الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير

حامد تركي هيكل

2021 / 1 / 6
الادب والفن



النوارس
الساعة العاشرة مساء

حدث تغير كبير في طبيعة الجمهور المتجمّع حول الخيمة في الساعات الأخيرة. كان هناك المجنونان الصغيران عماد وحسن يستنطقان الرجل الغامض، ثم توافد لفيف من مجتمع السطح ممثل بالفنانين، فنصبوا لهم خيمة الى جهة اليمين، وتهافت مجانين وغريبو الأطوار، فتناثروا الى جهة اليسار. أما الآن فقد إجتذب الحدث أعداداً كبيرة من الناس، فأبعدتِ الشابين، وابتلعتِ الفنانين والمجذوبين، واختلط الحابل بالنابل.
انتظر الناس ما سيقوله الرجل الغامض في المرة القادمة. فبعد أن طاف المتحمسون حول الخيمة حاملين الرجل على أكتافهم قبل ساعات، وبعد أن تعبوا، أو ربما بعد أن تعب، أعادوه الى سريره، وأسدلوا عليه خيمته، فنام. ثم ظلّوا يراقبونه. تناوبوا على مراقبته. أما الذين كانوا في الحديقة، وعلى الرصيف، وفي عموم الساحة، بل الذين كانوا يراقبون شاشات التلفزيون، وأولئك الذين كانوا يراقبون هواتفهم بانتظار أن تصلهم رسالة جديدة من أصدقائهم تنبئهم عنه، فقد بَدَوْا مندمجين مع قصته، مشدودين لسيناريوهاتها. وهو ما شجّعهم لتخيّل ما سيقول. أطلق الجميعُ العنانَ لخيالاتهم لتصور النهاية. لا بل أن البعض آمن إيمانا قاطعاً أنه يعلم ما سيقوله الرجلُ الغامض في اللقاء القادم الذي لابد أن يكون حاسماً. كان الجميع مشغولاً بتلك القصة، فقد انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع سجّلها بعض الحاضرين للرجل وهو يقف رافعا ذراعيه، هاتفاً بأعلى صوته المبحوح. وصلت التسجيلات الى كل الأماكن، وشاهدها الكثيرون، بل أن تلك المقاطع قد ظهرت في بعض القنوات التلفزيونية المحليّة. ظهر فيها الرجل وهو يخطب بالجماهير فيما أُضيفت موسيقى الى التسجيل. ورغم أن الصوت لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية، ورغم رداءة الموسيقى التي أُضيفت، الا أن المشهد بدا مؤثراً لكل من شاهده تلك الليلة.

أخبار كاذبة
انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصوّرة بعناية، مقاطع تبدو وكأنها مشاهد من أفلام، مشاهد مفبركة تتضمن رجلاً بملابس غريبة، بدلة عمل بيضاء عليها قميص فضفاض ونطاق من قماش بلون مائل للحمرة. وهو يقف على منصة، ويتلو مقاطع عجيبة مما جادت به قرائح الناس. فأحد تلك المقاطع يظهر فيها رجل يذكر مواعظ أو ما شابه ذلك! بينما كانت إحدى القنوات التلفزيونية تعرض تقريراً مزيّفاً أعدّه مراسلُها، يزعم فيه أنه ينقل الكلمة التي ألقاها الرجل الغامض قبل ساعات. فيما شدَّ التقرير انتباه جميع العوائل التي شاهدته في البيوت والمقاهي والمطاعم، وتناقلته قنوات أخرى مشيرة الى مصدر التقرير التزاما منها باخلاق المهنة! كان ذلك التقرير يعرض رجلاً يقدم للناس نصائح بضرورة التزام الهدوء، والتأكد من غلق الأبواب الخارجية قبل النوم!

توقعات
في خيمة فسيحة تعود لمجموعة الشايب من هواة المسرح، واساتذة الفن، بدأ عدد منهم يرتجل ما سيقوله الرجل الغامض في المرة القادمة. أمام جمهور من المتفرجين الواقفين حول مساحة خالية كأنها خشبة مسرح، وبعضهم كان جالسا مفترشا الأرض. كان الشايب يقول تلك الليلة: بغض النظر عمّا سيقول هو أو لا يقول. يمكن إستثمار هذا الحدث لاطلاق العنان للخيال، خيالنا يعبر عن رؤيتنا، خيالنا يرسم الصورة التي نريدها أن تكون. لذلك فما ينتجه خيالنا من توقعات للأحداث ليس شيئا تافهاً، بل هو جزء مهم من الحدث ذاته، نحن نعيد بناء الحدث، لذلك لا بأس لنتخيَّل ما سيقول الرجل ، لنتخيَّل فحسب. قال الشايب مشجعاً الشباب لارتجال نص درامي. وقف شاب، وبصوت جهوري مؤثر راح يقول: من بين الأنقاض ، ومن تحت الرماد. كانت العزيمة التي خُيّل للبعض أنها قد أغتيلت الى الأبد، ، كان الشباب الذين نجوا من المذبحة منهمكين طوال تلك الليالي الحالكة بإعادة ترتيب الأغاني التي تم تحريفها، ساهرين بصبر على تنقيتها من الكلمات التي زُرعت داخلها مثل حقول ألغام خطيرة. عمل شاق ومثابر كان ذلك الذي قاموا به في زنزانتهم الرطبة المظلمة. رمموا نصوص الأغاني، ونقّوها من الشوائب. راجعوا الألحان وأخرجوا منها كل نغمة نشاز دُسّت فيها. أعادوا ترتيب الأفكار، وتذكروا الأحداث التي جرت مرة أخرى داخل عقولهم. فنزعوا منها الأكاذيب، فبدت أكثر وضوحاً. وحين أنجزوا كل شي، أطلقوا صيحتهم. سمعتُها أنا كأنني أسمعها لأول مرة. كانت نقية كما لم يكن شيء نقياً من قبل. كانت قوية كما لم يكن شيء قوياً من قبل، كانت صادقة كل الصدق، وواضحة كل الوضوح، وعازمة بلا تردد، كانت تحمل اصراراً غريباً وثابتاً لارجعة فيه. راح الجمهور يصفق.
تقدمت فتاة أخرى تعتمر كوفية لتكمل المشهد بما جادت به قريحتها: انطلق المبتورةُ أطرافهم من تحت الأنقاض. رأيت أولئك الذين فُقئت عيونُهم، وأولئك الذين شُوهت وجوهُهم، وأولئك الذين فقدوا قدرتهم على السمع، نساءً ورجالا، صغاراً وكبارا، رأيتُ شباباً بوجوه شاحبة، وأجساد نحيلة، ولكن ثمة حرارة تشعُّ منهم، ثمة قوة عجيبة تكمن فيهم. شاهدتهم بأمّ عيني يخرجون من الأرض، دفعة واحدة، ويتوجهون صوب الشمس.

الخطاب الأخير
كان الناس في حديقة ألأمة في تلك اللحظة مثل نهر تتماوج مياهه، بحركة واحدة منسقة ، يهزجون، تتمايل الأجساد يمينا وشمالا، ترتفع الأيدي حاملة أجهزة الهواتف المحمولة، يبعث كل جهاز شعاعا ساطعاً. في عتمة تلك الليلة عندما عبر القمر المكسور الوجه سماء بغداد واختفى كلياًّ من دون أن يترك اثراً من نور. لا يعلم أحد هل احتجب خلف الغيوم الجافة أم أنه غاب وراء الأفق البعيد.
في تلك اللحظة وثب الجميع متحفزاً، فقد أُشيع أن الرجل الغامض الراقد في الخيمة التي كانت تنتصب على الرصيف مثل خشبة مسرح على وشك أن يتكلّم ليقول قوله الفصل، ليدلي بشهادته الأخيرة، ليسمع الناس ما كان قد رأى، وليحسم كل التكهنات والخيالات. فهو وحده الذي رأى، كما كان يقول. خرج الممثلون من خيمتهم الفسيحة، فوجدوا حشوداً تملأ المكان متوجهة بأعناقها صوب الخيمة. وضعت كشّافات ضوئية عملاقة على الأرض، وأخرى على جدران الأبنية المجاورة من جهة محلة البتاويين. تم تزويد الخيمة بمكبرات صوت عملاقة لتتمكن الجماهير من سماع ما سيقوله الرجل المهم .
تردد في فضاء الشارع والحديقة صوت مزعج هو صرير أجهزة الصوت غير المفحوصة. تردد الصدى المنعكس على واجهات الأبنية المحيطة بالمكان مرات عديدة. حاول الفنيون تدارك الأمر، فهرعوا الى أجهزة الصوت التي نصبوها على عجالة يحركون مفاتيحها، محاولين تفادي هذا الخطأ الفني الفادح. ولكن دون جدوى على ما يبدو.
تقدم الشايب، وكان يبدو عليه الزهو، لِمَ لا؟ فقد وجد فرصته على ما يبدو، فهذا الذي حصل ما هو الا عرض مسرحي. أكان هو الآخر يعيش منتظراً هذه اللحظة؟ فها هو جمهور متفاعل عريض. ألا يحق له أن يسعد؟ تقدم من الرجل الغامض يسأله: قل لي يا سيدي ما الذي حصل بعد ذلك؟ ولكن أحداً لم يسمع سوى صرير مزعج، وطنين يصمّ الآذان تصدره مكبرات الصوت سيئة الترتيب.
عاود الشايب القول: قل لنا ما الذي حدث بعد ذلك. لم يسمع أحد أيضاً ما قاله أستاذ المسرح، بل تردد ذلك الصدى الكريه الذي يكاد ينفذ داخل الجماجم.
ساد صمت مطبق، بدأ الرجل الغامض ينهض ببطء، حاول النظر الى جموع المشاهدين الواقفين حول الخيمة مرفوعة الجوانب. كان بالكاد يرى وجوههم، ذلك لأن أضواء الكشافات قد سُلطت عليه. خمَّن أنه رأى آلاف الوجوه وهي مشرئبة تصبو اليه، رأى آلاف العيون تتطلع اليه، رأى آلافاً من البشر وكأن على رؤوسهم الطير يحاولون أن يصغوا لما يقول. شعر الرجل الغامض أنه على وشك تحقيق حلمه الذي طالما شغله، شعر أنه سيقول أخيراً ما كان يخطط لقوله. أحسَّ أن رسالته التي كرَّسَ لها حياته ليقول ما رآه هو وحده دون غيره قد اقتربت من التحقق في هذه اللحظة. شعر بشيء غريب لم يألفه من قبل، شعور لم يجرّبه في أي يوم من أيامه السابقة، خُيّل له أن هذا هو الشعور بالسعادة، وسرت في جسده طاقة هائلة .

ليلة غريبة
في تلك اللحظة، وعلى غير عادتها، حلقت النوارس التي كانت نائمة في أجمات القصب على ضفتي نهر دجلة! وطارت الحمائم التي كانت ترقد تلك الساعة المتأخرة من إحدى ليالي شباط الباردة على غير عادتها من القباب والمنائر، وأبراج الكنائس، وهرعت الى سماء حديقة الأمّة تحوم. الأمهات اللواتي كُنَّ قد تناولن أقراص أدويتهن في غرفهن وخلدن الى نوم مبكر في أحياء بغداد، لم يتمكنَّ من النوم كما يفعلن كل ليلة، فقد تراءت لهن صور الأولاد الذين قضوا في الطرقات قبل أن يتمّوا لعبتهم الأخيرة. الأمهات اللواتي كنَّ ينتظرن أبنائهن وهنَّ يمسكن في أيديهنَّ (المُلَبَّس)، اللواتي نثرنه فيما بعد على صناديق ملفوفة! جلسن الليلة ينتظرن دون أن يعلمن ما الذي سيحصل. الأمهات اللواتي كن يتأملن صور الفتيات اللواتي ذهبن الى غير رجعة قبل وصول فساتين العرس، شعرن أن النوم هذه الليلة كان مستحيلاً دون أن يعلمن السبب وراء تلك الاستحالة.
الآباء الذين كانوا يشاهدون نشرات الأخبار المملّة التي كانت تعرضها قنوات التلفزيون شعروا بالانزعاج من التناقض الذي صار فاضحاً بين وجوه مقدمات الأخبار المبتسمة والمَشاهد التي كانت تُعرض. فقرروا الانسحاب بصمت الى الفراش، حاولوا تذكّر أيام الشباب الجميلة، كما يفعلون كل ليلة، ولكنهم فوجئوا أن الذكريات التي أدمنوا عليها تأبى أن تحضر الليلة! حاولوا التذكّر، دون جدوى. ليس هناك الا صور لمشاهد مؤلمة لم يكونوا يريدون تذكّرها على أية حال.
الذين قضوا ساعات العصر يبذلون الجهود المضنية من أجل الحصول سراً على زجاجة خمر، أكتشفوا هم أيضاً أنهم غير قادرين الليلة على بلوغ لحظة النسيان التي يبحثون عنها! فجلسوا وعيونهم مبحلقة، وهم يحتضنون زجاجاتهم الفارغة بانتظار شيء ما.
الذين واصلوا الصلاة منذ مغرب تلك الليلة حين كان القمر نصف قرص باهت غريب يعبر السماء للمرة الأخيرة ربما، أنهوا صلاة العشاء أيضاً، ثم الحقوا تلك الصلاة بأدعية ودموع، ثم وجدوا أنفسهم مجبرين على البقاء جالسين! لم يدركوا لماذا لم يكن بمقدورهم النهوض! أحسّوا هم أيضاً أن شيئاً ما كان على وشك الحدوث. قلبي يخبرني! قالوا. وجلسوا ينتظرون.
هل كانت تلك اللحظة حدثاً فرداً لم يحصل سابقاً؟ أم أنها ليست الا لحظة واحدة من لحظات، مغصة ألم في تاريخ المرض القديم المتواصل؟ هل اعتادت الحمائم الفزع هكذا دوماً كما تفزع الآن؟ هل اعتاد العجزة المسكونون بالحسرة توجسَ الوصب كل ليلة؟ أم أنهم الليلة يظنون ذلك لأول مرة؟ هل تراودهم أحلامٌ تنبئهم بقرب حلول الفاجعة؟ هل ينغزهم قلبهم دائماً كما يقولون؟ هل يترقبون دوما كما الليلة يرقبون؟ لا أحد يعلم، ولا هم يخبرون، مخافة أن ينغصّوا على الناس.
في تلك اللحظة عندما كانت بغداد تحاول أن تغفو كعادتها في مثل هذا الوقت، عندما كان الرجل الغامض يريد أن يقول شيئاً، عندما كان الناس حول تلك الخيمة ينصتون، هزَّ انفجار غادر تلك البقعة التي كانت ثمة خيمة على شكل خشبة مسرح تنتصب عليها. و أختفى كل من كان في حديقة الأمة تلك الليلة، وخيَّم ظلام دامس.
النهاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس