرفيق الممتلئ صحة ، وعافية ، ويبدو انه رئيسهم بنظرة الزمتها مكانها من الخوف ، ثم وضع كل هيبته ، وجبروته في صوته ، وصرخ بها من بين اسنانه متبرما ، ونظرة الازدراء الباردة تطل واضحةً من عينيه … طالبا منها الصمت والابتعاد … حجزوها ، والاطفال في غرفة .. لا يسمع فيها الا لهاث الانفاس المكبوته المرعوبة … ثم اقتادوا زوجها مكبلاً مقوس الظهر ذليلا ، وغادروا تصحبهم اللعنات … !
ردد الافق البعيد صدى صرختها اليائسة المستغيثة …
صمتٌ خانق موحش يغلف المكان … اخفت وجهها ، وبكت في صمت … إستعادت منظر زوجها الشاحب المصدوم ، وعيونه المليئة بالرعب ، ثم اجهشت بالبكاء … وجدت نفسها وحيدة مع اطفال اربعة ، اكبرهم في السابعة … لا تدري ماذا تفعل ، والى من تذهب ، وهي التي لم تخرج من البيت الا ما ندر !
لقد اقتطعوا منها شيئاً لا يمكن تعويضه ، وجرحوا قلبها ، وسلبوا منها رجلها ، ومعيلها ، وابو اطفالها … وهل يعود اي شئ يذهب في تلك الايام الحالكة السواد ؟ سمعت من بعيد عواء كلاب الطرق الهائمة … كأنها تبكيها ، وترثيها … تشعر بالغربة ، والوحشة الخانقة ، والضياع … تُمسك انفاسها ، وتتكور على نفسها ململمةً اطفالها حولها .. محاولةً تبديد الخوف من قلوبهم النقية …
تمر الايام ثقيلة باردة ، وتتبعها الشهور ، والسنون ، وهي تذوي ، وتذبل كشمعة تحتضر ، ولم يرجع الغائب … عندها فهمتْ معنى ما وراء الشمس : انه طريق واحد … ذهاب بدون عودة … هجم عليها البكاء فجأةً ، فأذعنت له طائعةً !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا