الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألا ما أفضع ألخيانة … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2021 / 1 / 8
الادب والفن


كان مكوما في زاوية منسية من احدى البنايات العالية ، يحتمي بظلها من اشعة الشمس الحارقة ، وحرارة الجو .. غائبا عن كل ما حوله .. عيناه غائرتان ، ووجهه الشاحب ، تداخلت فيه التجاعيد مع الشعيرات البيض ، وعلامات الزمن الفارقة الاخرى .. كان صورة باهتة من فُتات الذكرى التي لاتزال تجد لها حيزاً ، ولو ضئيلاً في ذاكرتي .. لا ادري ما الذي جذبني اليه .. ربما بدا وجهه مألوفاً لم يغادر ذاكرتي نهائياً .. اقبلتُ عليه بهدوء ، وعندما التقت عيوننا بدا من ردة فعله انه قد نسيني ، واكيد نسى اياماً قديمة كنا فيها زملاء في العمل ، نعم .. كانت المدة قصيرة ، ولم تكن تتعدى اشهراً قليلة ، حتى انتقلتُ الى مكان آخر ، ولكنها كانت كافية لتُرسّخه في ذهني … سمعت بعد ذلك انه وقع اسيراً لسنوات طويلة في ايران … !
لكن الذي اثار غريزة الفضول عندي الحالة المزرية التي رأيته عليها بعد ان كان شخصا محترماً .. ذكياً ، ومثقفاً .. ما الذي جرى لان ينحدر هذا الانحدار المهين ؟ القيت عليه التحية ، وحاولت ان اذكّره بنفسي .. لم يعرني أي اهتمام .. قال بصوت مختنق ، ودون مبالاة لوجودي :
هل اعرفك … ؟
اجبته مبتسماً : انا اعرفك …
بدا لي متضايقا من طريقتي في اقحام نفسي في خصوصياته .. واصلت تذكيره بما كان بيننا من زمالة عمل ، وسردت عليه بعض الوقائع التي لا تُنسى بسهولة ، وذكَّرته ببعض الزملاء الاخرين الذين لا تزال تحمل لهم نفسي شئ من ذكرى .. وتحت الحاحي رفع رأسه اخيراً ، وحدق طويلا في وجهي … كأنه يحاول ان يستحضرني في ذاكرته المجهدة ، فذهنه كان مشغولا في مكان آخر .. أطرقَ ثانية ، وقال ببرود :
تذكرتك … !
لم اكن متأكداً ما اذا كان فعلا قد تذكرني ام انه اراد ان يتخلص من الحاحي ، ويعود الى سلسلة افكاره ، وهمومه التي قطعتها بتدخلي هذا … !
جلستُ قُباله ، وسددت نظراتي المباشرة الى وجهه الذي يبدو انه لم يذق طعم النوم لايام ، اما ملابسه ان جاز لنا ان نسميها كذلك ، وهي بالخرق ، والاسمال أشبه .. لا أُخفي سراً .. انني أحسست أن يداً خفية تخترق أحشائي ، وتعصر قلبي حتى تدميه .. تألمت كثيراً ، وخفت أكثر لانني لم أكن اتصور ان الانسان بهذا الضعف ، وبهذه الهشاشة ، ويمكن ان ينهار في اية لحظة مثل هذا الانهيار الكارثي ، بسبب مشكلة أو مصيبة مهما كانت .. لكني سرعان ما تراجعت عن هذا التصور المتسرع قبل ان اعرف سر هذا الرجل … !
هكذا كانت عجلة تفكيري تعمل بسرعة .. ضربت في مخيلتي بتخيلات كثيرة كأن يكون قد تعرض الى كارثة مالية أو فقد حبيباً الى آخر ما توصل اليه خيالي الخصب من بلاوي يزدحم بها ألكون .. تكفي واحدة منها لتطيح بصاحبها ، وترديه الى هذا المصير ألمؤلم ، وربما أسوء …
تحدث بمرارة تنطق بها خلجات وجهه الشاحب ، وحركات يديه العصبية محاولا اخراج كل ما في داخله من انفعالات تبدو مريرة ، ثم قال بحماس غامر كأنه استعاد وجوده ، ووجودي :
- اسمع … كل ما تعلمناه من اهلنا ، وفي المدارس ، والحياة عبارة عن اكاذيب .. افتراء لا قيمة له .. كانوا يقولون لنا عن أشياء ، ويصفونها بانها صادقة ، وحقيقية ، وغيرها من الاوصاف الباذخة ، ولكن الواقع ، والتجربة اخبراني بان كل ما كانوا يقولونة كذب في كذب .. في الحقيقة لم نكن ندرس التاريح ، كنا ندرس اكاذيب … ! شخصياً لم اعد أؤمن بشئ ، ولم اعد أثق في أي شئ …
كلام يبدو جميلا ، وقد يُحسب فلسفيا لكنه عادي يكثر استهلاكه هذه الايام خاصة ممن جاءتهم الصحوة متأخرة ، وادركوا بعد طول انتظار .. ان بعض الوقائع التي كنا نعتبرها حقائق مطلقة ما هي الا أوهام .. ولما لاحظ شدة انتباهي استرسل متسائلا بحذر ، وبصوت بدا لي منكسراً ، وهائماً :
- ما رأيك في الخيانة … ؟
بدا الامتعاض على وجهه واضحاً ، وكأن الكلمة الاخيرة قد آلمته ، لعلها تُذكِّره بشئ حساس له صلة مباشرة بمصيبته ! أو ربما مرقت بالصدفة من ثقبٍ فُتح في جدار الذاكرة بالصدفة ، ودون ان يشعر .. ثم سرح بعيداً ، وكأنه كان عاجزاً عن ايقاف سيل الصور المؤلمة التي كانت تمر في ذاكرته في تلك اللحظة ، والتي لا فكرة لي عنها !
هذه هي الفكرة اذن … قلت في نفسي ! كأني ادركت بداية المشكلة ، ولب المأساة التي قذفت به الى هذا المصير المفجع .. لم ينتظر مني جواباً … واصل :
- ثلاث انواع منها هنَّ الاشد بغضاً لنفسي .. خيانة الوطن .. تخونه أو يخونك ، والزوجة عندما تخون ، والصديق عندما يغدر ، وقد يتعرض الواحد منا الى واحدة منها .. تكفي لتدميره ، اما من يتعرض الى اثنين ، فاكيد ستكون بهما نهايته .. ما رأيك يا صديقي .. ثم مستدركاً : هل تسمح لي بان اناديك بصديقي .. حركت راسي بسرعة ايجابا حتى لا اقطع تسلسل افكاره .. ثم نظرنا في وجوه بعضنا البعض ، كأننا نبحث عن سكينتنا القديمة … أكمل :
- ما رأيك بمن يتعرض للانواع الثلاثة ، ويبقى على قيد الحياة .. اذا كنتَ تعتبرني كذلك ، واذا كنتَ تعتبر حياتي حياة ؟ خيانة الزوجة مع الصديق الغادر ، وخيانة الوطن الذي القى بنا دون مبالاة في احضان من كانوا اعداء ، للذين ساقونا الى ذلك المصير الذي لم يكن لنا خيار فيه ! تصور … ثم ملحاً .. هل تستطيع ان تتصور حجم المأساة .. اين الوفاء ؟ اين الصداقة ؟ مجرد أوهام ، خرافة ما بعدها خرافة .. حتى الوطنية اصبحت مزيفة .. تباع ، وتشترى باثمان بخسة ! اين كل هذه التي كانت تسمى يوماً قيماً ، والتي لم تعد تحمل نفس الاسم ، والصفات اليوم .. مجرد اضافات لا قيمة لها .. مثل طبق أُعد بشكل سئ ، ووضع على مائدة شهية في وليمة ، لا يُغري احداً في ان يمد ملعقته ، ويتذوق ما فيه … !
- كنا نعيش احلام وطن .. نعيش فيه بسلام احراراً ، وبدون ظلم ، واذا بنا ندفع ثمناً غاليا لاحلامنا تلك .. سنين من الغربة ، والاسر ، والعذاب ، والضياع .. ما اصعب ان ترى الاحلام الكبرى ، وقد تحولت الى خدع كبرى … !!
- وفي النهاية .. ما انا .. الا الثور الغبي الذي يحدق في الفراغ ، وهو يمضغ زيف الحياة ، ويقلبه في فمه صعوداً ، ونزولا .. خسرتُ كل شئ في ضربة واحدة .. الزوجة ، والصديق ، والوطن الذي بت لا اعرفه ، ولا يعرفني ، اتتصور حجم الخسارة ، يا صديقي ، ولاصارحك لقد بت اكره هذه الكلمة المزيفة ، وكأنني اشتمك عندما ادعوك بياصديقي ، هل تتصور الى اين وصلنا ؟!! أحسست أنه كان يبذل جهداً اضافياً حتى يتماسك ، ويمنع نفسه من البكاء ! تابع :
- ما اصعب ان تعود ، وترى زوجتك التي لم تنساها لحظة واحدة ، وانت في جحيم الاسر .. في احضان اعز ، واقرب اصدقائك .. اتدرك معي حجم المفارقة ، والمأساة عندما يفقد الانسان ايمانه في كل شئ ! أسال نفسي دائماً ، ولا أزال .. ماذا نريد من الحياة لنتكالب عليها هذا التكالب ، فيسرق بعضنا البعض ، ويدمر بعضنا البعض .. مع العلم ان طلبنا منها بسيط للغاية : لحظة من النوم الهادئ لا تؤرقنا فيها الكوابيس ، هذا هو كل ما نريد ، هل هذا كثير … ؟! ( فجأةً ) أتدري ان في رأسي اشياء تجعله على وشك الانفجار … ! قالها عابساً ، وهو يعصر صدغيه بقوة … !
رغم ان قلبه كان كسيراً ، ومتألماً الا انه بدا لي سعيدا لانه وجد من يصغي الى مصيبته ، التي لا تحتاج الى عميق تفكير .. يكفيها ما قاله في مقدمة كلامه لتُفهم .. قد تبدو للبعض قصة عادية ، ومألوفة ، وقد تكون سخيفة عند البعض الآخر ، ولكن ليس مع من يقع في جحيمها .. بالتاكيد لا تُحتمل !
مع المي الذي لم استطع ان امنع خلجاته ان تنتشر بحرية على وجهي الذي بدا متخشباً .. هنأت نفسي انه ليس لي تجربة مثيرة ، ولا حكاية ، ولم اتعرض الى مثل ما تعرض له هذا المسكين .. فيكفيني ما انا فيه .. لم اتزوج لحد الان رغم تقدمي في العمر ، ولا نية لي في ذلك بعد ما سمعت ! لكني مع كل ذلك ، استطعت ان اشاركه تصور حجم المأساة الصعبة التي يعيشها !
توقف عن الحديث ، وكأنه ادرك ان ما قاله يكفي لكي افهم مشكلته .. ولم انجح في حمله على الكلام من جديد ، وتقديم المزيد من التفاصيل .. ثم
جررنا اقدامنا عبر الشوارع الخالية ، وهو يبدو سعيداً بصحبتي فقد جعلته يفضفض بما في دواخله من كرب ، وضيق ، والم .. كان يبدو لي مومياء تتحرك ، وكأنه يحاول عبثا ان يتمسك باهداب الحياة .. ثم ودعته ، وتركته الى فراغ حياته الممتد ، والعميق ، والمظلم … !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع