الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكرى من الحرب لا تريد ان تموت … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 7
الادب والفن


اكتفينا من سماع البيانات العسكرية المشتعلة ، والتهديدات الجوفاء ، وضجيج الاغاني الحماسية ، ما إن همدت المدافع عن الدوي ، والطائرات عن الازيز ، والقذائف عن العويل … ظل كل واحد منا يُخرج من اعماقه المجروحة صدمة الحرب المريرة ، وعنفها ، وقسوتها ، واستهتارها ، والتي ازهقت فينا روح الامل في حياة هادئة مستقرة ، والتهمت منا اعز شبابنا … ولم تترك لنا الا الموت ، والخراب ، وأنات الجرحى ، وعذابات المعوقين … انتظرنا صابرين الزنابق الهادئة ، والمسالمة ان تنموا ، وتغطي كل حطام ، وعذابات تلك الحرب الملعونة …
لعقنا جراحنا ، ومسحنا دموع ثكلانا ، واراملنا ، ولم ننسى دموعنا ، واخرجنا من داخل المشرحة الجثث المجمدة حيث ترقد بلا اسماء … اعدنا لهم اسمائهم ، وارقدناهم في مستقرهم الابدي بسلام … وزرنا قبور ضحايانا المساكين الذين رحلوا في عمر الزهور ، وتمنينا السلام لهم الذي فقدوه في الدنيا ان يعم ارواحهم في دار الخلود … رحلوا وخسروا تلك الارواح الغالية لا لذنب اقترفوه ، وانما من جنون ، وغرور لبس من اعطته الصدفة ، والمقادير القرار … ندهنا على احلامنا المخنوقة ان تستيقظ ، وتعود لتتجلى لنا في نومنا المستكين ، وتترك الاحبة يلعبون ، ويتقافزون في ساحاتها يستعيدون الفرح ، والمرح الذي كان .. بانتظار الامل أن يولد من جديد … !
غادرت الحرب ، ولم يبقى منها الا آثارها … كان الناس يمشون في الطرقات كأنهم موتى نهضوا تواً من قبورهم ، وعادوا مجبرين الى شقاء الدنيا ثانية ، وعذابها في كون مختل … نظرة حزن ، وضياع تمرح في عيونهم المتعبة … اي احساس بالحزن ، والمرارة هذا ؟
من بعيد .. أرى زكي او شبح زكي قادما يكلم نفسه .. غارقاً في وشوشة ، وهمس الجنون .. مناجياً عالمه الذي كان .. قبل الضياع ، والتوهان .. تعابثه الخيالات ، والاحزان الغامضة .. ولا ادري من اين هو قادم ، فهو قد فقد السيطرة على نفسه ، وضيعها ولا يُعرف له اتجاه … يترك كامل الحرية لسيقانه التي تزداد نحولا ، وضعفاً يوما بعد يوم ، ونفسيته تتعب ، وتقترب أكثر فأكثر من الجنون المطبق … كان شابا رائعا ، مرحاً مسالما لم يؤذي حتى نملة … مقبل على الحياة كما كانت الحياة كريمة معه ، وأقبلت عليه … كان كل شئ يشع بالخير ، والهدوء حتى قامت تلك الحرب العبثية التي اطلقوا عليها اسما عنصريا من غياهب التاريخ الغابر …
دخل الحرب دون ان يمسك يوما سكيناً في حياته ، ولم يتخاصم او يتشاجر مع احد ، ولم يذبح دجاجة ، فكيف بخندق ، ومتاريس ، وآلات الدمار باشكالها ، وانواعها … يتطاحن بها مجانين هذا الزمان ، وكل زمان … لم يدري ماذا يفعل ، وهو الذي لم يستطع السيطرة على رعشات سيقانه التي لم تعد تستطيع حمل جسده الضئيل ، الذي انتفض هولاً من الفضائع التي يراها امامه …
لم يطلق رصاصة واحدة … لم يدري على من يطلقها ، ولماذا … اي جنون هذا ، واي سخرية ، واي سخف … كانت من اشرس المعارك … اشتركت فيها الطائرات ، والمدافع ، والصواريخ تلقي بحممها ، وجحيمها دون مراعاة او اهتمام للبشر المحصورين بين نيرانها من الطرفين … لا تشتم الا رائحة البارود ، وحرق الاجساد ، والكراهية التي لا معنى لها ، ولا ترى الا تقطيع الاوصال ، ولا تسمع الا صراخ ، وأناة الجرحى ، والمصابين … جثث كفّنها العدم كانت مبعثرة كأنها لاشئ ، واخرى مطمورة تحت التراب … مأدبة وحشية عبثية ، ومجانية للفناء … جحيماً على الارض سابق لاوانه … أي خَبل هذا ، وأي لعنة ؟
لا احد يتوقع ما الذي دفع بهذا الفتى الطيب الى حاله هذه … بشكل مفاجئ ، وليس على موعد .. شاهد بالقرب منه رأساً مقطوعاً مخضب بالدماء من اشلاء جندي شاب … صرخ زكي مفزوعاً … خلعت قلبه من مستقره حتى تردى في هاوية سحيقة … تلك الصدمة المفاجأة اللامتوقعة … هزت كيانه ، وقلبت حياته الى جحيم … عاجل نفسه فافرغ بكل ما في جوفه من بقايا طعام … حاول ان يتنفس فلم يجد هواءً ، شعر بانه يزفر آخر انفاسه … ظل يصرخ كأنه قد عاد طفلا ، وربما تمنى في تلك اللحظة ان يعود الى رحم أمه … فهو المكان الامن الوحيد في هذا العالم المجنون التافه … وهكذا لم تستكين له نفس ، ولم يغمض له جفن منذ تلك اللحظة المشؤومة … كان يهرب من النوم هروب الشاة من الذئب … فان تغلب عليه الكرى تستقبله الكوابيس فيهب مفزوعا يتصبب عرقاً ، واحياناً يصرخ متذكرا ذلك الرأس المقطوع ، وكأنه ينام في حجره في تلك اللحظة … ثمة موت يدركك ، وانت حي ، فكان زكي هو الحي الميت !
هزل جسده حتى لم يبقى منه الا خيال … هام في الازقة ، والطرقات دونما هدف … ينام في اي مكان عندما يداهمه التعب ، ولا يعود الى البيت الا عندما يتذكر انه كان له بيتاً يوماً ما … او يأتي احد اخوته فيقوده الى البيت … يدخلونه الى الحمام ، وينظفون جسده او ما تبقى منه … يراقبونه ، ويمنعونه من الخروج خوفاً عليه … يقترب سريعاً من وهن النهاية المحتومة !
تُرى يا زكي … هل يمكن لك ان تتشبث بطاقة الحياة الضئيلة المتبقية لك ، وتؤجل مداهمة الموت الواقف دوماً على الابواب .. يذكرنا بالموعد .. ؟ … فالموت ، يا صديقي .. يأتي احياناً بلا تلميح او انذار … أرجوك تمسك بذلك الخيط الواهن ، ولا تتركه يفلت … كم نحن بأمس الحاجة اليك ، والى كل شاب على وشك ان يضيع امام اعيننا في زحمة هذا الترقب المخيف … ما اشد قسوة هذا الصمت الذي يسود كل شئ … ! روح زكي البريئة التهمها ذلك الصمت العنيد في طريقه الى الابد … انطفأت فيها شعلة الحياة التي لم يبقى لها اي معنى بعد ان فقدت اثمن ما فيها ، العقل … لقد بكاه الجميع ، واعتبروه آخر ضحايا الحرب ليضاف الى مئات الالوف الذين التهمهم العدم ، وذهبوا بالمجان ، وبدون اي ثمن ، ولم نحصد من ذلك الجنون … الا الهباء ، واللوعة ، والالم … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث