الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايقونات التمدن 3

فارس تركي محمود

2021 / 1 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


فضلا عن الجذر اليوناني هناك جذر ومصدر آخر للحضارة الاوربية الحديثة وهو المصدر الروماني فالحضارة الرومانية القديمة تعد من أهم الأسس التي ارتكزت عليها الحضارة الاوربية الحديثة بكل ما تتضمنه من مفاهيم عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. فعلى الرغم من أن الحضارة الرومانية لم تكن تضاهي الحضارة اليونانية ولم تكن تتمتع بغناها فيما يتعلق بتلك المفاهيم إلا أن تاريخها يزخر بالكثير من الأحداث والدلالات المؤكدة والكاشفة لوجود البذور الأولى للحريات وللممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان بشكل عام. فلا يمكن لأي مؤرخ أن يتناول التاريخ الروماني بدون أن يتطرق إلى فكرة الديمقراطية التي كان لها حضور بارز ومؤثر في ذلك التاريخ، وبدون أن يتناول مراحل الصراع والكفاح الذي خاضته العامة والطبقات الفقيرة من أجل نيل حقوقها، والخطوات الإصلاحية التي اتخذتها السلطات الرومانية والتي كانت تساهم كلها في دعم وتعزيز أجواء الديمقراطية ومناخات الحرية .
ففي العهد الملكي لروما والذي ستمر زهاء قرنين ونصف ( 753 ق . م . – 509 ق . م ) لم يكن حكم الملك حكماً وراثياً، بل كان موظفاً منتخباً من قبل مجلس الشيوخ ثم يوافق عليه المجلس الذي يمثل الشعب والذي يعرف بـ ( مجلس الأحياء ) حيث كان يجتمع فيه العامة بحسب الأحياء التي يسكنونها، وكانت بعض القرارات والإجراءات التي يصدرها لا تعد سارية المفعول بدون موافقة مجلس الأحياء مثل قرارات الإعدام وإعلان الحرب، كما كان من العسير على الملك تجاهل مكانة ونفوذ مجلس الشيوخ. ومما يؤكد نفوذ وقوة مجلسي الشيوخ والأحياء ويبين الدور الفعَّال الذي كان يلعبه المواطنون الرومان أنهم تمكنوا من الإطاحة بالنظام الملكي بعد أن تولى الحكم ملوك مستبدون كان آخرهم لوقيوس سوبربوس وأقاموا النظام الجمهوري وذلك في العام 509 ق . م .
وفي العهد الجمهوري أي منذ بداية القرن الخامس قبل الميلاد شهدت روما صراعات وصدامات كثيرة ما بين الطبقات المسحوقة والفقراء والمعدمين وبين الحكام والأثرياء والمتنفذين بغية الحصول على حقوقهم والتخلص من المظالم التي يعانون منها، وبدأوا يطالبون بإلغاء القوانين والإجراءات الظالمة والجائرة بحقهم، وأن يخفف عنهم عبء ما تراكم عليهم من الديون، وأن توزع الأرض التي تنال بالحرب وتمتلكها الدولة على الفقراء بدل أن توهب للأغنياء أو تباع لهم بأثمان اسمية؛ وأن يكون من حق العامة أن يختاروا حكامًا وكهنة، وأن يتزوجوا من الأشراف ورجال الأعمال، وأن يتم تعيين أشخاص من طبقتهم في أعلى الوظائف الحكومية. وحاول مجلس الشيوخ الروماني أن يقف هذه الحركة بإثارة الحروب الخارجية، ولكنه دهش إذ رأى أن الدعوة إلى حمل السلاح لم يستجب لها أحد.
وفي عام 494 ق. م. تمرد عليهم عدد كبير من العامة ونزحوا إلى الجبل المقدس على نهر أنيو ( Anio ) على مسيرة نحو ثلاثة أميال من مدينة روما، وأعلنوا أنهم لن يعملوا أو يحاربوا من أجل روما حتى تجاب مطالبهم. ولجأ مجلس الشيوخ إلى جميع الحيل السياسية أو الدينية لإغراء العامة بالرجوع إلى روما، ولكن هؤلاء أصروا على مطالبهم؛ فلما خشى أن تقع البلاد في القريب بين ناري الغزو الخارجي والشقاق الداخلي وافق على إلغاء الديون أو تخفيضها، وعلى تعيين ممثلين وموظفين في المناصب العليا يختارون من بين العامة للدفاع عن مصالحهم. ورجع العامة إلى روما ولكنهم أقسموا قبل رجوعهم بأغلظ الإيمان أن يقتلوا كل رجل يعتدي على ممثليهم في الحكومة.
وكانت الخطوة التالية التي خطاها العامة في سبيل نيل حقوقهم هي أنهم طالبوا بأن تكون القوانين المدنية واضحة محددة مدونة. ذلك أن الكهنة والأشراف قد ظلوا حتى ذلك الوقت هم القائمين بتدوين القوانين المكتوبة وتفسيرها، وكانوا يحتفظون بسجلاتها سراً لا يطلع عليه غيرهم من الأهلين، ويتخذون من هذا الاحتكار، وبما تتطلبه القوانين من مراسم ، أسلحة يقاومون بها كل دعوة إلى الإصلاح الاجتماعي. وعارض مجلس الشيوخ هذه المطالب الجديدة معارضة طويلة، ولكنه وافق في آخر الأمر (عام 454 ق. م.) على أن يرسل إلى بلاد اليونان لجنة مؤلفة من ثلاثة من الأشراف لدراسة شرائع صولون وغيره من المشرعين، وكتابة تقرير عنها. فلما عاد الأعضاء إختارت الجمعية في عام 451 ق. م. عشرة رجال لوضع قانون جديد، وخولتهم أعلى سلطة حكومية في روما مدى سنتين. وكانت نتيجة أعمالها أن حولت قوانين روما القديمة القائمة على العادة والعرف إلى الاثنتي عشرة لوحة الذائعة الصيت والتي أصبحت تعرف بالألواح الرومانية، وعرضت على الجمعية فوافقت عليها بعد أن عدلتها بعض التعديل، وعرضتها في السوق العامة لمن يريد أن يقرأها. وكانت هذه الحادثة التي تبدو في ظاهر أمرها تافهة غير جديرة بالعناية من الحوادث الهامة البالغة الأثر في تاريخ روما بوجه خاص وفي تاريخ العالم كله بوجه عام ؛ ذلك أنها كانت أول ما دون من ذلك الصرح القانوني العظيم الذي كان أهم ما قامت به روما من الأعمال وما قدمته إلى الحضارة من هبات. وبعد ذلك بفترة وجيزة لا تتجاوز الخمس سنوات تمكن العامة من الحصول على مكاسب وامتيازات جديدة أبرزها زيادة سلطة وصلاحيات ممثليهم في الهيئة الحاكمة بحيث أصبحت مساوية لسلطة القناصل الحاكمين للإمبراطورية الرومانية، كما تم تشريع قانون يحرم الاعتداء عليهم أو مضايقتهم، وتم أيضاً الإقرار بحق العامة في استئناف ما يصدره كبار الموظفين أياً كانت منزلتهم من أحكام، وأصبح من حق العامة الزواج من طبقة الأشراف.
وحوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد زيد عدد ممثلي العامة ( الترابنة ) إلى عشرة أعضاء واعترف بهم رسمياً بوصفهم ممثلي العامة وبذلك أصبحوا في عداد أرباب الوظائف العامة الذين يتمتعون بالنفوذ داخل الهيكل الحكومي ولم يعد بوسع أحد أن يتحدى تدخلهم دفاعاً عن مصالح العامة وممتلكاتهم باستخدام ( حق الاعتراض ) ضد أعمال وتصرفات الحكام، وعلى أعمال أي ممثل من ممثلي العامة، وعلى الانتخابات والقوانين وقرارات مجلس الشيوخ بل وحتى على ما هو معروض على مجلس الشيوخ قبل أن يصبح قراراً، وتنفيذ مشيئتهم بالقوة الجبرية إذا إقتضى الأمر. ثم أصبح يحق لممثلي العامة حضور جلسات مجلس الشيوخ والاعتراض على ما يدور داخلها من نقاشات. وفي العام 367 ق . م . اعترف رسمياً للعامة بحق تولي منصب القنصلية، فكان أحد قنصلي عام 366 ق . م . من العامة. وحوالي العام 300 ق . م . أصبح يحق لممثلي العامة أن يقدموا أي حاكم، مما جعلهم الحراس على المصلحة العليا للدولة لجهة سوء استخدام الحكام لسلطتهم أثناء توليهم الحكم. ولم يأت العام 216 ق . م . حتى أصبح من حق هؤلاء الممثلين دعوة مجلس الشيوخ إلى الاجتماع.
إن هذه الأحداث والدلالات وغيرها الكثير مما تزخر به كتب التاريخ تؤكد لنا بما لا يقبل الشك وجود البدايات والإرهاصات الأولى لمفاهيم وممارسات الحرية والديمقراطية والمشاركة الشعبية بالحكم وحقوق الإنسان، فهي ليست وليدة الامس وليست من مكتشفات عصر النهضة ولم تكتشفها الحضارة الاوربية الحديثة بمحض الصدفة أو لأنها حضارة محظوظة، بل هي تراث كلاسيكي ضارب بجذوره في عمق التاريخ. إذاً فإن ما تتميز به الحضارة الاوربية الحديثة من ديمقراطية وحرية وشفافية وانتخابات وحقوق إنسان أي ما بات يعرف بإيقونات التمدن لم تبدأ بالظهور في العصر الحديث بل ظهرت مع ظهور الحضارة اليونانية والرومانية ومن ثم نمت وتطورت ونضجت طوال قرون عديدة حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم وباتت مطلباً لكل شعوب العالم فالكل يريدها والكل يطالب بها والكل يعتقد أنها حق من حقوقه وكأنها بضاعة يمكن استيرادها أو تقليد صناعتها، متجاهلون أو جاهلون أنها إنتاج بيئة وظروف جغرافية بعينها ووجودها مرتبط بتواجد تلك الظروف. فما هي تلك الظروف وكيف أسهمت في إنتاج إيقونات التمدن؟ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تساهم ألمانيا في دعم اتفاقية أبراهام؟| الأخبار


.. مروان حامد يكشف لـCNN بالعربية سر نجاح شراكته مع كريم عبد ال




.. حكم غزة بعد نهاية الحرب.. خطة إسرائيلية لمشاركة دول عربية في


.. واشنطن تنقل طائرات ومُسيَّرات إلى قاعدة -العديد- في قطر، فما




.. شجار على الهواء.. والسبب قطع تركيا العلاقات التجارية مع إسرا