الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إمرأة بمئة رجل … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 12 / 30
الادب والفن


ام علي … أرملة اخذ الموت منها زوجها مبكرا بعد ان تركها تتجرع حياةً باردة صعبة ، وترك لها داراً تؤويها مع اولادهم الثلاثة من الذكور .. اكبرهم علي .. طالب في الاعدادية ، وواحد في الابتدائية ، وآخر في المتوسطة .. لم يكن عندها مصدر رزق ثابت .. نزعت نفسها من دفء البيت ، وشدت الحزام ، وشمرت عن الساعد ، وذهبت الى السوق بمجرد انتهاء العزاء ..
ليس لها خبرة محددة او مهارة معينة تركن اليها في تحصيل رزقها ، ورزق اطفالها ، فلم تجد امامها الا الرقي ، والخضار وسيلةً لذلك .. فاستفادت من مبلغ متواضع تركه لها زوجها ، فاشترت بضاعتها ، وبسطت بها الارض ، وكانت البداية …
اصرت على اولادها ان يثابروا على مدارسهم ، وان يجتهدوا فيها ، ويتركوا الباقي على الله ثم على هذه البسطة التي تتمنى ان يجعلها الله مصدر رزق ، وخير .. اخذت تعلمهم كيف يعتمدون على انفسهم في كل شئ بدءً من اعداد الطعام الى التنظيف ، وغيرها من الامور التي يحتاجونها في المنزل ..
كانت في طبيعتها تحمل طيبة فطرية جنوبية اشتهرت بها ، فاحبها الناس ، وبقية شركائها من باعة الارصفة …
كانت شمس العصر قد هدأت حدتها ، والريح قد بردت عندما عادت أم علي الى المنزل كعادتها كل يوم ، متعبة لا تكاد تحمل اثقال جسدها .. تمددت على الحصيرة ، وهي تئن مجهدةً لتاخذ قسطاً من الراحة قبل ان تقوم لاعداد العشاء ..
سمعت ولدها ماهر يهرف ، ويهلوس .. قفزت من مكانها ملسوعةً .. تلمست جبهته ، وكأنها قد وضعت يدها على جمر .. وجهه ساخن .. تجتاح الرعدة جسده الهزيل ، فمه جاف ، ووجهه ممتقع .. اسرعت بمنشفة ، وبللتها ، ثم وضعتها على جبينه ..
كان الليل الطويل في انتظارها .. سهرته ، وهي تغير القطع المبللة فوق جبينه باستمرار .. باذلةً اقصى ما تستطيع ، حتى لا يتغلب عليها التعب ، والنعاس قبل ان تطمئن على ولدها …
لكن الصبح يأتي دائماً .. سارعت مع ابنها علي لاخذه الى المستشفى .. اوصى الطبيب بدخول ماهر المستشفى ليكون تحت المراقبة الطبية لاربع وعشرين ساعة .. راعها الامر ، لكن الطبيب طمأنها بانها اجراءات احترازية لا اكثر .. ايام قليلة ، ويخرج .. سيتوزع اهتمام الام من الان على البيت ، والسوق ، والمستشفى الى حين خروج ماهر بالسلامة ، لم تذهب الى السوق .. عادت الى البيت لتنال قسطا من الراحة ، ولتعد الطعام للاخوة الباقين .. بعد ان اكدت على علي بأن يسرع الى مدرسته ..
كان علي رغم تفوقه في المدرسة .. الشاة الضالة التي لاتنتهي مشاكلها … وصلها اكثر من خبر من اصدقاء ، ومقربين يحذرونها مما يقوم به علي ، وبعض من زملاءه من نشاط سياسي خطير ، قد يلقي بهم في السجن او ربما الى شئ آخر اسوء .. فاكلها الخوف ، والقلق ، والتوتر ، ونزع الطمأنينة من قلبها ، واثر على حياتها ، وعملها ، فاخذت تترك البسطة مبكرا حتى يتسنى لها مراقبة ابنها علي .
انفردت به اكثر من مرة ، وتوسلت اليه ان يترك هذه الامور لاهلها ، ويلتفت الى دراسته ، فهي امرأة وحيدة ، وضعيفة ، وليس بمقدورها ان تفعل شيئاً اذا حصل له مكروه لا سمح الله .. طمئنها ، ووعدها بانه سيفعل كل ما تريد ، وقبل يدها ، ورأسها … بقيت تنازعها نفسها بين الشك ، واليقين .. نصف عقلها يصدقه ، والنصف الاخر يرفض ذلك !
وفي يوم جاءها ماهر جريا ، وهو يلهث ، وقال لها بكلمات متدفقة دون ان يلتقط انفاسه ، بان رجالا من الامن قد اعتقلوا علي .. ارتعد قلبها .. لم تعد ترى شيئاً امامها ، فكل شئ بدى مظلما ، ثقيلا ، وبلا نهاية .. تركت البسطة ، وجرت كالمجنونة .. سقط بيدها ، ولم تدري ماذا تفعل .. لقد اختفى علي ، والاوان قد فات .. بحثت عن صوتها ، قبل ان تصيح بصوت مجروح ، يا ولدي .. التف حولها بقية ابنائها .. اين تذهب ، والى من تلجأ ، فهي لا تعرف احدا يمكن ان يساعدها في هذا البلاء !
اسرعت الى مركز الشرطة فاخبرها الضابط بان هذا الامر ليس بيدهم ، ونصحها بأن تذهب الى بيتها ، وتنتظر .. ربما سيرئفون بحالهم لصغر سنهم ، ويطلقون سراحهم …
انتظرت يوما ، فشهرا ، وعلي لا يُعرف له مكان .. واصلت التطواف المجنون في كل ارجاء المدينة تبكي امام هذا ، وتتوسل بذاك ، ولم تترك مكاناً او وسيلةً ، الا ولجأت اليها ، لتخليص ولدها مما هو فيه .. حتى رشوة دفعت ، ولم تتلقى سوى وعود مؤجلة ..
استنفذ التعب ، والقلق كل طاقتها ، وفي كل يوم كان الزمن يسرق جزءً مهماً من عمرها …هجرها النوم الذي كانت بامس الحاجة اليه ، لمواصلة عملها الشاق ، حتى بدت اكبر من سنها بكثير ، وشاخت قبل اوانها ، وبدأت الامراض تهاجمها دون رحمة .. لم يتوقف تفكيرها في ولدها علي لحظة .. تأبى رائحته ان تغادر البيت منذ ان غادره ، وهي كل ما تبقى لها من ولدها علي .. كانت تعيش املاً ان يخرج يوما ، وتكحل عينيها برؤيته لترتاح .. قبل الرحيل !
كيف مر الزمن … ؟ وكيف مرت السنوات سريعا ، كم اصبحت عجوزا ، وظهرت عليها علامات الزمن واضحةً ، وكأن سنوات عمرها قد تضاعفت فجأة ، وكم اصبح من المستحيل تعويض اي شئ .. تخرج ماهر من الكلية مهندسا بتفوق ، واخر العنقود فارس في الاعدادية ، ودرجاته تبشر بخير ، وعلي تضاربت الانباء حول مصيره .. البعض يقول انه سجين في احد المعتقلات السرية ، او ربما اعدم .. لا احد يدري .. !
ترفض ان تترك عملها رغم ما بدا عليها من علامات الذبول ، ووهن النهاية ، والحاح ماهر ، وطلبه منها اكثر من مرة ان ترتاح .. فقد ادت الامانة ، واكثر … !
انزوت في ركن من البسطة ككل يوم ، لتاخذ قيلولة ما بعد الظهر ، والجو حار لاهب ، فكانت غفوة … النهاية !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل الامتحانات.. خلاصة مادة اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية


.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي




.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال


.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما




.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم