الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الميديا وورقة التوت والمثقف البائس

ياسين سليماني

2020 / 12 / 29
الادب والفن


قد تكون بعض أحداث أسبوع واحد كافية لتصم الثقافة الجزائرية ونظيرتها العربية بما يكفي من أوصاف الفوضى و(الفكر الأعمى الذي يفضي إلى تشويه وجه العالم) كما يحب إدغار موران أن يعبّر في كتابه الصغير الثريّ (الفكر والمستقبل: مدخل إلى الفكر المركب)، الأسبوع الواحد كفيل بأن يلخّص ليل العبث الطويل الذي رهن الثقافة والمعرفة والفن والإبداع في صور سطحية بائسة قد يكون الفضاء الميديائي البنزينَ الذي سارع بإشعالها. هذا الفضاء الذي مثّل "لحظة للاغتسال الثقافي بما أن كل شيء يصبح مكشوفا ومتحررا من كل أنواع الرقابة حتى الذاتي منها. إنّ هذا الفضاء يسلخ الأوساخ ويعيد الماء إلى الجسد نظيفا حينا ومحمّلا بأوساخ اللسان واللغة والثقافة أحيانا أكثر ولا حصانة لأحد ولا طبقة لأحد ولا حيلة لأحد مهما توسل من وسائل قطع اللسان" على ما يذكر الغذامي في "ثقافة التويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير". هل يمكن أن نعتبر الأحداث التي سنذكرها بعد قليلا أوساخا في جسد الثقافة؟ إنّ غيّرنا اللفظ قليلا فلن نحيد عن القول بأنّ ما يحدث إقرار واضح بالمعضلة الثقافية التي يعاني منها المثقف ذاته. المثقف أصبح عالة على الثقافة، هو (الصابو) الذي يجعل الثقافة مسمّرة في شارع الأحداث بدل أن يكون (البنزين) الذي يقودها إلى الأمام، إنه المثال الأنصع لـ"طواويس العفن" كما تشي إحدى قصص المصري مكاوي سعيد.
• الروائي والناقد الذي لا يقرأ والباحثة:
لخّصت الباحثة الرصينة آمنة بلعلى "الهوجة" بعبارة غاضبة صدقت فيها ولا يمكن لغيرها إلاّ أن يقف معها فيها " لستُ ملكا مشاعا حتى يشار إلي بالنقد، وليس هناك من النقاد من كتب عن الرواية قبلي، ومن العلمية الإشارة إلى المقال أو إلى صاحبته" كان الحبيب مونسي قد كتب مقاله عن رواية للحبيب السايح تخفف فيها من كل شروط الرصانة العلمية ولم يجد حرجا في أن يعتمد بشكل شبه كلّي على مقال الباحثة دون أن يشير إلى اسمها، وإنما عوضه بلفظة "النقد" كل ما فعله الرجل أنه قام بعملية تدوير واسعة لدراستها ببعض التلخيصات والشروحات ودفع بالمقال للصحيفة فنشرته. الباحث والأستاذ الجامعي الذي يقفز على أبسط شروط العلمية ويجعل نفسه في حلٍّ من كلّ أطرها يصعب أن نصدق أنه يخرّج لنا طلبة وباحثين في جامعته يحترمون هذه الشروط ولا يكونون مثل أستاذهم. النشلُ مصيبة من المصائب الكبيرة التي أنهكت جسد الثقافة المريض وجسد النقدي الجزائري أصلا. أليس النقد عندنا مرهونا بمستويات المرض الثقافي عند هذا الناقد أو ذاك اشتدّ هنا أو خفّت ملامح هناك؟ هل نزيد أنّ الإيديولوجيا هي الفيصلُ والح رّك في الاختيار عند مونسي لا وجه البحث نفسه؟ (وعند الكثير من زملاء الرجل حتى لا نفتري على الواقع) هذا إذا لم ننسق إلى رأي السايح الذي أكّد أنه لم يقرأ الرواية موضوع الدراسة أصلا !! لعلّ العودة إلى ما كتبه علي حرب في "تواطؤ الأضداد" يسعف في توصيف هذه الحالة العبثية: "هذا ما يفعله الذين تركبهم العقد وتتحكم في ضمائرهم مركبات النقص لعلّة في النفس إمّا لأنهم يعجزون عن الابتكار أو لأنهم لم يجدوا دورا يلعبونه أو لأنهم يعتقدون أن نجاح غيرهم يتم على حسابهم". المثقف الجزائري وصنوه العربيّ بدل أن يقارب المعضلات ويحاول المساهمة في حلّها يتحوّل هو نفسه إلى معضلة. وقد يتحول هذا المثقف في مرات ليست بقليلة إلى مرض عضال. وليس بعد المرض العضال إلاّ الموت.
• أرانب شعرية:
احتفى بعض أصدقاء الشاعرة نادية نواصر (أو الدكتورة الشاعرة كما يحبّ البعض تسميتها ونظنّها هي ذاتها من هؤلاء) بإعلان إصدارها عشرة كتب دفعة واحدة !! تسعة منها دواوين شعر وسارع البعض في تشبيه هذا الزخم بكتابات غادة السمان وكوليت خوري وسارع غير هذا البعض في التنبؤ لهذه المجاميع (أو المجموعات) بالنجاح الكبير !!، ليس في أغلفة هذه الكتب ما ينبئ عن أنها طبعة جديدة لكتب سابقة صدرت تباعا، إنها مجموعة تصدر دفعة واحدة. هل جرّبت مرة أن ذهبت إلى مطعم وطلبت عشرة أطباق للصنف نفسه؟ مطعم نادية نواصر يقدم لك هذه الخدمة، والتخمة دون شك أكيدة ومضمونة.
قد يسارع البعض بالقول إن كان هذا المقال قد كُتب بعد قراءة الكتب العشرة أم تسرّع في الحكم كما تسرّع مونسي في الكتابة عن "أنا وحاييم" دون قراءتها، ما يعني أنّ المقالَ يدعو لشيء ويخالفه في الوقت ذاته، وهو عين التناقض. غير أننا ندخل إلى الموضوع من مدخل ثقافي يتضمن وعيا بعقلية القارئ ونزوعه نحو هذه الكتابات أو ازوراره عنها. نادية نواصل تغتال تجربتها الإبداعية بهذا الفعل غير الثقافي بالمرة. التسويق للشعري يرفض مثل هذا التعجل في تقديم هذا الزخم بدل التقسيط المريح في تقديمه للناس. الشعر الجميل لا يحتاج إلى تسع دواوين أو عشر. التكثيف في ديوان واحد أو حتى قصيدة واحدة يمكن أن يغني عن تحبير الأوراق الكثيرة. و(قد) يجد الناقد المتمرّس أنّ نواصر لم تقدّم في كل هذا غير قصيدة أو شبه قصيدة نسختها في الديوان ذاته مرات، وفي الدواوين الأخرى مرات. انتبه مثلا إلى عتبة العنوان. ستجد أن التركيب واحد في الغالب: كلمتان، اسمان مضاف ومضاف إليه: جرأةُ الياسمين، معابر اليقين، مواثيق العشق، هذيان النار، بلاغة الريح. تختلف الألفاظ لكن البنية اللغوية والأسلوبية هي ذاتها. مما يعني أنّ عنونة الدواوين كانت متقاربة زمنيا لم تستغرق جهدا،ولم تحتكم إلى وعي بالتجارب ووجوب اختلاف الواحدة عن الأخرى والولادات كانت سريعة وقد تكون قيصرية. الأرانب التي تنزل من بطون أمهاتها دفعة واحدة لا يسمح لها الزمن بامتلاك شخصيتها الخاصة، إنها تُظلم بأن تكون متشابهة. والديوان الواحد يعوّض التسعة. نواصر بهذه الطريقة تظلم تجربتها. إنها تحاول توفير تراكم كمي لتجربتها بدل الاشتغال على مراجعة القصيدة الواحدة سواء شكّلت في النهاية ديوانا واحدا أو ربع ديوان !! في الزمن الذي يدعو فيه العقلاء إلى تحديد النسل البيولوجي كان على المخلصين المقربين من الشاعرة من باب أولى أن ينصحوها بتحديد نسلها الشعري حتى يتربى كل ديوان في عزّها بدل أن يكون قليل أدب !!
• النرجسي: لحم كتافكم من خيري
أمراض المثقفين تتشابه في الكليات وإن اختلفت في التفاصيل، في الجزائر المنكوبة بمبدعيها كما في غيرها. وفي مصر مثلا يصنع الحدثَ محمد صبحي الممثل الذي لم يعد يضحك أحدا منذ طلاقه البائن مع لينين الرملي، ليس بعمل إبداعي يعيد له بعضا من مجده الذي أجاد تهديمه بسلسلة أعمال باهتة متتالية ولكن كان الرجلُ حديث الميديا عندما دعا زملاءه في مسيرة التمثيل في احتفالية كان أكثر ما فيها إثارة للدهشة أنه قام بتكريمهم بتماثيل رأسية له وتحدث للإعلام بافتخار أنّ له قصب السبق في هذا. محمد صبحي يكرم الفنانين برأس محمد صبحي. اعتبر الكثيرون هذا ونحن منهم نرجسية متعاظمة منه. حاول أن تشاهد لصبحي الحوارات التي يجريها في التلفزيون ستجد تمركزا شديدا على الذات. بين كل "أنا" وأنا" ستجد "أنا" تتردد. هل هذا وعي بقيمة الذات؟ يمكن الإجابة عن هذا بالنفي القطعي بمشاهدة واحدة من أعماله الأخيرة: "أنا والنحلة الدبور" المسرحية التي يتعالى فيه صوت التلقين والمباشرة ويخفت فيها صوت الفن والإبداع ويظهر فيها التفكك والهزال ويتراجع فيها النسيج المحكم الذي كنا نراه في "سكة السلامة" و"تخاريف" و"وجهة نظر". خفت صوت صبحي الفنان صاحب الصناعة أو الصنعة الفنية وانطلق صوت بشع زاعق، صوت السياسي والإيديولوجي وشيخ الجامع ومدرّس الابتدائي الذي يحمل العصا التي يخيف بها غيره. لا ننسى طريقته السوقية في حواره مع مذيعة البي بي سي التي أظهرت إفلاسه الفني الذي عوّضه بالجعجة ولم يتعلم من نصف القرن الذي يفاخر به زملاءه بتمثال رأسه أن الفنان يسمع أكثر مما يتكلم، ويجيب بأدب و رُقيّ حتى وإن أرغى غيره وأزبد ويردّ على السؤال بجواب لا بصياح وتهديد بترك البرنامج غاضبا !! صبحي لم يدعُ الفنانين لشكرهم على ما قدموه لتجربته بل دعاهم ليقول أنه المركز وهم الهوامش. هو الشمس الذي تدور حولها الكواكب المنطفئة الذاوية لولا جلال وجهه وعظيم سلطانه !! (ربما يدلّ على هذا أن نجوما من الصف الأول اعتذروا عن الحضور) إنه نوع من العنف الرمزي أيضا، التعالي والنرجسية مرض خبيث يفتك بالمبدع ويعميه عن رؤيته أخطاءه.
• مناضل الكابتشينو
التعدّي على أعمال الغير بالسطو على أفكارهم وتحييد أسمائهم وإلغائها،شراهة الظهور والتناسل غير المحسوب ولا المتوازن، النرجسية والتمركز حول الذات، كلها أمراض تعبث بهذا الجسد الثقافي المهترئ أصلا وفصلا. إنها كالثؤلول، تركه يوجع ويسيء للعين، وانتزاعه مؤلم ولكنه ضروري وأساسي ولدى القصّاص الجميل "مكاوي سعيد" الذي ذكرناه في أعلى المقال قصة أخرى على قدر من النباهة المتوقدة والجمالية الأخاذة عنوانها "مناضل الكابتشينو". عندما نطالع أمراض المثقفين الجزائريين والعرب علينا أن نقرأ معها هذه القصة فهي كالأسبرينة، تساعد في تخفيف وجع الرأس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا