الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نقدية في المجموعة القصصية سيلان من شقوق لعبد الرحيم الرزقي

عبد الرحيم الرزقي

2021 / 1 / 4
الادب والفن


قراءة نقدية في المجموعة سيلان من شقوق
للقاص المغربي عبد الرحمان الزرقي
عرفت القصة القصيرة بالمغرب في الآونة الأخيرة منعطفات جادة، فرضتها التغيرات التي يعرفها المشهد الثقافي، ولقد تعززت الساحة الإبداعية بالمغرب، بمجموعة قصصية جديدة تحت عنوان: "سيلان من شقوق"" لعبد الرحيم الرزقي، عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش 2006. تضم أقاصيص تربو على 37، تصل صفحاتها إلى 168 صفحة من الحجم المتوسط.والتي بصمها الدكتور الناقد عبد الجليل بن محمد الأزدي بقوله" نقرأ هنا شيئا من أحسن القصص المفعمة بكؤوس المرارة، لكنها شامخة مثل صومعة الكتبية. يغسل عبد الرحيم الرزقي وجه الموت بماء الحياة، فيتدفق السرد الأقصوصي مشعا كماء صهريج المنارة، يتهجى لغة الآتي في مسالك القيامات، ويعيد ترتيب ألوان الطيف قليلا كي تستفيق مراكش من عذاب العار (....) الغلاف الأخير من المجموعة القصصية.

و أول ما يلفت نظرنا ونحن نقل قطار هذا العمل، هو لوحة الغلاف الموقعة باسم التشكيلي محمد نجاحي الذي ينقل عوالم الذات في لوحات ناطقة. حيث يضم الغلاف نافذة وسط جدار أرجواني كما لون الحمراء؛ آيل للسقوط. والذي بدت تقع بعض أثوابه بفعل عوامل الطبيعة التي أكلت معالم جماله ولم يبق تقريبا غير الأطلال، و كأنه طرح للزمن الكوني الذي يعزف إيقاعاته من خلال أحد المشاهد التي التقطتها ريشة هذا الفنان المتميز. ليحيلنا التصدع الذي يتخللها إلى العنوان الذي يعتبر مرآة داخلية، يتدلى ضوئها من خلال السقف السيكولوجي و الثقافي و أيضا الأيديولوجي. نحو إيحاءات تسقطنا في بئر المعاناة، وكأني بالقاص يجر نفسه المثقلة بالهموم من بين هذه الشقوق؛ ليعلن عن تواجده واستمراريته، ويُسْمِعَ صراخه الخفي/الظاهر من خلال الحروف، التي هي بمثابة نوارس تخييلية تنشر دلالاتها في لحظة انفجار الحكي، فهل هذه اللوحة هي جسد القاص المليء بالجراحات والخراب الداخلي؟، أم هي ترجمة لأزمنة ذات نزعة ذاتية لا تستكين في الحاضر المسكون بالخيبة و اليأس والانهيار، بل تتجاوزه إلى زمن يستشرف المستقبل حيث تضاريس الحلم، والذي سنحاول تصيده من خلال مطاردته في أرض عبد الرحيم الرزقي.

وهل ذلك السيلان هو ما أنبت روح القاص من تحت الأنقاض كما طائر الفينيق؟.

فنطازيا الحلم المسلوب:

يفتح هذا القاص المشاغب عوالمه أمام القارىء في حانة السرد ، واقفا فوق أرض إبداعية تحرث عتبات تفتح نوافذها للواعج الحكي، وتنوع الشخوص التي تمتطي متن الأزمنة المختلفة. حيث يرتدي الحلم في المجموعة القصصية، شرانق مزخرفة بأسئلة تحاول خلق تصالح بين الواقع وبين ما هو تخييلي، فهل هي معاناة تلمس الوهم في مرايا الكتابة؟، أم هو فضاء اختياري وضع فيه القاص رحاله الخاضعة لأدوات مفاهيمية، تختزل مجرياته النفسية؟.

استوقفتنا قصة "رأس من ذهب" ص:47، حيث يحملنا القاص إلى لعبة التذكر، أو الغوص في الزمن الطفولي، القابع في جو ساخر ممدد بين براثن النظرات المتربصة، ببراءة مذبوحة على أعتاب خِلقية؛ حيث يتوارى الحلم في شراشف التشوه، " رأسي أكبر من اللزوم نظراتهم إلي تشوبها ريبة واهتمامهم بحجم هذه الرأس يترك بداخلي شعورا بالاختلاف.."، فهل هذا الاختلاف هو مجرد اختلاف في الشكل، أم يحمل إشباعا داخليا بالتميز؟ رغم كثرة الآراء التي مزقت شعث نفسه؛ وسقته حنظل الإحساس بالذنب: " ورأسي أكبر من اللازم قالها أبي الذي بات يضربني كلما صادفني..دائما يسبني و أعزى هلاك والدتي لحجم رأسي"، هنا تبرز السلطة الأبوية التي تقتل رغائب البوح و التطلعات التعبيرية البسيطة، التي تُسْقِطُ الطفل في زوابع القمع والمنع و الإحساس بالذل والنقص.

لكن ما يثيرنا هو أنه يجد داخل هذا النفق النفسي الملغم، نوعا من الرضى رغم كل ما قيل ويقال: "لكنني كنت أحب رأسي !فكثيرا ما حملقت فيها داخل المرآة ..كانت تقول لي بغنج ودلال أنني أجمل الخلق، وتتسيب في التغزل بعيني وأنفي وفمي..لكنها كانت تتحاشى الجمجمة لأنها أكبر من اللازم".فهل علينا حقا تقبل كينونة الأشياء؟ !! ، لقد سار القاص خطوات نحو زقاق مشبع بالحياة محاولا التخلص من صهيل الطفولة الساذجة، في حركة تضادية تظهر انطواء الشخصية من جهة، وقفزها فوق الواقع الاجتماعي العاري من حوارية النقد الذاتي الغائر في السطحية.

ويستمر السارد في صب مداد ملامحه المختلفة،فيرتدي عباءة الحيرة وهو يقطع بنا المسافات الساكنة في وِرْد الليل، متسكعا بين تفاصيل الصمت الموغلة في التأمل. فالليل قصيدة وجودية ، يرمي ظلاله على كل العاشقين لكأسه، حيث يسامرنا الغوص في صروف الحياة باختلاف دورانها. " في الليل.. في كل ليل !..ومنذ زمن أجدني أضرب الأخماس بالأسداس..تعانقني الأباجورة بضوء خافت، وأرضخ لتسلطات الحجرة، أستسلم لبراثن العزلة (...) وحدها النظرات والخفقات وترقبات اللاشيء نديماتي بعد نهار من المشي والتفاصيل" ص:52. مستسلما لهذا الحلم الجواني الذي يصطاده بهدوء موحش، والذي يستقبل فيه الجسد مطارق التعب، وتبقى للعين رحلتها بين أرجاء الغرفة " أخرج عن جسمي قليلا، وعلى مهل الهوينا نحو طرف الحجرة المقابل، فأبدأ في تعداد الأشياء والتفاصيل.." وبعد أن يضع عنه الأشياء جانبا، نراه ينقلنا بسرعة البرق نحو بؤرة دلالية تعرف نوعا من التمزق في نطاق التأكيد على هوية الأنا المتربصة داخل دلالات الخطاب.
" ثم.. أنا!! الرجل الأسمر المتوسط الطول الذي تفوح منه روائح "الخاوي"! ..الرجل ذو اللحية التي يلزمها حجام...الرجل المسكين الذي أعلن إفلاسه.."

إننا نلمس هذا الخواء الداخلي الذي يشد حبال النفس نحو نهر اليأس،والتي تحاول لملمته الذات الكاتبة التي تعيش جدلا اجتماعيا عبر هذه المحكيات، التي تعلن إعدام القيم الأبيسية والطهرانية.والغوص في حالات الانشطار كسمات نفسية مأزومة. ويتضح هذا عند طرح الموت كتيمة رمزية تكررت ذبذباتها داخل جدلية الاختلاف، فلماذا أعلن القاص موته داخل قصته " الكونجي"ص69 ؟.هل هي محاولة منه لشد انتباه المتلقي؟ أم استهواه موت المؤلف؟، أم هي حرقة الأوجاع التي يصطلي بها ،جعلته يعبر إلينا من خلال هذا المشهد حاملا كفن أحلامه التي اغتيلت؟، أم تراه يريد إثبات وجوده في حلبة السرد، محاولا إضفاء الطابع الشخصي على الخطاب،في تقسيمات إشارية إيحائية؛ كأن ما يجري داخل كواليس الحكي واقع بامتياز ؟ وهل هو انتشاء داخل الجسد المعطل الذي يستدعي السكون؟ ! "...هذا الصباح مات عبد الرحيم الرزقي ! صليناها جنازة في جامع "خربوش" فقصدنا ردمه في مقبرة الإمام السهيلي! ".

" السي عبد الرحيم الرزقي رجل مسكين تجاوزته الحال... ! فقير لا يمتلك من الدنيا سوى الشهيق والزفير..يكاد لا ينظر أمامه من شدة الخجل، وما أكثر ما ينتابه الإحساس بما يشبه المطاردة ..أعداء وهميون يختلجون بدواخله لا يفارقونه."
لنلاحظ هذه " السي" التي جاءت في موضعين من هذه القصة، والتي تمثل قمة التناقض الذي يعيشه السارد. فكيف يمشي خائفا من خطواته. و فيها – أي سي- تكريس لقوة معنوية تقبض على ملامح الأنا وتقربنا من المسرود الشفوي الأتوقراطي.
كما أن هذه القصة قمة في الكوميديا السوداء التي عبرت عنابر الإدارة وما تحت جبتها من فساد.. وهي ترمينا إلى مدارات قصة" المخزن"ص:125 بكل ثقلها السياسي.

حيث نطأ أرضية الحوار المباشر الملغم " .. وأنتم الأربعة ! ما سر نومكم الثقيل و ها النهار انتصف؟ وما جلوسكم فترة ما بعد الظهر عند ذلك الحجام؟ أهو تنظيم سياسي ترومون به قلب النظام؟ ومناقشاتكم السياسية المتطرفة التي لا تنتهي !!"

لقد استطاع القاص جمع شظايا الذات المشروخة بعرض جروحها أمام القارئ، حيث دفع به هذا إلى تكرار الموت في أكثر من فضاء سردي... فهل هو مثل سيرفانتيس في طواحين الهواء، حيث يعتلي جواد الواقع الغائصة قوائمه في اليأس و القهر الاجتماعي و الإحباط والغربة داخل المدينة التي أصبحت عاهرة بكل المقاييس. أنظر ( الكابوس،خيول من دخان، هكذا الموت، لحظة قبر، دمعتان، الهارب، سيلان من شقوق،وسواس عتيق......الخ)،

وبإلقاء نظرة عابرة على هذه المجموعة نجد أن التوقيع الذي تذيل به نفسها ، هو تنوع لغة السرد واختلاف أحجام أقاصيصها التي تدق وتدها في خيمة التجريب.حيث تبنى فوق متنها أزمنة حلم يتداعى في هيكل الكوابيس، في تقنية استحضرت كوامن النفس التي تنطلق من الذات نحو التعدد، حاملة خصوصيات تحمل هوية عبد الرحيم الرزقي الإبداعية.الذي نجح في طرح الغربة النفسية فوق هذا البياض، بفرشاة شعرية حينا؛ و فلسفيةٍ أحيانا. مترجما هموم جيله من القصاصين الذين يقاومون التهميش بكل شطحاته.

فإذا كانت العناوين مفاتيح لجسدها ، فإنا نقول بعجالة بأنها خلقت ظلال التواصل بينها وبين المتن، و إن كان بعضها يستقي من الدارجة تواجدها " رياح كازوية"، "المخزن" ، "الكونجي" الخ.. الخ.

على أي، لقد ربح المشهد الثقافي المغربي قاصا، أخرج مجموعته من تصدعات وشقوق الواقع التي ترجمت خراب الذات، مطلا من نافذة أرٍكيولوجية تغرس مرآتها في تربة الإبداع الجاد. يقول: " لم أكن لأعيرهم أدنى اهتمام !ولن أتمكن حتى ولو حاولت..فقد رميت بعناية داخل صندوق أغلق بإحكام.

وما كنت أستطيع فعله بالكاد، هو النظر من شقوق ذلك الصندوق إلى هذا العالم الهاج والماج صراخا" (سيلان من شقوق ص:7)

إنها مقاومة السلبيات بحثا عن الخلاص الداخلي من الضياع وعذابات المعيش بلعبة الكتابة.

للقاص المغربي عبد الرحمان الزرقي
..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







عرفت القصة القصيرة بالمغرب في الآونة الأخيرة منعطفات جادة، فرضتها التغيرات التي يعرفها المشهد الثقافي، ولقد تعززت الساحة الإبداعية بالمغرب، بمجموعة قصصية جديدة تحت عنوان: "سيلان من شقوق"" لعبد الرحيم الرزقي، عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش 2006. تضم أقاصيص تربو على 37، تصل صفحاتها إلى 168 صفحة من الحجم المتوسط.والتي بصمها الدكتور الناقد عبد الجليل بن محمد الأزدي بقوله" نقرأ هنا شيئا من أحسن القصص المفعمة بكؤوس المرارة، لكنها شامخة مثل صومعة الكتبية. يغسل عبد الرحيم الرزقي وجه الموت بماء الحياة، فيتدفق السرد الأقصوصي مشعا كماء صهريج المنارة، يتهجى لغة الآتي في مسالك القيامات، ويعيد ترتيب ألوان الطيف قليلا كي تستفيق مراكش من عذاب العار (....) الغلاف الأخير من المجموعة القصصية.

و أول ما يلفت نظرنا ونحن نقل قطار هذا العمل، هو لوحة الغلاف الموقعة باسم التشكيلي محمد نجاحي الذي ينقل عوالم الذات في لوحات ناطقة. حيث يضم الغلاف نافذة وسط جدار أرجواني كما لون الحمراء؛ آيل للسقوط. والذي بدت تقع بعض أثوابه بفعل عوامل الطبيعة التي أكلت معالم جماله ولم يبق تقريبا غير الأطلال، و كأنه طرح للزمن الكوني الذي يعزف إيقاعاته من خلال أحد المشاهد التي التقطتها ريشة هذا الفنان المتميز. ليحيلنا التصدع الذي يتخللها إلى العنوان الذي يعتبر مرآة داخلية، يتدلى ضوئها من خلال السقف السيكولوجي و الثقافي و أيضا الأيديولوجي. نحو إيحاءات تسقطنا في بئر المعاناة، وكأني بالقاص يجر نفسه المثقلة بالهموم من بين هذه الشقوق؛ ليعلن عن تواجده واستمراريته، ويُسْمِعَ صراخه الخفي/الظاهر من خلال الحروف، التي هي بمثابة نوارس تخييلية تنشر دلالاتها في لحظة انفجار الحكي، فهل هذه اللوحة هي جسد القاص المليء بالجراحات والخراب الداخلي؟، أم هي ترجمة لأزمنة ذات نزعة ذاتية لا تستكين في الحاضر المسكون بالخيبة و اليأس والانهيار، بل تتجاوزه إلى زمن يستشرف المستقبل حيث تضاريس الحلم، والذي سنحاول تصيده من خلال مطاردته في أرض عبد الرحيم الرزقي.

وهل ذلك السيلان هو ما أنبت روح القاص من تحت الأنقاض كما طائر الفينيق؟.

فنطازيا الحلم المسلوب:

يفتح هذا القاص المشاغب عوالمه أمام القارىء في حانة السرد ، واقفا فوق أرض إبداعية تحرث عتبات تفتح نوافذها للواعج الحكي، وتنوع الشخوص التي تمتطي متن الأزمنة المختلفة. حيث يرتدي الحلم في المجموعة القصصية، شرانق مزخرفة بأسئلة تحاول خلق تصالح بين الواقع وبين ما هو تخييلي، فهل هي معاناة تلمس الوهم في مرايا الكتابة؟، أم هو فضاء اختياري وضع فيه القاص رحاله الخاضعة لأدوات مفاهيمية، تختزل مجرياته النفسية؟.

استوقفتنا قصة "رأس من ذهب" ص:47، حيث يحملنا القاص إلى لعبة التذكر، أو الغوص في الزمن الطفولي، القابع في جو ساخر ممدد بين براثن النظرات المتربصة، ببراءة مذبوحة على أعتاب خِلقية؛ حيث يتوارى الحلم في شراشف التشوه، " رأسي أكبر من اللزوم نظراتهم إلي تشوبها ريبة واهتمامهم بحجم هذه الرأس يترك بداخلي شعورا بالاختلاف.."، فهل هذا الاختلاف هو مجرد اختلاف في الشكل، أم يحمل إشباعا داخليا بالتميز؟ رغم كثرة الآراء التي مزقت شعث نفسه؛ وسقته حنظل الإحساس بالذنب: " ورأسي أكبر من اللازم قالها أبي الذي بات يضربني كلما صادفني..دائما يسبني و أعزى هلاك والدتي لحجم رأسي"، هنا تبرز السلطة الأبوية التي تقتل رغائب البوح و التطلعات التعبيرية البسيطة، التي تُسْقِطُ الطفل في زوابع القمع والمنع و الإحساس بالذل والنقص.

لكن ما يثيرنا هو أنه يجد داخل هذا النفق النفسي الملغم، نوعا من الرضى رغم كل ما قيل ويقال: "لكنني كنت أحب رأسي !فكثيرا ما حملقت فيها داخل المرآة ..كانت تقول لي بغنج ودلال أنني أجمل الخلق، وتتسيب في التغزل بعيني وأنفي وفمي..لكنها كانت تتحاشى الجمجمة لأنها أكبر من اللازم".فهل علينا حقا تقبل كينونة الأشياء؟ !! ، لقد سار القاص خطوات نحو زقاق مشبع بالحياة محاولا التخلص من صهيل الطفولة الساذجة، في حركة تضادية تظهر انطواء الشخصية من جهة، وقفزها فوق الواقع الاجتماعي العاري من حوارية النقد الذاتي الغائر في السطحية.

ويستمر السارد في صب مداد ملامحه المختلفة،فيرتدي عباءة الحيرة وهو يقطع بنا المسافات الساكنة في وِرْد الليل، متسكعا بين تفاصيل الصمت الموغلة في التأمل. فالليل قصيدة وجودية ، يرمي ظلاله على كل العاشقين لكأسه، حيث يسامرنا الغوص في صروف الحياة باختلاف دورانها. " في الليل.. في كل ليل !..ومنذ زمن أجدني أضرب الأخماس بالأسداس..تعانقني الأباجورة بضوء خافت، وأرضخ لتسلطات الحجرة، أستسلم لبراثن العزلة (...) وحدها النظرات والخفقات وترقبات اللاشيء نديماتي بعد نهار من المشي والتفاصيل" ص:52. مستسلما لهذا الحلم الجواني الذي يصطاده بهدوء موحش، والذي يستقبل فيه الجسد مطارق التعب، وتبقى للعين رحلتها بين أرجاء الغرفة " أخرج عن جسمي قليلا، وعلى مهل الهوينا نحو طرف الحجرة المقابل، فأبدأ في تعداد الأشياء والتفاصيل.." وبعد أن يضع عنه الأشياء جانبا، نراه ينقلنا بسرعة البرق نحو بؤرة دلالية تعرف نوعا من التمزق في نطاق التأكيد على هوية الأنا المتربصة داخل دلالات الخطاب.
" ثم.. أنا!! الرجل الأسمر المتوسط الطول الذي تفوح منه روائح "الخاوي"! ..الرجل ذو اللحية التي يلزمها حجام...الرجل المسكين الذي أعلن إفلاسه.."

إننا نلمس هذا الخواء الداخلي الذي يشد حبال النفس نحو نهر اليأس،والتي تحاول لملمته الذات الكاتبة التي تعيش جدلا اجتماعيا عبر هذه المحكيات، التي تعلن إعدام القيم الأبيسية والطهرانية.والغوص في حالات الانشطار كسمات نفسية مأزومة. ويتضح هذا عند طرح الموت كتيمة رمزية تكررت ذبذباتها داخل جدلية الاختلاف، فلماذا أعلن القاص موته داخل قصته " الكونجي"ص69 ؟.هل هي محاولة منه لشد انتباه المتلقي؟ أم استهواه موت المؤلف؟، أم هي حرقة الأوجاع التي يصطلي بها ،جعلته يعبر إلينا من خلال هذا المشهد حاملا كفن أحلامه التي اغتيلت؟، أم تراه يريد إثبات وجوده في حلبة السرد، محاولا إضفاء الطابع الشخصي على الخطاب،في تقسيمات إشارية إيحائية؛ كأن ما يجري داخل كواليس الحكي واقع بامتياز ؟ وهل هو انتشاء داخل الجسد المعطل الذي يستدعي السكون؟ ! "...هذا الصباح مات عبد الرحيم الرزقي ! صليناها جنازة في جامع "خربوش" فقصدنا ردمه في مقبرة الإمام السهيلي! ".

" السي عبد الرحيم الرزقي رجل مسكين تجاوزته الحال... ! فقير لا يمتلك من الدنيا سوى الشهيق والزفير..يكاد لا ينظر أمامه من شدة الخجل، وما أكثر ما ينتابه الإحساس بما يشبه المطاردة ..أعداء وهميون يختلجون بدواخله لا يفارقونه."
لنلاحظ هذه " السي" التي جاءت في موضعين من هذه القصة، والتي تمثل قمة التناقض الذي يعيشه السارد. فكيف يمشي خائفا من خطواته. و فيها – أي سي- تكريس لقوة معنوية تقبض على ملامح الأنا وتقربنا من المسرود الشفوي الأتوقراطي.
كما أن هذه القصة قمة في الكوميديا السوداء التي عبرت عنابر الإدارة وما تحت جبتها من فساد.. وهي ترمينا إلى مدارات قصة" المخزن"ص:125 بكل ثقلها السياسي.

حيث نطأ أرضية الحوار المباشر الملغم " .. وأنتم الأربعة ! ما سر نومكم الثقيل و ها النهار انتصف؟ وما جلوسكم فترة ما بعد الظهر عند ذلك الحجام؟ أهو تنظيم سياسي ترومون به قلب النظام؟ ومناقشاتكم السياسية المتطرفة التي لا تنتهي !!"

لقد استطاع القاص جمع شظايا الذات المشروخة بعرض جروحها أمام القارئ، حيث دفع به هذا إلى تكرار الموت في أكثر من فضاء سردي... فهل هو مثل سيرفانتيس في طواحين الهواء، حيث يعتلي جواد الواقع الغائصة قوائمه في اليأس و القهر الاجتماعي و الإحباط والغربة داخل المدينة التي أصبحت عاهرة بكل المقاييس. أنظر ( الكابوس،خيول من دخان، هكذا الموت، لحظة قبر، دمعتان، الهارب، سيلان من شقوق،وسواس عتيق......الخ)،

وبإلقاء نظرة عابرة على هذه المجموعة نجد أن التوقيع الذي تذيل به نفسها ، هو تنوع لغة السرد واختلاف أحجام أقاصيصها التي تدق وتدها في خيمة التجريب.حيث تبنى فوق متنها أزمنة حلم يتداعى في هيكل الكوابيس، في تقنية استحضرت كوامن النفس التي تنطلق من الذات نحو التعدد، حاملة خصوصيات تحمل هوية عبد الرحيم الرزقي الإبداعية.الذي نجح في طرح الغربة النفسية فوق هذا البياض، بفرشاة شعرية حينا؛ و فلسفيةٍ أحيانا. مترجما هموم جيله من القصاصين الذين يقاومون التهميش بكل شطحاته.

فإذا كانت العناوين مفاتيح لجسدها ، فإنا نقول بعجالة بأنها خلقت ظلال التواصل بينها وبين المتن، و إن كان بعضها يستقي من الدارجة تواجدها " رياح كازوية"، "المخزن" ، "الكونجي" الخ.. الخ.

على أي، لقد ربح المشهد الثقافي المغربي قاصا، أخرج مجموعته من تصدعات وشقوق الواقع التي ترجمت خراب الذات، مطلا من نافذة أرٍكيولوجية تغرس مرآتها في تربة الإبداع الجاد. يقول: " لم أكن لأعيرهم أدنى اهتمام !ولن أتمكن حتى ولو حاولت..فقد رميت بعناية داخل صندوق أغلق بإحكام.

وما كنت أستطيع فعله بالكاد، هو النظر من شقوق ذلك الصندوق إلى هذا العالم الهاج والماج صراخا" (سيلان من شقوق ص:7)

إنها مقاومة السلبيات بحثا عن الخلاص الداخلي من الضياع وعذابات المعيش بلعبة الكتابة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ااعتذار للكاتبة والشاعر نجاة الزباير
محمد نور الدين بن خديجة ( 2021 / 1 / 4 - 14:18 )
سقط سهوا اسم كاتبة المقال السيدة نجاة الزباير شاعرة وناقدة من المغرب وبه وجب الاعتذار لها وللقراء

اخر الافلام

.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي


.. الأسطى عزيز عجينة المخرج العبقري????




.. الفنانة الجميلة رانيا يوسف في لقاء حصري مع #ON_Set وأسرار لأ